الإسراء والمعراج

الكتاب الثاني: وقائع السيرة النبوية
الباب الثاني: العهـد المكـي
الفصل العاشر: الإسراء والمعراج

     ضاقت الأرض برسول الله صلى الله عليه وسلم نظراً لما لاقاه من تكذيب ومقاومة من المشركين، وبعد أن فقد عمه أبا طالب الذي كان يؤنسه ويؤاوره، وفقد زوجته خديجة التي كانت نعم الزوج، وبزغت نجوم الأمل تتلمح في آفاق بعيدة بعد استماع الجن تلاوته واسلامهم، فرعاية الله له ظلت قائمة، وقد أكرمه الله تعالى بقدرة إلهية وآنسه بحادثة خارقة هي الإسراء والمعراج.

     والإسراء هي تلك الرحلة الأرضية، وذلك الانتقال العجيب، بالقياس إلى مألوف البشر، الذي تمَّ بقدرة الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال، يقول الله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} >(سورة الإسراء، الآية: 1). وأما المعراج فهو الرحلة السماوية والارتفاع والارتقاء من عالم الأرض إلى عالم السماء حيث سدرة المنتهى، ثم الرجوع بعد ذلك إلى المسجد الحرام، يقول الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (سورة النجم، الآيـات: 1 – 10) وقد حدثت هاتان الرحلتان في ليلة واحدة.

     وقد اختلف في تعيين زمن حادث الإسراء والمعراج على أقوال شتى‏، فقيل‏:‏ كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة، واختاره الطبري.‏ وقيل‏ كان بعد المبعث بخمس سنين، ورجح ذلك النووي والقرطبي، وقيل كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة.
وقيل قبل الهجرة بستة عشر شهرًا، أي في رمضان سنة 12 من النبوة‏.‏ وقيل قبل الهجرة بسنة وشهرين ، أي في المحرم سنة 13 من النبوة. وقيل قبل الهجرة بسنة، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة.

     وَرُدَّتِ الأقوالُ الثلاثة الأولى بأن خديجة رضي الله عنها توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس‏. ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كان ليلة الإسراء. أما الأقوال الثلاثة الباقية فلم نجد ما نرجح به واحدًا منها، غير أن سياق سورة الإسراء يدل على أن الإسراء جاء متأخراً جداً.

     كما أثير حول الإسراء والمعراج جدل طويل وتساؤلات عدة، فانقسم رأي العلماء والسلف إلى ثلاث، فمنهم من يقول أن الإسراء والمعراج كان بالروح، ومنهم من يقول كان بالجسد، ومنهم من يقول كان بالروح والجسد معاً، وهذا ما ذهب عليه معظم السلف والمسلمين. وأنهما كانا أثناء اليقظة وهذا هو الحق.

     قال أبو جعفر الطبري في تفسيره: الصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله حمله على البراق، حتى أتاه به، وصلى هناك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه ما أراه من الآيات.

     ولا معنى لقول من قال: أسري بروحه دون جسده، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن فيه ما يوجب أن يكون دليلاً على نبوته، و لا حجة له على رسالته، و لا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه، إذ لم يكن منكراً عندهم ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل.

     وبعد فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا بأنه أسرى بروح عبده، وليس جائزاً لأحد أن يتعدى ما قاله الله إلى غيره. بل الأدلة الواضحة، والأخبار المتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به على دابة يقال لها البراق، ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجساد.

     وعلى الرغم من أن الإسراء والمعراج حدثا في نفس الليلة، فإن موضعي ورودهما في القرآن الكريم لم يترادفا، بل ذكر الإسراء أولاً (في سورة الإسراء)، وتأخر الحديث عن المعراج إلى سورة النجم التي وضعت بعد سورة الإسراء (في ترتيب سور القرآن). وقد تكون الحكمة في هذا هي جعل الإسراء (وهو الرحلة الأرضية) مقدمة للإخبار بالمعراج، وهي الرحلة العلوية التي ذهل الناس عندما أخبروا بها، فارتد عن الإسلام وقتها ضعاف الإيمان، بينما ظل على الإيمان أقوياءه.

     عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُتيت بالبراق وهو دابة أبيضٌ طويلٌ فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة (حلقة معدنية بباب مسجد بيت المقدس) التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: (اخترت الفطرة)) (رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم).

     وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه حديث المعراج، قال: حدثنا هُدبة بن خالد حدثنا همام بن يحيى حدثنـا قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم ليلة أسري به قال: (بينما أنا في الحطيم (وربما قال في الحجر) مضطجعاً، إذ أتاني آت (جبريل عليه السلام) فقدَّ (قال: وسمعته يقول فشقَّ) ما بين هذه إلى هذه) فقلت للجارود وهو إلى جنبي: (ما يعني به؟) قال: (من ثغرة نحره (الموضع المنخفض في أدنى الرقبة من الأمام) إلى شعرته (شعر عانته وما ينبت حول العانة)) وسمعته يقول من قصته (رأس عظام الصدر) إلى شعرته (فاستخرج قلبي، ثم أُتيت بطست من ذهب مملوءَة إيماناً، ففُل قلبي، ثم حُشي ثم أُعيد، ثم أُتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض) فقال الجارود: (هو البُراق يا أبا حمزة؟) قال أنس: (نعم)، (يضع خطوة عند أقصى طرْفه (يضع رجله عند منتهى بصره)، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح (طلب فتح باب السماء)، فقيل: (من هذا؟) قال: (جبريل). قيل: (ومن معك؟) قال: (محمد) قيل: (وقد أرسل إليه؟) قال: (نعم). قيل: (مرحباً به، فنعم المجيء جاء) ففتح، فلما خلصت فإذا فيها آدم، فقال: (هذا أبوك آدم، فسلم عليه). فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: (مرحباً بالإبن الصالح والنبي الصالح). ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح. قيل: (من هذا؟) قال: (جبريل) قيل: (ومن معك؟) قال: (محمد). قيل: (وقد أرسل إليه؟) قال: (نعم). قيل: (مرحباً به، فنعم المجيء جاء). ففتح. فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة، قال: (هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما)، فسلمت، فردا، ثم قالا: (مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح). ثم صعد إلى السماء الثالثة فاستفتح. قيل: (من هذا؟) قال: (جبريل) قيل: (ومن معك؟) قال: (محمد). قيل: (وقد أرسل إليه؟) قال: (نعم). قيل: (مرحباً به، فنعم المجيء جاء). ففتح. فلما خلصت إذا يوسف، قال: (هذا يوسف فسلم عليه)، فسلمت عليه، فرد ثم قال: (مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح). ثم صعد إلى السماء الرابعة فاستفتح. قيل: (من هذا؟) قال: (جبريل) قيل: (ومن معك؟) قال: (محمد). قيل: (وقد أرسل إليه؟) قال: (نعم). قيل: (مرحباً به، فنعم المجيء جاء). ففتح. فلما خلصت فإذا إدريس، قال: (هذا إدريس فسلم عليه)، فسلمت عليه، فرد ثم قال: (مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح). ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح. قيل: (من هذا؟) قال: (جبريل) قيل: (ومن معك؟) قال: (محمد). قيل: (وقد أرسل إليه؟) قال: (نعم). قيل: (مرحباً به، فنعم المجيء جاء). ففتح. فلما خلصت فإذا هارون، قال: (هذا هارون فسلم عليه)، فسلمت عليه، فرد ثم قال: (مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح). ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح. قيل: (من هذا؟) قال: (جبريل) قيل: (ومن معك؟) قال: (محمد). قيل: (وقد أرسل إليه؟) قال: (نعم). قيل: (مرحباً به، فنعم المجيء جاء). ففتح. فلما خلصت فإذا موسى، قال: (هذا موسى فسلم عليه)، فسلمت عليه، فرد ثم قال: (مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح). فلما تجاوزت بكى، قيل له: (ما يبكيك؟) قال: (أبكي لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي). ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح. قيل: (من هذا؟) قال: (جبريل) قيل: (ومن معك؟) قال: (محمد). قيل: (وقد أرسل إليه؟) قال: (نعم). قيل: (مرحباً به، فنعم المجيء جاء). ففتح. فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: (هذا إبراهيم فسلم عليه)، فسلمت عليه، فرد ثم قال: (مرحباً بالإبن الصالح والنبي الصالح). ثم رفعت لي (قربت لي) سدرة فإذا نبقها (ثمر السدر) مثل قلال هجر (يضرب بها المثل لكبرها، وهجر قرية في البحرين والقلة هي الجرة الكبيرة) وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: (هذه سدرة المنتهى)، ثم غشيها فراش من ذهب، ونور وألوان، فتغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: (ما هذان يا جبريل؟) قال: (أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران، فالنيل والفرات). ثم رُفع لي البيت المعمور. وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون. ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها حبائل اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك. وعرج بي حتى ظهرت لمستوى يسمع فيه صَرِيف الأقلام. ثم أُتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: (هي الفطرة التي أُتيت عليها وأمتك)).

     وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة أموراً عديدةً منها:

     رأى مالكاً خازن النار، وهو لا يضحك، وليس على وجهه بشر ولا بشاشة، وكذلك رأى الجنة والنار.

     ورأى أكلة أموال اليتامى ظلماً لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون في أفواههم قطعاً من نار كالأفهار، فتخرج من أدبارهم.

     ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن أماكنهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطأونهم.

     ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب، إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين‏.

     ورأى النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن.

     ويستطرد النبي صلى الله عليه وسلم سرده: (ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم. فرجعت فمررت على موسى، فقال: (بما أمرت؟) قلت: (أمرت بخمسين صلاة كل يوم)، قال: (إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك)، فرجعت، فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى، فقال مثله. فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى، فقال مثله. فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى، فقال مثله. فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله. فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله. فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: (بما أمرت؟) قلت: (أمرت بخمس صلوات كل يوم). قال : (إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة. فأرجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك). قلت: (سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأُسَلِّم). فلما جاوزت نادى منادٍ: (أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي)) (رواه البخاري في مناقب الأنصار، باب في المعراج) .

     فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من رحلته الميمونة أخبر قومه بذلك فقال لهم في مجلس حضره المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة، فقال: (إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد، وصليت به الغداة، وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس، فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى وصليت بهم وكلمتهم) فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ به: (صفهم لي)، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما عيسى، ففوق الربعة، ودون الطول، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد، أشعر تعلوه صهبة(بياض بحمرة)، كأنه عروة بن مسعود الثقفي، وأما موسى فضخم آدم طوال، كأنه من رجال شنوءة، متراكب الأسنان، مقلص الشفة، خارج اللثة، عابس، وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي، خَلقاً وخُلقاً

     فقالوا: (يا محمد، فصف لنا بيت المقدس)، قال: (دخلت ليلاً، وخرجت ليـلاً) فأتاه جبريل بصورته في جناحه، فجعل يقول: (باب منه كذا، في موضع كذا، وباب منه كذا، في موضع كذا).

     ثم سألوه عن عيرهم فقال لهم: (أتيت على عير بني فلان بالروحاء، قد أضلوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك) قالوا: (هذه والإله آية).

     فواصل صلى الله عليه وسلم قائلاً: (ثم انتهيت إلى عير بني فلان، فنفرت مني الإبل وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق (عدل الذي يوضع فيه المتاع)، مخطط ببياض، لا أدري أكسر البعير، أم لا فاسألوهم عن ذلك) قالوا: (هذه والإله آية).

     فواصل صلى الله عليه وسلم قائلاً: (ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم، يقدمها جمل أورق (لونه أبيـض وفيه سواد) وهاهي تطلع عليكم من الثنية) (طريق جبلي)

     فقال الوليد بن المغيرة: (ساحر)، فانطلقوا فنظروا، فوجدوا الأمر كما قال، فرموه بالسحر، وقالوا: (صدق الوليد بن المغيرة فيما قال) (المطالب العالية للحافظ ابن حجر وعيون الأثر وابن هشام بلاغاً عن أم هانئ رضي الله عنها).

     كانت هذه الحادثة فتنة لبعض الناس فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وقالوا إنّ العير (ما جُلِبَ عليه الطَّعامُ من قوافل الإبل والبغالِ والحميرِ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ الْقَوَافِلِ) لتطرد شهراً من مكّة إلى الشام مدبرة، وشهراً مقبلة، إنّ هذا القول لا يصدّق أفيذهب محمّـدٌ ويرجع إلى مكّة في ليلة واحدة؟! وسعوا بذلك إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقالوا: (هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس وصلّى فيه ورجع إلى مكّة قبل أن يصبح)، فقال لهم‏ أبو بكر: (إنّكم تكذبون على رسول الله)، فقالوا: (بلى، ها هو محمّد في المسجد يحدّث الناس بما حدث معه)، فقال أبو بكر: (والله لئن كان قال هذا الكلام لقد صدق، فما العجب من ذلك! فوالله إنّه ليخبرني أنّ الخبر يأتيه من الله من السّماء إلى الأرض في ساعةٍ من ليلٍ أو نهار فأصدّقه، فهذا أبعد ممّا تعجبون منه).
     أقبل أبو بكر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: (يا رسول الله، أحدّثت القوم أنّك كنت في بيت المقدس هذه الليلة؟) قال الرّسول صلى الله عليه وسلم: (نعم)، قال: (يا رسول الله، صف لي ذلك المسجد، فإني قد جئته)، وأخذ الرّسول يصف ويحدّث أبا بكر عن بيت المقدس، فقال له أبو بكر: (أشهد أنّك رسول الله)، وكان يكرّرها كلّما وصف له شيئاً رآه. حتى إذا انتهى قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: (وأنت يا أبا بكر الصديق)، فيومئذ سماه الصديق.

     وقيل أن الله أنزل في من أرتد عن إسلامه لذلك؛ قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} (سورة الإسراء، الآيـة: 60)

 

                                                       

عن المدير