هـاشـم بـن عبـد منـاف

الكتاب الثاني: وقـائـع الـسـيـرة الـنـبـويـة
الباب الأول: أهـم الأحـداث التـاريخيـة مـن قبـل البعثـة حتـى نـزول الـوحـي
الفصل الثاني: العائلة النبوية
المبحث الثاني: هاشم بن عبد مَناف

     هو هاشم بن عبد مَناف بن قصيّ واسمه عَمْرو العُلى، وأمه عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. وهو الجد الثاني لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. عظم قدره بعد أبيه، وإليه يُنسب الهاشميون. وهو أول من سن رحلتي الشتاء والصيف لقريش، إلى متجرتي اليمن والشام. وكان هاشم إذا أهَلّ هلال ذي الحجّة يأمر الناسَ بالإجتماع إلى الكعبة، فإذا اجتمعوا قام خطيباً فقال: (معاشرَ الناس، إنّكم جيرانُ الله وجيران بيته، وإنّه سيأتيكم في هذا الموسم زوّار بيت الله، وهم أضياف الله، والأضياف هُم أولى بالكرامة، وقد خصّكم الله تعالى بهم وأكرمهم).

     وكان هاشم ينصب أحواض الأديم ويجعل فيها ماء من سائر الآبار حتّى يشرب الحُجّاج، وكان من عادته أنّه يُطعهم قبل التروية بيوم، وكان يحمل لهم الطعام إلى مِنى وعرفة، وكان يَثرِد لهم اللحم والسَّمن والتمر، ويستقيهم اللبن إلى حين يَصدُر الناس من مِنى، ثمّ يقطع عنهم الضيافة.

     كان يكسو العُريان، ويُطعم الجائع، ويُفرّج عن المُعسِر، ويُوفي عن المديون، ومَن أُصيب بدمٍ دَفَع عنه، وكان بابه لا يُغلَق عن صادرٍ ولا وارد. وقد تحدّث الناس بجوده في الآفاق، وسَوَّدَه أهل مكّة بأجمعهم وشرَّفوه وعظّموه، وسلّموا إليه مفاتيحَ الكعبة والسِّقاية والحجابة والرفادة، ومصادرَ أمور الناس ومواردها، وسلّموا إليه لواءَ نِزار وقوسَ إسماعيل عليه السلام وقميص إبراهيم عليه السلام ونعل شيث عليه السلام وخاتم نوحٍ عليه السلام، فلمّا احتوى على ذلك كلّه ظَهَر فخره ومجده، وكان يقوم بالحُجّاج ويرعاهم، ويتولّى أُمورَهم ويُكرمهم، فلا ينصرفون إلاّ شاكرين.

     ويحكى أنّه كان بأهل مكّة ضِيق وجَدب وغلاء، ولم يكن عندهم ما يُزوّدون به الحُجّاج، فبعث هاشم إلى نحو الشام أباعرَ فباعها واشترى بأثمانها كعكاً وزيتاً، ولم يترك عنده مِن ذلك قُوتَ يومٍ واحد، بل بذل ذلك كلَّه لقومه وللحجاجّ فكفاهم جميعَهم، وصدر الناس يشكرونه في الآفاق، وفيه يقول الشاعر مطرود بن كعب الخزاعي:

                  يا أيُّهـــا الرجــلُ المُجِــــدُّ رحيلَـــهُ     هـلاّ مـررتَ بِـدارِ عـبـدِ مَـنـافِ ؟!
                  ثَكلَتْـكَ أمُّـك لـو مَــرَرتَ بِبابِهِـــم     لَعَجِبتَ مِن كرمٍ و مـن أوصـافِ !
                  عَمْــرُو العُلى هَشَـم الثريـدَ لقومِـــهِ     و الـقـــومُ فيهــا مُسْنِتـــونَ عِجـــافِ
                  بَسَطــوا إليـه الـرحلتَيـــنِ كلَبهِمــــا     عنـدَ الشتــاء و رحـلــةِ الأصـيـــافِ

زواج هـاشـم مـن سلمـى:

     عزمَ هاشم للسفر إلى يثرب، وخرج معه أصحابه بأسلحتهم وأخرج معه العبيد يقودون الخيل والجمال وعليها أحمال الأديم، وعند خروجه نادى في أهل مكة فخرج معه السادات والأكابر والنساء لتوديعه فأمرهم بالرجوع إلى مكة، وسار هو وبنو عمه وأخوه المطلب إلى يثرب طالبين خطبة سلمى فلما وصلوا المدينة يثرب أشرق بنور رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوادي من جبهة هاشم حتى دخل النور بيوت المدينة. فلما رآهم أهل يثرب بادروا إليهم مسرعين وقالوا: (من أنتم؟) فقال لهم المطَّلب: (نحن أهل بيت الله وسكان حرم الله، نحن بنو بن غالب وهذا أخونا هاشم بن عبد مناف، وقد جئناكم خاطبين وفيكم راغبين، وقد علمتم إن أخانا هذا خطبته الملوك والأكابر فما رغب إلا فيكم، ونحب إن ترشدونا إلى سلمى)، وكان أبوها واقفاً مع الناس يسمع الخطاب فقال لهم: (مرحباً بكم، أنتم أرباب الشرف والمفاخر، والعِزِّ والمآثر، والساداتُ الكرام، المطعمون الطعام، ونهايةُ الجود والإكرام، ولكم عندنا ما تطلبون).

     فنزل هاشم وأخوه وأصحابه وحطوا رحالهم وساق أبو سلمى عمرو إلى قومه ونحر لهم النحائر وأصلح لهم الطعام وخرجت لهم العبيد بالأجفان فأكل القوم منه حسب الحاجة ولم يبق من أهل يثرب أحد إلا خرج ينظر إلى هاشم ونور وجهه ولما سمعت سلمى كلام أبيها عمّا أرداه هاشم بادرت بالموافقة على استحياء كبير لما كانت تحمله من عفّة وحياء وجمال.

     قام هاشم بإحضار المال ودفعه إلى أخيه المطلب وأمره أن يدفع المال إلى سلمى، فلما جاءها المطلب فرحت به وبذلك المال، وقالت: (يا سيد الحرم وخير من مشى على قدم، سلم لي على أخيك وقل له ما الرغبة إلا فيك، فأحفظ منا ما حفظنا منك)، ثم قام هاشم أياماً ودخل على زوجته سلمى في مدينة يثرب وحضر عرسها الحاضر والبادي من جميع الآفاق، فلما دخل بها رأى ما سره من الحسن والجمال والهيبة والكمال، ثم أنها حملت منه في ليلتها بعبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سفـر هـاشـم إلـى الشـام ووفـاتـه فـي غـزة :

     ثمّ إنّ هاشماً أقام في المدينة أيّاماً حتّى اشتهر حملُ سلمى، فنوى السفر إلى غزة الشام. وقبل خروجه، أقبل على أخيه المطّلب وأصحابه وقال لهم: (يا بَني أبي،
وعشيرتي من بني لويّ، إنّ الموت سبيلٌ لا بدّ منه، وأنا غائب عنكم و لا أدري أنّي أرجع إليكم أم لا، وأنا أُوصيكم: إيّاكُم والتفرّقَ والشَّتات، فتذَهبَ حميّتُكم، وتقلَّ قيمتُكم، ويهونَ قَدْرُكم عند الملوك، ويَطمعَ فيكم الطامع. وإنّي أُوصيكم بولدي الذي اشتملت عليه سلمى، فإنّه سيكون له شأنٌ عظيم، لا تخالفوا قولي)، قالوا: (سَمِعنا وأطَعنا، غيرَ أنّك كسرتَ قلوبَنا بوصيّتك).

     وسافر هاشم إلى غزة الشام وهي مدينة من مدن فلسطين، في بلاد الشام فلما وصلها حضر موسمها، وباع أمتعته واشترى ما كان يصلح له، واشترى لسلمى طرفاً وتحفاً وتجهز للسفر والعودة إلى يثرب، فلما كانت الليلة التي عزم فيها على الرحيل طرقته حوادث الزمان، واتته العلة فأصبح مثقلاً فارتحل رفقاؤه وبقي هاشم وعبيده وأصحابه، فقال لهم هاشم الحقوا بأصحابكم فأني هالك لا محال. فأرجعوا إلى مكة وإن مررتم على يثرب فأقرأوا زوجتي سلمى عني السلام واخبروها بخبري وعزوها بشخصي وأوصوها بولدي فهو أكبر همي). فبكى القوم وقالوا: (ما نبرح عنك حتى ننظر من أمرك)، فأشتد به المرض وطلب من أصحابه أن يحضروا له دواة وقرطاس فأتوه بما طلب فكتب: (بسمك اللهم هذا كتاب كتبه عبد ذليل جاءه أمر مولاه بالرحيل، أما بعد فأني كتبت إليكم هذا الكتاب وروحي بالموت تتجاذب، فأنه ليس لأحد من الموت مهرب، وإني قد أنفذت إليكم أموالي فقسموها بينكم بالسوية، ولا تنسوا البعيدة عنكم التي أخذت نوركم وحوت عزكم سلمى، وأوصيكم بولدي الذي منها، وقولوا لبناتي صفية ورقية وخلادة يبكين علي ويندبني، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إلى يوم النشور).

     ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى أصحابه ثم قال أضجعوني فأضجعوه فشخص ببصره نحو السماء قال: (رفقاً أيها الرسول بحق ما حملت من نور المصطفى)، ثم أنه هدأ وكأنّه كان مصباحاً فانطفى، ولما مات جهزوه ودفنوه في غزّة وقبره معروف هناك وهو موضع احترام الناس إلى الوقت الحاضر.

     ثمّ عزم عبيده وغلمانه على الرحيل بأمواله. وساروا حتّى أشرفوا على يثرب، فبكوا بكاءً شديداً ونادَوا: (وا هاشماه، وا عِزّاه!) فخرج الناس، وخرجت سلمى وأبوها وعشيرتها، فنظروا فإذا بِخَيل هاشم قد جَزُّوا نواصيها وشعورها، وعَبيدُ هاشم يبكون، فلمّا سمعت سلمى بوفاة هاشم لطمت خدَّها وقالت: (وا هاشماه! مات واللهِ لفقدِك الكرم).

     ثمّ إنّ العبيد والغلمان ساروا إلى مكّة، وقد سبقهم الناعي إلى أولاد هاشم وعياله، فأكثَرَ أهل مكّة البكاء والنحيب وكان آخر من رثاه من بناته رقيّة، فإنّها جعلت تندب وتقول:
                  عيــنُ جُـودي بالبُكـــا والعَـويـلِ     لأخِ الفضلِ والسَّخـاءِ الفَضيـلِ
                  طَيّبِ الأصـلِ في العزيمـةِ ماضٍ     سَمْهَــريٍّ فـي النـائـبـاتِ أصيــلِ

 

                                                       

عن المدير