حالة العرب الخلقية

الكتاب الثاني: وقـائـع الـسـيـرة الـنـبـويـة
الباب الأول: أهـم الأحـداث التـاريخيـة مـن قبـل البعثـة حتـى نـزول الـوحـي
الفصل الأول : العالم قبل البعثة النبوية و أثناءها
المبحث الثاني : أحوال الأقوام العربية قبل البعثة النبوية
المطلب العاشر : حالة العرب الخلقية

الدنايا و الرذائل :

     ساءت أخلاق العرب، فأولعوا بالخمر والقمار، وبلغت بهم القساوة والحميّة المزعومة إلى وأد البنات، وشاعـت فيهم الغارات، وقطع الطّرق على القوافل، والعصبية والظلم، وسفك الدماء، والأخذ بالثأر، واغتصاب الأموال، وأكل مال اليتامى، والتعامل بالربا، والسرقة والزنا وسقطت منزلة المرأة، فكانت تورث كما يورث المتاع أو الدابّة، ومن المأكولات ما هو خاصّ بالذكور، محرّم على الإناث، وكان يسوغ للرجل أن يتزوّج ما يشاء من النّساء من غير تحديد.

     وكانت العصبية القبليّة والدمويّة شديدة جامحة، وأغرموا بالحرب، حتى صارت مسلاة لهم وملهى وهواية، ينتهزون للتسلية وقضاء هوى النّفس نشوب حرب لها مسوّغ، أو لا مسوّغ لها، يدلّ على ذك ما قاله الشاعر الجاهليّ الرقّاد بن المنذر بن ضرار الضبّي:
                 إذا المهـرة الشّقـراء أدرك ظهـرهـا                 فشبّ الإلـه الحرب بيـن القبـائـل
                 وأوقــد نـــاراً بـيـنـهـــم بضـرامـهـا                 لـهـا وهـج للمصطـلـي غـيـر طـائـل

     ويقول عمير التّغلبيّ المعروف بالقطامي، وهو يعبّر عن رغبة أهل الجاهلية في القتال، وتحيّن الفرص له:
                 و أحـيـانـاً عـلـى بـكـر أخـيـنـا                 إذا مـا لـم نـجـد إلاّ أخـانـا

     وهانت عليهم إراقة الدّماء، فتثيرها حادثة تافهة، وتدوم الحرب أربعين سنة، يقتل فيها ألوف من الناس.

     أمّا من جهة الأخلاق، فكانت فيهم أدواء وأمراض متأصّلة، وأسبابها فاشية.

     فكان شرب الخمر واسع الشّيوع، شديد الرّسوخ فيهم، تحدّث عن معاقرتهم والإجتماع على شربها الشعراء، وشغلت جانباً كبيراً من شعرهم وتاريخهم وأدبهم، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم، وكثر فيها التدقيق والتفصيل كثرة تدعو إلى العجب، وكانت حوانيت الخمّارين مفتوحة دائماً يرفرف عليها علم يسمّى غاية.

     قال لبيد بن ربيعة العامري:
                 قـد بـتّ سـامـرهـا وغـايـة تـاجـر                 وافـيـت إذ رفـعـت وعـزّ مـدامـهـا

     وكان من شيوع تجارة الخمر أن أصبحت كلمة التّجارة مرادفة لبيع الخمر، كما قال لبيد: وغاية تاجر.

     وقال عمرو بن قميئة:
                 إذا أسـحـب الـرّيـط والمـروط إلـى                 أدنـى تـجـاري وأنـفـض اللّـمـمـا

     والرّيط جمع رّيطة: وهو كلّ ثوب لم يلفّق (بِآخر) كالرّداء، والمروط، جمع مرط وهو كساء خزّ معلم الطّرفين، أو ملحفة يؤتزر بها، أما اللّمم، جمع لّمّة وهي الشعرة التي تلمّ بالمنكب.

     وكان القمار من مفاخر الحياة الجاهليّة، قال الشاعر الجاهليّ:
                 أعـيّـرتـنـا ألـبـانـهـا ولـحـومـهـا                 وذلـك عـار يا بـن ريـطـة ظـاهـر
                 نـحـابـي بهـا أكفـاءنــا ونهينهـا                 ونـشـرب فـي أثـمــانـهـا ونـقـامــر

     وكان عدم المشاركة في مجالس القمار عار. يقول الشاعر:
                 وإذا هـلـكـت فـلا تـريـدي عـاجـزاً                 غـسّـاً ولا بـرمـاً ولا مـعـزالاً

     قال قتادة: كان الرّجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله، فيقعد حزيناً سليباً، ينظر إلى ماله في يد غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضاً.

     وكان أهل الحجاز: العرب واليهود، يتعاطون الرّبا، وكان فاشياً فيهم، وكانوا يجحفون فيه، ويبلغون إلى حدّ الغلوّ والقسوة، قال الطّبريّ: (كان الرّبا في الجاهلية في التضعيف وفي السّنين، يكون للرجل فضل دين، فيأتيه إذا حلّ الأجل، فيقول له: (تقضيني أو تزيدني؟) فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلاّ حوّله إلى السّنة التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض (ولد النّاقة الذي دخل في السنة الثانية، والأنثى بنت مخاض) يجعلها ابنة لبون (ولد الناقة إذا استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة، سمِّيَ بذلك لأنّ أمّه ولدت غيره فصار لها لبن) في السنة الثانية، ثم حقّة (ما دخل في السنة الرابعة، وأمكن ركوبه والحمل عليه، وسمّي بذلك لأنّه استحقّ الركوب والتحميل)، ثم جذعة (هو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمعز ما دخل في السنة الثانية، وقيل: البقر في الثالثة أو من الضّأن ما تمّت له سنة)، ثم رباعياً (هو الذي يلغي رباعيته، (والرّباعية: السّنّ بين الثنية والنّاب) الإبل يربع في السنة السابعة، والبقر والخيل في الخامسة، والغنم في السنة الرابعة)، وهكذا إلى فوق.

     وفي العين (الذهب) يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، وإن لم يكن عنده أضعفه أيضاً، فتكون مئة، فيجعلها إلى القابل مئتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمئة يضعفها له كلّ سنة أو يقضيه.

     وقد رسخ الرّبا فيهم، وجرى منهم مجرى الأمور الطبيعية التي صاروا لا يفرّقون بينه وبين التّجارة الطبيعية، وقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} (سورة البقرة، الآيـة: 275).

     وقال الطّبري: (إنّ الذين كانوا يأكلون الرّبا من أهل الجاهلية، كان إذا حلّ مال أحدهم على غريمه، يقول الغريم لغريم الحقّ: (زدني في الأجل وأزيدك في مالك)، فكان يقال لهما إذا فعلاً ذلك: (هذا ربا لا يحلّ)، فإذا قيل لهما ذلك، قالا: (سواء علينا زدنا في أوّل البيع أو عند محلّ المال).

     ولم يكن الزّنى نادراً، وكان غير مستنكر استنكاراً شديداً، فكان من العادات أن يتّخذ الرجل خليلات، وتتّخذ النساء أخلاّء بدون عقد، وقد كانوا يكرهون بعض النساء على الزّنى.

     قال ابن عبّاس: (كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزّنى يأخذون أجورهم)، ومما ينبغي أن يعلم أن الزنا إنما كان في الإماء وأصحاب الرايات من البغايا، ويندر أن يكون في الحرائر، وليس أدل على هذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ البيعة على النساء بعد الفتح على أن لا يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن، ولا يزنين، قالت السيدة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان: (أَوَ تزني الحرة؟!!).

     وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف، تؤكل حقوقها، وتبتزّ أموالها، وتحرم إرثها، وتعضل بعد الطّلاق، أو وفاة الزّوج من أن تنكح زوجاً ترضاه، قال تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } (سورة البقرة، الآيـة: 232). وكانت تورث كما يورث المتاع أو الدّابة. قال تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ } (سورة النساء، الآيـة: 19).

     وقد بلغت كراهة البنات إلى حدّ الوأد، ذكر الهيثم بن عديّ، على ما حكاه عنه الميدانيّ، أنّ الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطبة، فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة، فجاء الإسلام، وكانت مذاهب العرب مختلفة في وأد الأولاد، منهم من كان يئد البنات لمزيد الغيرة، ومخافة لحوق العار بهم من أجلهنّ، ومنهم من كان يئد من البنات من كانت زرقاء أو شيماء (سوداء) أو برشاء (برصاء) أو كسحاء (عرجاء) تشاؤماً منهم بهذه الصّفات.

     وكانوا يقتلون البنات، ويئدونهنّ بقسوة نادرة في بعض الأحيان، فقد يتأخّر وأد الموءودة لسفر الوالد أو شغله، فلا يئدها إلاّ وقد كبرت، وصارت تعقل، وقد حكوا في ذلك عن أنفسهم مبكيات، وقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق.

     ومنهم من كان يقتل أولاده خشية الإنفاق وخوف الفقر، وهم الفقراء من بعض قبائل العرب، فكان يشتريهم بعض سراة العرب وأشرافهم، فصعصعة ابن ناجية يقول: (جاء الإسلام وقد فديت ثلاثمئة موءودة).

     ومنهم من كان ينذر، إذا بلغ بنوه عشرة، نحر واحد منهم، كما فعل عبد المطّلب.

     ومنهم من يقول: (الملائكة بنات الله) سبحانه عمّا يقولون، فألحقوا البنات به تعالى.

الأخلاق الفاضلة:

1 – الكرم:

     كان هذا الخُلُق متأصلاً في العرب، وكان الواحد منهم لا يكون عنده إلا فرسه، أو ناقته، فيأتيه الضيف، فيسارع إلى ذبحها، أو نحرها له، وكان بعضهم لا يكتفي بإطعام الإنسان بل كان يطعم الوحش، والطير، وكرم حاتم الطائي سارت به الركبان، وضربت به الأمثال. وكان العرب يتبارون في ذلك ويفتخرون به، وقد استنفدوا فيه نصف أشعارهم بين ممتدح به ومُثْنٍ على غيره، ومن آثار كرمهم أنهم كانوا يتحملون الديات الهائلة والحمالات المدهشة، يكفون بذلك سفك الدماء، وضياع الإنسان، ويمتدحون بها مفتخرين على غيرهم من الرؤساء والسادات.

     وكان من نتائج كرمهم أنهم كانوا يتمدحون بشرب الخمور، لا لأنها مفخرة في ذاتها؛ بل لأنها سبيل من سبل الكرم، ومما يسهل السَّرَف على النفس، ولأجل ذلك كانوا يسمون شَجَرَ العنب بالكَرْم، وخَمْرَه بِبِنْتِ الكرم. وإذا نظرت إلى دواوين أشعارالجاهلية تجد ذلك باباً من أبواب المديح والفخر، يقول عنترة بن شداد العبسي في معلقته:

                 ولقد شَرِبْتُ من المُدَامَـة بَعْـدَ مـا                 رَكَـد الـهَـواجِـرُ بالمَـشُـوفِ المُـعْـلِـم
                 بـزُجَـاجَـةٍ صَــفْــراء ذات أسِــرَّة                 قُــرنَـتْ بـأزهــرَ بالـشِّـمَــال مُـفَـدَّمِ
                 فـإذا شَـرِبـتُ فـإننـى مُـسْـتَـهْـلِـك                 مـالــي وعِـرْضِــي وافِــرٌ لـم يُكْلَــمِ
                 وإذا صَحَـوْتُ فما أُقَصِّـرُ عن نَـدَى                 وكمــا عَلمت شمـائــلــي وَتَـكَــرُّمِــي

     ومن نتائج كرمهم اشتغالهم بالميسر، فإنهم كانوا يرون أنه سبيل من سبل الكرم؛ لأنهم كانوا يطعمون المساكين ما ربحوه أو ما كان يفضل عن سهام الرابحين؛ ولذلك ترى القرآن لا ينكر نفع الخمر والميسر وإنما يقول: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (سورة البقرة، الآيـة: 219).

2 ـ الوفاء بالعهد :

     قال النعمان بن المنذر لكسرى في وفاء العرب: (وإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماء فهي وَلث (الوعد الضعيف) وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عوداً من الأرض فيكون رهناً بدينه فلا يُغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به، وعسى أن يكون نائياً عن داره، فيصاب، فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وأنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله) (بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، لمحمود شكري الألوسي البغدادي).

     والوفاء خلق متأصل بالعرب، فجاء الإسلام ووجهه الوجهة السليمة، فغلظ على من آوى محدثاً مهما كانت منزلته وقرابته، قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من آوى محدثاً) (رواه مسلم في كتاب الأضاحي).

     ومن القصص الدالة على وفائهم أن الحارث بن عباد قاد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم المهلهل الذي قتل ولد الحارث، وقال: (بؤ بشسع نعل كليب) (وهذا إمعان في التحقير، بمعنى مُت نظيرَ شِسع نعل كليب لا نظير كليب، والشسع سير في النعل يشد على القدم) في حرب البسوس، فأسر الحارث مهلهلاً وهو لا يعرفه، فقال: (دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك)، فقال له: (عليك العهد بذلك إن دللتك عليه)، قال: (نعم) قال: (فأنا هو)، فجز ناصيته وتركه؛ وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار. ومن وفائهم أن النعمان بن المنذر خاف على نفسه من كسرى لما منعه من تزويج ابنته فأودع أسلحته وحرمه إلى هانئ بن مـسعود الشيباني، ورحل إلى كسرى فبطش به، ثم أرسل إلى هانئ يطلب منه ودائع النعمان، فأبى، فسير إليه كسرى جيشاً لقتاله فجمع هانئ قومه آل بكر وخطب فيهم فقال: (يا معشر بكر، هالك معذور، خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من قدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر قاتلوا فما للمنايا من بد) (تاريخ الطبري عن يوم ذي قار)، واستطاع بنو بكر أن يهزموا الفرس في موقعة ذي قار، بسبب هذا الرجل الذي احتقر حياة الصغار والمهانة، ولم يبال بالموت في سبيل الوفاء بالعهود.

3 – حبهـم للصـراحـة والـوضـوح والصـدق:

     كانوا يأنفون من الكذب ويعيبونه، وكانوا أهل وفاء، ولهذا كانت الشهادة باللسان كافية للدخول في الإسلام، ويدل على أنفتهم من الكذب قصة أبي سفيان مع هرقل لما سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الحروب بينهم قائمة قال: (لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه) (صحيح البخاري في كتاب بدء الوحي).

4 ـ أهـل شجـاعـة ومـروءة ونجـدة:

     كانوا يتمادحون بالموت قتلاً، ويتهاجون بالموت على الفراش وقال السموأل بن عادياء:
                 ومــا مـات مـنـا سيــد حـتـف أنـفـه                 ولا طُـلّ مـنـا حـيـث كـان قتيــل
                 تـسـيـل عـلـى حـد الـظـبـاة نـفـوسـنـا                 وليسـت عـلـى غـيـر الـظـبـاة تسيـل

     وكان العرب لا يقدمون شيئاً على العز وصيانة العرض، وحماية الحريم، واسترخصوا في سبيل ذلك نفوسهم قال عنترة:
                 بَكَـرَت تخوفنـي الحُتـوف كأننـي                 أصبحت عن غرض الحتوف بمعزلِ
                 فـأجـبـتـهــا إن الـمـنـيــة مـنـهــل                 لا بــد أن أُسْـقـى بـكـأس الـمـنـهـلِ
                 فـأقنـي حياءك لا أبا لك واعلمـي                 أنــي امــرؤ سـأمـوت إن لــم أقـتــل

     وقال عنترة:
                 لا تسقنـي مـاء الـحـيـاة بـذلـة                 بـل فاسقني بالعز كأس الحنظـل
                 مـاء الحـيـاة بـذلـة كـجـهـنـم                 وجـهـنــم بالـعــز أطـيـب مـنــزل

     وكان العرب بفطرتهم أصحاب شهامة ومروءة، فكانوا يأبون أن ينتهز القوي الضعيف، أو العاجز، أو المرأة أو الشيخ، وكانوا إذا استنجد بهم أحد أنجدوه ويرون من النذالة التخلي عمن لجأ إليهم.

5 – عشقهم للحرية ، وإباؤهم للضيم والذل:

     كان العربي بفطرته يعشق الحرية، يحيا لها، ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقاً لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلاً، أو يمس في شرفه وعرضه ولو كلفه ذلك حياته، فقد كانوا يأنفون من الذل ويأبون الضيم والإستصغار والإحتقار، وإليك مثال على ذلك: (جلس عمرو بن هند ملك الحيرة لندمائه وسألهم: (هل تعلمون أحداً من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟) قالوا: (نعم، أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك).

     فدعا الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعا أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو بن كلثوم بعد الطعام: (ناوليني الطبق الذي بجانبك)، فلما جاءت قالت لهـا ذلك، فقالت: (لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها)، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: (وا ذلاه يا لتغلب). فسمعهـا ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفاً للملك معلقاً بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب، وانتهبوا ما في الرواق، ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلاً:
                 بـأي مـشيـئـة عـمـرو بـن هـنـد                 نـكـون لقيلكـم فيهـا قـطينـا
                 بـأي مـشيـئـة عـمـرو بـن هـنـد                 تطيـع بنا الوشـاة وتـزدريـنــا
                 تــهــددنــا وتــوعــدنـــا رويـــداً                 متـى كنـا لأمـك مـقـتـوينــا
                 إذا ما الملك سام الناس خسفـاً                 أبـيـنـا أن نـقـر الــذل فـيـنــا

     و القيـل : هـو الملك دون الملك الأعظم، والقطين: هم الخدم، ومقتوينا: هي خدمة الملوك.

6 ـ المضـي فـي العـزائـم:

     فإذا عزموا على شيء يرون فيه المجد والإفتخار، لا يصرفهم عنه صارف، بل كانوا يخاطرون بأنفسهم في سبيله.

7 ـ الحلـم، والأنـاة، والتـؤدة:

     كانوا يتمدحون بها إلا أنها كانت فيهم عزيزة الوجود؛ لفرط شجاعتهم وسرعة إقدامهم على القتال.

8 ـ السـذاجة البـدويـة، وعـدم التلـوث بلـوثـات الحضـارة ومكـائـدهـا:

     وكان من نتائجها الصدق والأمانة، والنفور عن الخداع والغدر.

9 – الصبـر علـى المكـاره وقـوة الإحتمـال، والـرضـا باليسيـر:

     كانوا يقومون من الأكل ويقولون: (البطنة تذهب الفطنة) ويعيبون الرجل الأكول الجشع، قال شاعرهم:
                 إذا مـدت الأيـدي إلـى الـزاد لـم أكـن                 بأعجلهـم إذا أجـشـع الـقـوم أعجـل

     وكانت لهم قدرة عجيبة على تحمل المكاره والصبر في الشدائد، وربما اكتسبوا ذلك من طبيعة بلادهم الصحراوية الجافة، قليلة الزرع والماء، فألفوا اقتحام الجبال الوعرة، والسير في حر الظهيرة، ولم يتأثروا بالحر ولا بالبرد، ولا وعورة الطريق، ولا بعد المسافة، ولا الجوع، ولا الظمأ، ولما دخلوا الإسلام ضربوا أمثلة رائعة في الصبر، والتحمل وكانوا يرضون باليسير، فكان الواحد منهم يسير الأيام مكتفياً بتمرات يقيم بها صلبه، وقطرات من ماء يرطب بها كبده.

10 – قـوة البـدن و عظمـة النفـس:

     اشتهر العرب بقوة أجسادهم مع عظمة النفس وقوة الروح، وإذا اجتمعت البطولة النفسية إلى البطولة الجسمانية صنعتا العجائب، وهذا ما حدث بعد دخولهم في الإسلام. كما كانوا ينازلون أقرانهم وخصومهم، حتى إذا تمكنوا منهم عفواً عنهم وتركوهم، يأبون أن يجهزوا على الجرحى، وكانوا يرعون حقوق الجيرة، ولا سيما رعاية النساء والمحافظة على العرض. قال شاعرهم:
                 وأغـض طـرفـي إن بـدت لـي جـارتـي                 حـتـى يـواري جـارتـي مـأواهـا

     كانت هذه الفضائل والأخلاق الحميدة رصيداً ضخماً في نفوس العرب، فجاء الإسلام فنماها وقواها، ووجهها وجهة الخير والحق، فلا عجب إذا كانوا انطلقوا من الصحاري كما تنطلق الملائكة الأطهار، ففتحوا الأرض، وملئوها إيماناً بعد أن ملئت كفراً، وعدلاً بعد أن ملئت جوراً، وفضائل بعد أن عمتها الرذائل، وخيراً بعد أن طفحت شراً.

     هذه بعض أخلاق المجتمع الذي نشأ فيه الإنسان العربي، فهو أفضل المجتمعات، فهذه الأخلاق مع ما كان لجزيرة العرب من الموقع الجغرافي بالنسبة إلى العالم، وهذا المجتمع وهذه البيئة النادرة، وهذا الوسط الرفيع كانت أسلم بيئة لظهور الإسلام مقارنة بالفرس والروم والهنود واليونان، فلم يختر الله رسوله من الفرس على سعة علومهم ومعارفهم ولا من الهنود على عمق فلسفاتهم، ولا من الرومان على تفننهم، ولا من اليونان على عبقرية شاعريتهم وخيالهم، وإنما اختاره من هذه البيئة البكر؛ لأن هؤلاء الأقوام وإن كانوا على ما هم عليه وما هم فيه من علوم ومعارف، إلا أنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه العرب من سلامة الفطرة، وحرية الضمير، وسمو الروح.

     ولعل أغلى ما عند العرب من هذه الأخلاق وأعظمها نفعاً، بعد الوفاء بالعهد، هو عزة النفس والمضي في العزائم؛ إذ لا يمكن قمع الشر والفساد وإقامة نظام العدل والخير إلا بهذه القوة القاهرة وبهذا العزم الصميم.

 

                                                       

عن المدير