الكتاب الثاني: وقـائـع الـسـيـرة الـنـبـويـة
الباب الأول: أهـم الأحـداث التـاريخيـة مـن قبـل البعثـة حتـى نـزول الـوحـي
الفصل الأول: العالم قبل البعثة النبوية وأثناءها
المبحث الثاني: أحوال الأقوام العربية قبل البعثة النبوية
المطلب السابع: حالة العرب السياسية
مـن المعـروف أن سـكـان الجـزيـرة الـعـربيـة، كـانـوا ولا يـزالـون منقسميـن إلـى قـسـميـن كبيـريـن: الـبـدو والـحـضـر، وتـقـوم حـيـاة الـبـدو عـلـى الـرعـي ومـا يتعلـق بـه، بينمـا تقـوم حيـاة الحضـر علـى التجـارة والـزراعـة وبعـض مـن أنـواع الصنـاعـة.
الأحـوال السيـاسيـة عنـد البـدو قبـل الإسـلام:
كـان البـدو يعيشـون فـي صـراع دائـم مـع الـبـيـئـة الـتـي يـعيـشـون فـيـهـا لـقـسـوتهـا، وكـانـت حيـاتـهـم قـائمـة علـى كـثـرة التنقـل والـسـعـي بحـثـاً عـن الأمـطـار والمـرعـى والأرض الخصبـة طلبـاً لعيشهـم ومـطـعـم دوابـهـم. وقـد حتمـت عليهـم هـذه المـعـيـشـة أن تـجـمـع أفـرادهـم فـي وحـدات قـامـت عـلـى أسـاس صـلـة الـدم والـنـسـب، (وذلك أن صـلـة الـرحـم طبيـعـي فـي البشـر إلا فـي الأقـل ومـن صلتهـا النـعـره عـن ذوي القـربـى وأهـل الأرحـام أن ينـالـهـم ضـيـم أو تصيـبهـم هلكـة فـإن القـريـب يجـد فـي نفسـه عـضـاضـة مـن ظلـم قـريبـه أو العـداء عـلـيـه ويـود لـو يـحـول بينـه وبيـن مـا يـصـل إليـه مـن المـعـاطـب والمـهـالـك) (مقـدمـة ابن خلدون/الباب الثاني/الفصل الثامن)، وهـذه نـزعـة طبيـعيـة فـي البشـر.
وسميـت هـذه الـوحـدات بـأسمـاء مختلفـة يـدل كـل منهـا فـي الغـالـب علـى حـجـم الـوحـدة التـي يطلـق عليهـا، وقـد كـان مـن أكـثـر هـذه الأسـمـاء شيـوعـاً العشيـرة، والـرهـط، والقـوم، والقبيلـة. والقبيلـة هـي مـا تعـرف بالـوحـدة السيـاسيـة والإجـتـمـاعـيـة والإقتصـاديـة التـي يقـوم علـى أسـاسـهـا النظـام العشـائـري عنـد العـرب فـي الجـاهليـة، وقـد تسمـى فـي الغـالـب بـاسـم الأب كـربيعـة ومـضـر والأوس والخـزرج فـهـذه كـلـهـا أسـمـاء رجـال، نـسـل كـل واحـد منهـم أولاداً وأحـفـاداً فـانتسبـوا إليـه، وقـد يلـد أبـو القبيلـة أولاداً يتكـاثـرون بالنسـل فيستقلـون بأنفسهـم وتـنـشـأ عنـهـم قـبـائـل أخـرى (المحبـر لابـن حبيـب). وقـد تميـز ارتبـاط الأفـراد بهـذه الـوحـدات بميـزتيـن رئيسيتيـن، أولاهـمـا أن كـل إنسـان غيـر منتمـي إلـى هـذا الأصـل المشتـرك لأفـراد العشيـرة أو القبيلـة أو الرهـط أو القـوم كـان يعتبـر عـدواً لهـم، وثـانيهمـا أن الجمـاعـة رغـم تمـاسكهـا الـواضـح لـم تفقـد الأفـراد شعـورهـم بـذواتهـم وباستقـلالهـم الفـردي.
وفـي ظــل هـذا المجتمـع المستنـد أسـاسـاً علـى غـريـزة البقـاء والقتـال مـن أجـل ذلك، كـان مـن الطبيعـي ألا يـشـكـل انـضـواء الأفـراد تـحـت لـواء الـجـمـاعـة مـجـتـمـعـاً سـيـاسـيـاً وأن تغيـب تـبـعـاً لذلك أيـة صـورة للسلطـة السـيـاسـيـة داخـل هـذه المجتمعـات، فالمجتمـع الـسـيـاسـي يتميـز أسـاسـاً بـوجـود سـلـطـة عـلـيـا فـي الـجـمـاعـة يخضـع لـهـا سـائـر الأفـراد. ومـا قـد يـوجـد مـن تنظيمـات خضـوعـاً كـامـلاً تفـرضـه بالقـوة إذا اقـتـضـت الـظـروف ذلـك، ولـم يـكـن لمـثـل هـذه السلطـة وجـود فـي تجمعـات البـدو أو وحـداتهـم الـتـي ينتمـون إليهـا بـل كـان الأفـراد جميعـاً متسـاوون فـي الحـقـوق والـواجبـات مسـاواةً جعلـت مـن رئيـس القبيلـة أو العشيـرة مجـرد شخـص ذي سلـطـة معنـويـة هـدفهـا الحفـاظ علـى الـوحـدة بيـن أبـنـاء قبيلتـه أو عشيـرتـه. وقـد ذهـب بعـض البـاحثيـن فـي تـاريـخ العـرب قبـل الإسـلام أن القبيلـة العـربيـة عـرفـت نـوعـاً مـن التنظيـم الـسـيـاسـي تمـثـل فـي حـق رئيـس القبيلـة فـي إعـلان الحـرب علـى الأعـداء وفـي منـح الجـوار لمـن يطلبـه، وفـي تقـريـر طـرد المخلفيـن أو الخـارجيـن عـن نـظـام أو عـادات القبيلـة، بـل قـيـل أن رئيـس القـبيـلـة كـان بمثـابـة مـلـك يـديـر مـمـلـكـة رعـايـاهـا هـم الأفـراد المنتمـون إلـى القبيلـة والـذيـن يعتقـدون بانحـدارهـم مـن أصـل أو نسـب مشتـرك. والـواقـع أن هـذا يستجيـب إلـى مـسـلـمـة مـن مسلمـات العـلـوم السيـاسيـة المعـاصـرة مفـادهـا أن جـوهـر الـسـيـاسـة كـامـن فـي الإنـسـان ذاتـه، بحـيـث يعتبـر الإنسـان كـائنـاً سيـاسيـاً بطبعـه، فـإن هـذا الـرأي يتعـارض تـعـارضـاً واضحـاً مـع مـسـلـمـة أخـرى مـن مسلمـات الـعـلـوم الـسـيـاسيـة مـؤداهـا أنـه لكـي يعتبـر المجتمـع مجتمعـاً سـيـاسـيـاً فـإنـه لا بـد مـن أن تـتـوافـر فيـه عنـاصـر أسـاسـيـة أهـمـهـا عنصـران رئيسييـن أولهمـا التقيـد الإقليمـي أو الإسـتـقـرار الإقليمـي أي ارتـبـاط الأفـراد بإقليـم معيـن ارتبـاطـاً يضفـي إلـى ظهـور مفهـوم الـوطـن ومـا يتبعـه مـن شعـور الأفـراد بـواجـب المحـافظـة عـلـى الـوطـن والـدفـاع عنـه، وثـانيـاً وجـود السلطـة السـيـاسيـة التـي تحتكـر الـقـوة الفعليـة والـشـرعيـة فـي هـذا المجتمـع احـتـكـاراً يمكنهـا مـن إقـرار السـلام والعمـل عـلـى تـقـدم المجتمـع، وهـذان العنصـران لا يمكـن الإدعـاء بتـوافـرهمـا فـي التجمعـات البـدويـة فـي جـزيـرة العـرب قبـل الإسـلام.
الأحـوال السيـاسيـة عنـد الحضـر قبـل الإسـلام:
كـانـت أطـراف الجـزيـرة العـربيـة وسـواحـلـهـا قـد عـرفـت فيهـا التنظيمـات الـسـيـاسـيـة، بـل عـرفـت فيهـا مـمـالـك عـاشـت قـرون طـويـلـة وحـفـظ الـتـاريـخ كـثـيـراً مـن حـوادثـهـا وتـطـورات الحـكـم فيهـا وفيمـا يلـى مـوجـز عـن هـذه التنظيمـات السيـاسيـة:
1 – المـلـك باليمـن :
مـن أقـدم الشعـوب التـي عـرفـت باليمـن مـن العـرب العـاربـة قـوم سبـأ ، و قـد عثـر علـى ذكـرهـم فـي حفـريـات أور بـخـمـسـة وعشـريـن قـرنـاً قـبـل الميـلاد . و يبـدأ ازدهـار حضـارتهـم ونفـوذ سلطـانهـم و بسـط سيطـرتهـم بـأحـد عشـر قـرنـاً قبـل الميـلاد.
و يمكـن تقسيـم أدوارهـم حسـب التقـديـر الآتـي:
1 – 1 – القـرون التـي خلـت قبـل سنـة 650 ق.م: عـرفـت دولتهـم فـي هـذه الـفـتـرة بالـدولـة المعينيـة، ظهـرت فـي الجَـوْف؛ أي السهـل الـواقـع بيـن نجـران و حـضـرمـوت ، ثـم أخـذت تنمـو وتتسـع وتسيطـر وتـزدهـر حتـى بـلـغ نفـوذهـا السيـاسـي إلـى العُـلا ومَعَـان مـن شمـالـي الحجـاز.
وكـان ملـوكهـم فـي هـذه الفتـرة يلقبـون بمكـرب سبـأ وكـانـت عـاصمتهـم مـدينـة صِـرْوَاح التـي توجـد أنقـاضهـا علـى بعـد 50 كيلـومتـراً إلـى الشمـال الغـربـي مـن مـدينـة مـأرب، وعلـى بعـد 142 كيلـومتـراً شـرقـي صـنـعـاء، وتـعـرف بـاسـم خُـرَيْبـة. ويقـدر عـدد هـؤلاء الملـوك مـا بيـن 22 و 26 ملكـاً، ويقـال إن مستعمـراتهـا وصلـت إلـى خـارج بلاد العـرب، وكـانت التجـارة هـي صلـب معيشتهـم، ثـم إنـه فـي زمنهـم بـدأ بنـاء الـسـد الـذي عـرف بسـد مـأرب، وهـذا السـد لـه شـأن كبيـر فـي تاريـخ اليمـن، وهـو الـذي وفـر لهـم معظـم خيـرات الأرض {حَـتَّـى نَسُـوا الـذِّكْـرَ وَكَـانُـوا قَـوْمـاً بُـوراً} (سـورة الفـرقـان، الآيـة: 18).
1 – 2 – منـذ سنـة 650 ق.م إلـى سنـة 115 ق.م: عـرفـت دولـتـهـم فـي هـذه الفتـرة بـدولـة سبـأ، وقـد تـركـوا لقـب مكـرب وعـرفـوا بملـوك سـبـأ، واتخـذوا مـأرب عـاصـمـة لـهـم بـدل صـرواح، وتـوجـد أنـقـاض مـأرب عـلـى بـعـد 192 كيلـومتـراً شـرقـي صـنـعـاء.
1 – 3 – منـذ سنـة 115 ق.م إلـى سنـة 300 م: عـرفـت الـدولـة فـي هـذه الفتـرة بالـدولـة الـحـمـيـريـة الأولـى ؛ لأن قـبيـلـة حميـر غلبـت و استقلـت بمملكـة سـبـأ، وقـد عـرف مـلـوكهـا بـملـوك سبـأ و ذي ريـدان ، وهـؤلاء الملـوك اتخـذوا مـدينـة ريـدان عـاصمـة لهـم بـدل مـدينـة مـأرب، وتعـرف ريـدان بـاسـم ظـفـار، وتـوجـد أنقـاضهـا علـى جبـل مـدور بالقـرب مـن يـريـم، وفـي هـذا الـعـهـد بـدأ فيهـم الـسـقـوط والإنـحـطـاط، فقـد فشلـت تجـارتهـم إلـى حـد كبيـر؛ لبسـط سيطـرة الأنبـاط فـي شمـال الحجـاز أولاً، ثـم لغلبـة الـرومان علـى طـرق التجـارة الـبـحـريـة بـعـد نـفـوذ سلطـانـهـم علـى مصـر وسـوريـا وشمـالـي الحجـاز ثـانيـاً، ولتنـافـس القبـائـل فيمـا بينهـا ثـالثـاً. وهـذه العنـاصـر هـي التـي سببـت فـي تفـرق آل قحطـان وهجـرتهـم إلـى البـلاد الشـاسعـة.
1 – 4 – منـذ سنـة 300 م إلـى أن دخـل الإسـلام فـي اليمـن: عـرفـت الـدولـة فـي هـذه الفـتـرة بالـدولـة الحـميـريـة الـثـانـيـة، وعـرف مـلـوكهـا بـمـلـوك سـبـأ وذى ريـدان وحـضـرمـوت ويمنـت، وقـد تـوالـت علـى هـذه الـدولـة الإضطـرابـات والحـوادث، وتـتـابعـت الإنـقـلابـات، والـحـروب الأهـلـيـة الـتـي جعلتهـم عـرضـة للأجـانـب حتـى قضـت علـى استقـلالهـم. ففـي هـذا العهـد دخـل الـرومـان فـي عـدن، وبمعـونـتـهـم احـتـلـت الأحبـاش اليمـن لأول مـرة سنة 340 م، مستغليـن التنـافـس بيـن قبيلتـي همـدان وحميـر، واستمـر احـتـلالهـم إلـى سنـة 378 م. ثـم نـالـت الـيـمـن اسـتـقـلالهـا، ولـكـن بـدأت تقـع الثلمـات فـي سـد مـأرب، حتـى وقـع السيـل العظيـم الـذي ذكـره القـرآن بسيـل العـرم فـي سنـة 450 م أو 451 م. وكـانـت حـادثـة كبـرى أدت إلـى خـراب العمـران وتشتـت الشعـوب.
وفـي سـنـة 523 م قـاد ذو نـواس اليهـودي حمـلـة مـنـكـرة عـلـى المسيـحييـن مـن أهـل نجـران، وحـاول صـرفهـم عـن المسيحيـة قسـراً. ولمـا أبـوا خـد لـهـم الأخـدود وألـقـاهـم فـي الـنـيـران، وهـذا الـذي أشـار إليـه الله تـبـارك وتـعـالـى بـقـولـه: { قُـتِـلَ أَصْـحَـابُ الْأُخْـدُودِ * الـنَّـارِ ذَاتِ الْـوَقُـودِ * إِذْ هُـمْ عَـلَـيْـهَـا قُـعُـودٌ * وَ هُـمْ عَـلَـى مَـا يَـفْـعَـلُـونَ بِـالْـمُـؤْمِـنِـيــنَ شُـهُـودٌ * وَمَـا نَـقَـمُــوا مِـنْـهُـمْ إِلاَّ أَن يُـؤْمِـنُـوا بِاللَّهِ الْـعَـزِيـزِ الْـحَـمِـيـدِ * الَّـذِي لَـهُ مُـلْـكُ الـسَّـمَـاوَاتِ وَالأَرْضِ وَ اللَّهُ عَـلَـى كُـلِّ شَـيْءٍ شَـهِـيـدٌ} (سـورة البـروج، الآيـات: 4-9)، وكـان هـذا الحـادث هـو السبـب فـي نـقـمـة الـنـصـرانيـة النـاشطـة إلـى الفتـح والـتـوسـع تـحـت قـيـادة أمـبـراطـور الـرومـان عـلـى بـلاد الـعـرب، فـقـد حـرضـوا الأحـبـاش، وهـيـأوا لهـم الأسطـول البحـري، فنـزل سبعـون ألـف جنـدي مـن الحبشـة، واحتـلـوا اليمـن مـرة ثـانـيـة، بقيـادة أريـاط سنـة 525 م، وظـل أريـاط حـاكمـاً مـن قـبـل مـلـك الحبشـة حتـى اغـتـالـه أبـرهـة بـن الصـبـاح الأشـرم أحـد قـواد جيشـه سنـة 549 م، ونـصـب نفسـه حـاكمـاً علـى اليمـن بعـد أن استـرضـى مـلك الحبشـة وأرضـاه، وأبـرهـة هذا هـو الـذي جنـد الجنـود لهـدم الكعبـة، وعـرف هـو وجنـوده بـأصحـاب الفيـل. وقـد أهلكـه الله بعـد عـودتـه إلـى صنعـاء عقـب وقعـة الفيـل، فـخلفـه عـلـى الـيـمـن ابـنـه يَـكْـسُـوم، ثـم الإبـن الـثـانـي مـسـروق، وكـانـا فـيـمـا يـقـال شـراً مـن أبـيـهـمـا، وأخـبـث سـيـرة منـه فـي اضطهـاد أهـل اليمـن وقهـرهـم وإذلالهـم.
وبعـد وقـعـة الـفـيـل اسـتـنـجـد اليمـانيـون بالفـرس، وقـامـوا بمقـاومـة الحبشـة حتـى أجلـوهـم عـن البـلاد، ونـالـوا الإسـتـقـلال فـي سـنـة 575 م بـقـيـادة معـد يكـرب بـن سيـف ذي يـزن الحميـري، واتخـذوه ملكـاً لهـم، وكـان معـد يكـرب أبقـى معـه جمعـاً مـن الـحـبـشـة يـخـدمـونـه ويمـشـون فـي ركـابـه، فـاغـتـالـوه ذات يـوم، وبمـوتـه انـقـطـع المـلك عـن بيـت ذي يـزن، وولـى كسـرى عـامـلاً فـارسيـاً عـلـى صـنـعـاء، وجعـل اليمـن ولايـة فـارسيـة فلـم تـزل الـولاة مـن الفـرس تتعـاقـب علـى اليمـن، وكـان أولهـم وهـرز، ثـم المـرزبـان بـن وهـرز، ثـم ابـنـه التينجـان، ثـم خسـرو بـن التينجـان، ثـم بـاذان، وكـان آخـر ولاة الفـرس، فـإنـه اعتنـق الإسـلام سنـة 628 م، وبـإسـلامـه انتهـي نفـوذ فـارس علـى بـلاد اليمـن.
2 – المـلك بالحيـرة :
كـانـت الـفـرس تـحـكـم بـلاد الـعـراق ومـا جـاورهـا مـنـذ أن جمـع شملهـم قـوروش الكـبيـر (557-529 ق.م) ولـم يـكـن أحـد يـنـاوئـهـم، حـتـى قـام الإسـكـنـدر الـمـقـدونـي سنـة 326 ق.م فـهـزم ملكهـم دارا الأول، وبـددهـم وكسـر شـوكتهـم، حتـى تجـزأت بـلادهـم وتـولاهـا ملـوك يعـرفـون بمـلـوك الـطـوائـف، واسـتـمـروا يحكمـون البـلاد مجـزأة إلـى سنـة 230 م. وفـي عهـد هـؤلاء الملـوك هـاجـر الـقـحـطـانـيـون، واحـتـلـوا جـزءاً مـن ريـف الـعـراق ثـم لحقهـم مـن هـاجـر مـن العـدنـانـييـن فـزاحمـوهـم حتـى سكنـوا جـزءاً مـن الجـزيـرة الفـراتيـة.
وأول مـن مـلك مـن هـؤلاء المـهـاجـريـن هـو مـالـك بـن فَهْـم التَّنُـوخـي مـن آل قحطـان، وكـان منـزلـه الأنبـار، أو مـمـا يـلـي الأنبـار، وخـلـفـه أخـوه عمـرو بـن فهـم في روايـة. وجَـذِيمـة بـن مالك بـن فهـم الملقـب بالأبْـرش والـوَضَّـاح فـي روايـة أخـرى.
وعـادت الـقـوة مـرة ثـانـيـة إلـى الـفـرس فـي عـهـد أردشـيـر بـن بـابـك مـؤسـس الـدولـة السـاسـانـيـة مـنـذ سنـة 226 م. فـإنـه جـمـع شمـل الـفـرس، واستـولى عـلـى الـعـرب المقيميـن عـلـى تخـوم ملكـه، وكـان هـذا سـبـبـاً فـي رحـيـل قضـاعـة إلـى الشـام، ودان لـه أهـل الحيـرة والأنبـار.
وفـي عهـد أردشـيـر كـانـت ولايـة جـذيـمـة الـوضـاح عـلـى الحـيـرة وسـائـر مـن ببـاديـة الـعـراق والجـزيـرة مـن ربيعـة ومـضـر، وكـان أردشـيـر رأى أنـه يـسـتـحيـل عليـه أن يـحـكـم العـرب مبـاشـرة، ويمنعهـم مـن الإغـارة علـى تخـوم ملكـه، إلا أن يملك عليهـم رجـلاً منهـم لـه عـصـبيـة تـؤيـده وتمنعـه، ومـن جهـة أخـرى يمكنـه الإستعـانـة بهـم علـى ملـوك الـرومـان الـذيـن كـان يتخـوفهـم، وليكـون عـرب العـراق أمـام عـرب الشـام الـذيـن اصـطـنـعـهـم مـلـوك الـرومـان، وكـان يبقـي عـنـد مـلـك الحيـرة كتيبـة مـن جنـد الفـرس؛ ليستعيـن بهـا علـى الخـارجيـن علـى سلطـانـه مـن عـرب البـاديـة، وكـان مـوت جـذيمـة حـوالـي سنـة 268 م.
وبعـد مـوت جـذيمـة ولـي الحـيـرة عـمـرو بـن عـدى بـن نصـر اللخمـي (268-288 م)، وهـو أول ملـوك اللخمييـن وأول مـن اتخـذ الحـيـرة مـقـراً لـه، وكـان فـي عـهـد كـسـرى سـابـور بـن أردشـيـر، ثـم لـم تـزل الملـوك مـن اللخمييـن تتـوالـى علـى الحيـرة حتـى ولـى الفـرس قبـاذ بـن فيـروز (448-531 م)، وفـي عهـده ظهـر مَـزْدَك، وقـام بالـدعـوة إلـى الإبـاحـيـة، فـتـبـعـه قـبـاذ كـمـا تـبـعـه كـثـيـر مـن رعـيـتـه، ثـم أرسـل قـبـاذ إلـى مـلـك الحـيـرة، وهـو المـنـذر بـن مـاء الـسـمـاء (512-554 م)، يـدعـوه إلـى أن يخـتـار هـذا المـذهـب الـخـبيـث ويـديـن بـه، فـأبـى عـلـيـه ذلـك حـمـيـة وأنـفـة، فـعـزلـه قبـاذ، وولـى بـدلـه الحـارث بـن عـمـرو بـن حجـر الكنـدي بعـد أن أجـاب دعـوتـه إلـى المـذهـب المـزدكـي.
وخلـف قبـاذ كسـرى أنـوشـروان (531-578 م)، وكـان يـكـره هـذا المـذهـب جـداً، فـقـتـل المـزدك وكثيـراً ممـن دان بمـذهبـه، وأعـاد المنـذر إلـى ولايـة الحيـرة، وطلـب الحـارث بـن عمـرو لكنـه أفلـت إلـى دار كلـب، فلـم يـزل فيهـم حتـى مـات.
و اسـتـمـر المـلك بـعـد المـنـذر بـن مـاء الـسـمـاء فـي
عقبـه ، حتـى كـان النعمـان بـن المنـذر (583-605 م) ، و هـو الـذي
غـضـب عـلـيـه كـسـرى بسبـب وشـايـة دبـرهـا زيـد بـن عـدي
العبـادي ، و أرسـل كـسـرى إلـى النعمـان يطلبـه ، فـخـرج النعمـان
حتـى نـزل سـراً عـلـى هـانـئ بـن مـسـعـود سـيـد آل شيبـان ،
فـأودعـه أهلـه و مـالـه ، ثـم تـوجـه إلـى كسـرى ، فحبسـه كسـرى
حتـى مـات و ولـى علـى الحيـرة بـدلـه إياس بـن قبيصـة الطـائـي ،
و أمـره أن يرسـل إلـى هانـئ بـن مسعـود يطلـب منـه تسليـم مـا
عنـده ، فـأبـى ذلك هـانـئ حـميـة ، و آذن المـلك بالحـرب ، و لـم
تـلـبـث أن جـاءت مـرازبـة كـسـرى و كتـائبـه فـي مـوكـب إيـاس ، و
كـانـت بيـن الفـريقيـن مـوقعـة هـائلـة عنـد ذي قـار ، و انـتـصـر
فـيـهـا بـنـو شيـبـان ، و انـهـزمـت الفـرس هـزيمـة نـكـراء . و
هـذا أول يـوم انتصـرت فيـه الـعـرب علـى العجـم ، و اختلـف
الـمـؤرخـون فـي تـحـديـد زمـن هـذه الـمـعـركـة ، فـقـيـل هـو
بـعـد مـيـلاد الـرسـول صلـى الله عليـه و سـلـم بقليـل ، و أنـه
صلـى الله عليـه و سلـم ولـد لثـمـانيـة أشهـر مـن ولايـة إيـاس
بـن قـبـيـصـة عـلـى الحـيـرة . و قيـل قـبـل النبـوة بقليـل و هـو
الأقـرب . و قيـل بعـد النبـوة بقليـل . و قيـل بعـد الهجـرة . و
قيـل بعـد بـدر . و قيـل غيـر ذلـك.
و ولّـى كـســرى علـى الحيـرة بـعـد إيـاس حـاكـمـاً فارسيـاً
اسمـه آزادبـه بـن مـاهبيـان بـن مهـرابنـداد ، و ظـل يـحـكـم
سـبـعـة عـشـر عـامـاً من 614 م إلى 631 م ، ثـم عـاد المـلـك إلـى
آل لخـم سنـة 632 م ، فـتـولـى منـهـم المـنـذر بـن النعمـان
الملقـب بالمعـرور ، و لـم تـزد ولايتـه علـى ثمـانيـة أشهـر حتـى
قـدم عليـه خالـد بـن الـوليـد بعسـاكـر المسلميـن.
3 – المـلك بالشـام:
فـي الـعـهـد الـذي مـاجـت فـيـه الـعـرب بهجـرات القبـائـل
سـارت بطـون مـن قضـاعـة إلـى مشـارف الشـام و سكنـت بـهـا ، و
كـانـوا مـن بـنـي سُـلَـيْـح بـن حُـلْـوان الـذيـن منهـم بـنـو
ضَجْعَـم ابـن سـليـح المعـروفـون باسـم الضـجـاعـمـة ، فاصطنعهـم
الـرومـان ليمنعـوا عـرب الـبـريـة مـن الـعـبـث ، و لـيـكـونـوا
عـدة ضـد الفـرس ، و ولـوا منهـم ملكـاً ، ثـم تعـاقـب المـلك
فيهـم سنيـن ، و مـن أشـهـر مـلـوكـهـم زيـاد بـن الـهَـبُـولـة ،
و يقـدر زمنهـم مـن أوائـل القـرن الثـانـي الميـلادي إلـى
نهـايتـه تقـريبـاً ، و انتهـت ولايتهـم بعـد قـدوم آل غسـان ،
الـذيـن غلبـوا الضجـاعمـة علـى مـا بيـدهـم و انتصـروا عليهـم ،
فـولتهـم الـروم مـلـوكـاً علـى عـرب الشـام ، و كـانـت
قـاعـدتـهـم دومـة الجنـدل ، و لـم تـزل تتـوالـى الـغـسـاسنـة
علـى الشـام بصفتهـم عمـالاً لملـوك الـروم حتـى كـانـت وقعـة
اليـرمـوك سنـة 13 هـ ، و انقـاد للإسـلام آخـر ملـوكهـم جَبَلَـة
بـن الأيهـم فـي عهـد أميـر المـؤمنيـن عمـر بـن الخطـاب رضـي الله
عنـه.
4 – الإمـارة بالحجـاز:
علـى الـرغـم مـن أن هـذه الأنظمـة الملكيـة هـي بـلا شـك أنظمـة
ذات طـابـع سيـاسـي ، إلا أنـه لـم يكـن لـهـا مـن أثـر يـذكـر
علـى عـرب الحجـاز حـيـث نـشـأ الإسـلام فـكـانـت حـيـاة هـؤلاء
العـرب حـتـى فـي مـكـة كـمـا قـدمـنـا لا تعـرف أي تنظيـم سيـاسـي
بالمعنـى المتعـارف عليـه للتنظيـم الـسـيـاسـي إلـى إن ظـهـر
الإسـلام و أنـشـأ الـرسـول صـلـى الله عليـه و سـلـم دولـتـه
الأولـى فـي المـديـنـة و لـذلـك تـعـد هـذه الـدولـة بـدايـة
الـتـاريـخ الـسـيـاسـي الإسـلامـي و يـعـتـبـر مـا ظـهـر خـلال
وجـودهـا مـن أفـكـار و آراء المـصـدر الأول الـذي تفـرعـت عنـه
الأفكـار والنظـريـات السيـاسيـة الإسـلاميـة.
ولـي إسـمـاعـيـل عـلـيـه الـسـلام زعـامـة مـكـة و ولايـة
الـبـيـت طـول حيـاتـه . و تـوفـي و لـه 137 سنـة . ثـم ولـى
واحـداً ، و قـيـل اثـنـان مـن أبـنـائـه نـابـت ثـم قـيـدار ، و
يـقـال الـعـكـس ، ثـم ولـي أمـر مـكـة بعـدهـمـا جـدّهمـا مُضَـاض
بـن عمـرو الجُـرْهُمِـىّ ، فانتقلـت زعـامـة مـكـة إلـى جُـرْهُـم
، و ظـلـت فـي أيـديـهـم ، و كـان لأولاد إسـمـاعـيـل مـركـز
محـتـرم ؛ لمـا لأبـيـهـم مـن بـنـاء البيـت ، و لـم يـكـن لـهـم
مـن الحـكـم شـيء.
و مضـت الـدهـور و الأيـام و لـم يـزل أمـر أولاد إسمـاعيـل
عليـه الـسـلام ضئيـلاً لا يـذكـر ، حتـى ضعـف أمـر جُـرْهُـم
قبيـل ظهـور بُخْتُنَصَّـر ، و أخـذ نـجـم عـدنـان السيـاسـي
يتـألـق فـي أفـق سمـاء مكـة منـذ ذلك العصـر ، بـدليـل مـا جـاء
بمنـاسبـة غـزو بُخْتُنَصَّـر للعـرب فـي ذات عِـرْق ، فـإن قـائـد
العـرب فـي المـوقعـة لـم يكـن جـرهميـاً ، بـل كـان عـدنـان نفسـه.
و تـفـرقـت بـنـو عـدنـان إلـى الـيـمـن عـنـد غـزوة
بُخْتُنَصَّـر الثـانيـة (سنـة 587 ق.م) ، و ذهـب بـرخـيـا صـاحـب
يـرميـاه الـنـبـي الإسـرائـيلـي بَمَعَـدّ إلـى حـران مـن الـشـام
، فلمـا انكشـف ضغـط بُخْتُنَصَّـر رجـع معـد إلـى مكـة فلـم يجـد
مـن جـرهـم إلا جَـوْشَـم بـن جُلْهُمـة ، فتـزوج بـابنتـه
مُعَـانـة فـولـدت لـه نـزاراً.
و سـاء أمـر جـرهـم بـمـكـة بـعـد ذلك ، و ضـاقـت أحـوالـهـم
، فـظـلـمـوا الـوافـديـن إليهـا ، و استحلـوا مـال الكعبـة ،
الأمـر الـذي كـان يـغـيـظ الـعـدنـانـيـيـن ، و يـثـيـر حفيظتهـم
، و لمـا نـزلـت خـزاعـة بِـمَـرِّ الظَّهْـران ، و رأت نفـور
العـدنـانييـن مـن الجـراهمـة استغلـت ذلك ، فـقـامـت بـمـعـونـة
مـن بـطـون عـدنـان ، و هـم بـنـو بـكـر بـن عـبـد مـنـاف بـن
كـنـانـة ، بـمـحـاربـة جـرهـم ، حتـى أجلتهـم عـن مكـة ، و
استـولـت علـى حكمهـا ، فـي أواسـط القـرن الثـانـي للميـلاد.
و لمـا لجـأت جـرهـم إلـى الجـلاء سـدوا بـئـر زمـزم ، و
درسـوا مـوضـعـهـا ، و دفـنـوا فيهـا عـدة أشيـاء ، قـال ابـن
إسحـاق : (فخـرج عمـرو بـن الحـارث بـن مضـاض الجـرهمـي بغـزالـي
الـكـعـبـة ، و بحجـر الـركـن الأسـود فـدفنهمـا فـي بئـر زمـزم ،
و انطلـق هـو و مـن معـه مـن جـرهـم إلـى اليمـن ، فحـزنـوا علـى
مـا فـارقـوا مـن أمـر مكـة و ملكهـا حـزنـاً شـديـداً ، و فـي ذلك
قـال عمـرو:
كـأن لم يكن بين الحَـجُون إلى الصَّـفَا أنيـس و لم يَسْمُـر بمكـة سـامـر
بــلـى نـحـن كـنـــا أهـلـهـــا فـأبـادنــا صُرُوف الليالي والجُدُود العَوَاثِـر
و يـقـدر زمـن إسـمـاعـيـل عليه السـلام بعشـريـن قـرنـاً
قبـل الميـلاد ، فتكـون إقـامـة جـرهـم فـي مكـة واحـداً و عشـريـن
قـرنـاً تقـريبـاً ، و حكمهـم علـى مكـة زهـاء عشـريـن قـرنـاً . و
استبـدت خـزاعـة بأمـر مكـة دون بنـي بكـر . إلا أنـه كـان إلـى
قبـائـل مضـر ثـلاث خـلال:
الأولـى : الـدفـع بالنـاس
مـن عـرفـة إلـى المـزدلفـة و الإجـازة بهـم يـوم النفـر مـن منـى
، و كـان يلـي ذلك بـنـو الغَـوْث بـن مـرة مـن بـطـون إليـاس بـن
مضـر ، و كـانـوا يـسـمـون صـوفـة ، و مـعـنـى هـذه الإجـازة أن
النـاس كـانـوا لا يـرمـون يـوم الـنـفـر حتـى يـرمـي رجـل مـن
صـوفـة ، ثـم إذا فـرغ النـاس مـن الـرمـي ، و أرادوا النفـر مـن
منـى أخـذت صـوفـة بجـانبـي العقبـة ، فلـم يجـز أحـد حتـى يمـروا
، ثـم يخلـون سبيـل النـاس ، فلمـا انقـرضـت صـوفـة ورثهـم بنـو
سعـد بـن زيـد منـاة مـن تميـم.
الثـانيـة : الإفـاضـة مـن
جمـع غـداة النحـر إلـى منـى ، و كـان ذلك فـي بنـي عـدوان.
الثـالثـة : إنسـاء الأشهـر
الحـرم ، و كـان ذلك إلـى بنـى فُـقَـيْـم بـن عـدي مـن بنـي
كنـانـة.
و استمـرت ولايـة خـزاعـة عـلـى مـكـة ثـلاثمـائـة سـنـة . و
فـي وقـت حـكـمـهـم انتشـر العـدنـانيـون فـي نـجـد و أطـراف
الـعـراق و البحـريـن ، و بـقـي بأطـراف مـكـة بـطـون مـن قـريـش و
هـم حُـلُـول و صِـرْم مـتـقـطـعـون ، و بيـوتـات مـتـفـرقـون فـي
قـومهـم مـن بنـي كـنـانـة ، و ليـس لهـم مـن أمـر مكـة و لا
البيـت الحـرام شـيء حتـى جـاء قصـي بـن كـلاب.
و يـذكـر مـن أمـر قـصـي أن أبـاه مـات و هـو فـي حـضـن أمـه
، و نكحـت أمـه رجـلاً مـن بنـي عُـذْرَة ، و هـو ربيعـة بـن حـرام
، فاحتملهـا إلـى بـلاده بأطـراف الشـام ، فلمـا شـب قصـي رجـع
إلـى مكـة ، و كـان واليهـا إذ ذاك حُـلَيْـل بـن حَـبْـشِـيَّـة
مـن خـزاعـة ، فخطـب قصـي إلـى حُـلَـيْـل ابـنـتـه حُـبَّـى ،
فـرغـب فيـه حليـل و زوجـه إيـاهـا ، فلمـا مـات حليـل قـامـت حـرب
بيـن خـزاعـة و قـريـش أدت أخيـراً إلـى تغلـب قصـي علـى أمـر مكـة
و البيـت.
و هنـاك ثـلاث روايـات فـي بيـان سبـب هـذه الحـرب:
الأولـى : أن قصيـاً لمـا
انتشـر ولـده و كثـر مـالـه و عظـم شـرفـه و هلـك حليـل رأى أنـه
أولـى بالكعبـة و بأمـر مـكـة مـن خـزاعـة و بـنـي بـكـر ، و أن
قـريـشـاً رؤوس آل إسـمـاعـيـل و صـريحـهـم ، فكلـم رجـالاً مـن
قـريـش و بنـي كنـانـة فـي إخـراج خـزاعـة و بنـي بكـر عـن مكـة
فأجـابـوه.
الثـانيـة : أن حليـلاً ،
فـيـمـا تـزعـم خـزاعـة ، أوصـى قصيـاً بالقيـام عـلـى الكعبـة و
بـأمـر مـكـة ، و لـكـن أبـت خـزاعـة أن تمضـى ذلك لقصـي ، فهـاجـت
الحـرب بينهمـا.
الثـالثـة : أن حليـلاً
أعـطـى ابنتـه حـبـى ولايـة الـبـيـت ، و اتـخـذ أبـا غُبْشـان
الخـزاعـي وكيـلاً لهـا ، فقـام أبـو غُـبْـشـان بسـدانـة الكعبـة
نـيـابـة عـن حبـى ، و كـان فـي عقلـه شـيء ، فلمـا مـات حليـل
خـدعـه قصـى ، و اشتـرى منـه ولايـة البيـت بأذواد مـن الإبـل أو
بـزق مـن الخـمـر ، و لـم تـرض خـزاعـة بهـذا الـبـيـع ، و
حـاولـوا منـع قصـي عـن البيـت ، فجمـع قصـي رجـالاً مـن قـريـش و
بنـي كنـانـة لإخـراج خـزاعـة مـن مكـة ، فأجـابـوه.
و أيـاً مـا كـان ، فلمـا مـات حليـل و فعلـت صـوفـة مـا
كـانـت تـفـعـل ، أتـاهـم قـصـي بـمـن معـه مـن قـريـش و كـنـانـة
عـنـد العـقـبـة فقـال : (نحـن أولـى بـهـذا منكـم) ، فقـاتلـوه
فغلبهـم قصـي علـى مـا كـان بأيـديهـم ، و انحـازت عنـد ذلك
خـزاعـة و بـنـو بـكـر عـن قـصـي ، فـبـدأهـم قـصـي ، و أجـمـع
لحـربـهــم ، فالتقـوا و اقتتلـوا قتـالاً شـديـداً ، صـار جمـع
مـن الفـريقيـن فـريسـة لـه ، حتـى كثـرت القتلـى فـي الفـريقيـن
جميعـاً ، ثـم تـداعـوا إلـى الصلـح فحكَّمـوا يَعْمُـر بـن عـوف
أحـد بنـى بكـر ، فقضـى بأن قصيـاً أولـى بالكعبـة و بـأمـر مـكــة
مـن خـزاعـة ، و كـل دم أصـابـه قـصـي مـنـهـم مـوضـوع بـشـدخـة
تـحـت قـدمـيـه ، و مـا أصـابـت خـزاعـة و بـنـو بـكـر فـفـيـه
الـديـة ، و أن يـخـلـي بـيـن قصـي و بيـن الكعبـة ، فسـمـي يعمـر
يـومئـذ الشـداخ ، و كـان استيـلاء قصـي عـلـى مكـة و البيـت فـي
أواسـط القـرن الخـامـس للميــلاد سنـة 440 م ، و بـذلك صـارت
لقصـي ، ثـم لـقـريـش السيـادة الـتـامـة ، و الأمـر النـافـذ فـي
مكـة ، و صـار الـرئيـس الـدينـي لـذلك البيـت الـذي كـانـت تـفـد
إليـه العـرب مـن جميـع أنحـاء الجـزيـرة.
و مـمـا فعلـه قـصـي بمكـة أنـه جـمـع قـومـه مـن منـازلهـم
إلـى مكـة ، و قطعهـا ربـاعـاً بيـن قـومـه ، و أنـزل كـل قـوم مـن
قـريـش مـنـازلـهـم التـي أصـبـحـوا عليهـا ، و أقـر النسـأة و آل
صـفـوان ، و عـدوان و مـرة بـن عـوف علـى مـا كـانـوا عليـه مـن
المنـاصـب ؛ لأنـه كـان يـراه دينـاً فـي نفسـه لا ينبغـي تغييـره.
و مـن مـآثـر قـصـي أنـه أسـس دار النـدوة بالجـانـب
الشمـالـي مـن مسجـد الكعبـة ، و جعـل بـابهـا إلـى المسجـد ، و
كـانـت مـجـمـع قـريـش ، و فيـهـا تفصـل مـهـام أمـورهـا ، و لهـذه
الـدار فضـل علـى قـريـش ؛ لأنهـا ضمنـت اجتمـاع الكلمـة و فـض
المشـاكـل بالحسنـى . و كـان لقصـي مـن مظـاهـر الـرئـاسـة و
التشـريـف:
1 – رئـاسة دار النـدوة :
ففيـهـا كـانـوا يتـشـاورون فيـمـا نـزل بـهـم مـن جـسـام الأمـور
، و يـزوجـون فيـهـا بنـاتـهـم.
2 – اللـواء : فكـانـت لا
تعقـد رايـة الحـرب إلا بيـده.
3 – السـدانـة و الحجـابـة :
و السـادن هـو خـادم الـكـعـبـة و بيـت الأصـنـام ، و سـدنـة
الـكـعـبـة هـم حـجـابـهـا الـذيـن يـقـومـون عـلـى خـدمتهـا و
يـتـولـون أمـرهـا ، فلا يفتـح بـاب الكعبـة أحـد غيـر قصـي ، و
هـو الـذي يلـي أمـر خـدمتهــا و سـدانتهـا.
4 – السقـايـة و العمـارة :
و الـسـقـايـة هـي تـقـديـم المـاء و بعـض أنـواع الشـراب للحجيـج
حيث أنهـم كـانـوا يمـلأون للـحـجـاج حـيـاضـاً مـن المـاء ،
يـحـلـونـهـا بـشـيء مـن الـتـمـر و الـزبـيـب ، فـيـشـرب النـاس
منهـا إذا وردوا مـكـة . أمـا العمـارة فلهـا فـي اللغـة معـانـي
عـديـدة ، و قـد ورد معنـاهـا فـي حـق البيـت الحـرام أنهـا منـع
النـاس مـن أن يتكلمـوا فـي المسجـد الحـرام بهجـر أو رفـث أو أن
يـرفعـوا أصـواتـهـم فيـه.
5 – رفـادة الحـاج : كـانت
الـرفـادة خـرج تـخـرجـه قـريـش فـي كـل عـام مـن أمـوالـهـا
فـتـدفـعـه إلـى قصـي بـن كـلاب ليصنـع بـه طـعـامـاً للحجيـج علـى
طـريقـة الضيـافـة ، فيـأكـل منـه المحتـاج مِـن مَـن لـم يكـن لـه
سعـة و لا زاد ، و يستمـر حتـى تنقضـي أيـام الـحـج ، و قـد كـان
أول مـن صـنـع الـرفـادة قصـي بـن كـلاب.
و كـان كـل ذلك لـقـصـي ، و كـان ابـنـه عـبـد مـنـاف قـد
شـرف و سـاد فـي حيـاتـه ، و كـان عبـد الـدار بكـره ، فقـال لـه
قصـي : (لألحـقنـك بالقـوم و إن شـرفـوا عليـك) ، فـأوصـى لـه بمـا
كـان يليـه مـن مـصـالح قـريـش ، فأعـطـاه دار النـدوة و الحجـابـة
و اللـواء و السـقـايـة و الـرفـادة ، و كـان قـصـي لا يـخـالـف و
لا يـرد عليـه شـيء صـنـعـه ، و كـان أمـره فـي حيـاتـه و بعـد
مـوتـه كالـديـن المتبـع ، فلمـا هـلـك أقـام بنـوه أمـره لا نـزاع
بينهـم ، و لـكـن لـمـا هـلـك عـبـد مـنـاف نـافـس أبـنـاؤه بـنـي
عمهـم عبـد الـدار فـي هـذه المنـاصـب ، و افـتـرقـت قـريـش
فـرقـتـيـن ، و كـاد يكـون بينهـم قـتـال ، إلا أنهـم تـداعـوا
إلـى الصلـح ، واقتسمـوا هـذه المنـاصـب ، فصـارت السقـايـة و
الـرفـادة إلـى بـنـي عبـد مـنـاف ، و بقيـت دار النـدوة و اللـواء
و الحجـابـة بيـد بنـي عبـد الـدار ، و قيـل كـانـت دار النـدوة
بالإشتـراك بيـن الفـريقيـن ، ثـم حكـم بنـو عبـد منـاف القرعـة
فيمـا أصـابهـم ، فصـارت السقـايـة و الـرفـادة لهـاشـم و القيـادة
لعبـد شمـس ، فـكـان هـاشـم بـن عبـد منـاف هـو الـذي يلـي
الـسـقـايـة و الـرفـادة طـول حـيـاتـه ، فلمـا مـات خلفـه أخـوه
المطلـب بـن عبـد منـاف ، و ولـى بـعـده عـبـد المطـلـب بـن هـاشـم
بـن عـبـد مـنـاف جـد رسـول الله صلـى الله عـلـيـه و سـلـم ، و
بـعـده أبـنـاؤه حـتـى جـاء الإسـلام و الـولايـة إلـى العبـاس . و
يقـال إن قـصـيـاً هـو الـذي قـسـم المنـاصـب علـى أولاده ، ثـم
تـوارثـهـا أبنـاؤهـم حسـب التفصيـل المـذكـور ، و الله أعلـم . و
كـانـت لقـريـش منـاصـب أخـرى سـوى ما ذكـرنـا وزعـوها فيمـا
بينهـم ، و كـونـوا بهـا دويلـة أو شبـه دويلـة ديمقـراطيـة ، و
كانـت لهـم مـن الـدوائـر و التشكيـلات الحكـوميـة مـا يشبـه فـي
عصـرنـا هـذا دوائـر البـرلمـان و مجـالسهـا ، و هـاك لـوحـة مـن
تلك المنـاصـب:
1 – الأيسـار : أي تـوليـة
قـداح الأصنـام للإستقسـام ، كـان ذلك فـي بنـي جُـمَـح.
2 – تحجيـر الأمـوال : و
هـو نـظـم الـقـربـات و الـنـذور الـتـي تـهـدى إلـى الأصـنـام ، و
كـذلـك فـصـل الخصـومـات و المـرافعـات . كـان ذلك فـي بنـي سـهـم.
3 – الشـورى : كـانـت فـي
بنـي أسـد.
4 – الأشنـاق : و هـو نظـم
الـديـات و الـغـرامات ، كـان ذلـك فـي بنـي تَيْـم.
5 – العقـاب : و هـو حمـل
اللـواء القـومـي ، كـانـت ذلك فـي بنـي أميـة.
6 – القبـة : و هـو نظـم
المعسكـر ، و كـذلـك قيـادة الخيـل ، كـانـت فـي بنـي مخـزوم.
7 – السفـارة : كـانـت فـي
بنـي عـدي.
و كـانـت حـكـومـة الـحـجـاز تـنـظـر إلـيـهـا الـعـرب نـظـرة
تـقـديـر و احـتـرام ، و يـرونـهـا قـادة و سَـدَنـة المـركـز
الـدينـى ، و كـانـت تلـك الحـكـومـة فـي الحقيقـة خليـطـاً مـن
الصـدارة الـدنيـويـة و الحكـوميـة و الـزعـامـة الـدينيـة ، حكمـت
بيـن العـرب بـاسـم الـزعـامـة الـديـنـيـة ، و حـكـمـت فـي
الـحـرم و مـا والاه بصـفـتـهـا حـكـومـة تشـرف علـى مصـالـح
الـوافـديـن إلـى البيـت ، و تنفـذ حكـم شـريعـة إبـراهيـم ، و
لكـن هـذه الحكـومـة كـانـت ضعيفـة لا تقـدر علـى حمـل العـبء كمـا
وضـح يـوم غـزو الأحبـاش.
فالـواقـع الـذي يـؤيـده اســتـقـراء الحـوادث التـاريـخـيـة
التـي بيـن أيـدينـا عـن تلك الفتـرة مـن التـاريـخ هـو أن حـال
الحـضــر فـي الحـجـاز حـيـث ظـهـر الإسـلام و مـن حـيـث انـتـشـر
، لـم يـكـن أفـضـل حـالاً مـن البـدو مـن وجـهـة نـظـر السـيـاسـة
، و أن الحـالـة السيـاسيـة فـي مكـة لـم تـكـن تختلـف كـثيـراً
عنهـا فـي مـواطـن بقيـة القبـائـل العـربيـة الأخـرى ، فـرغـم
سـكـن أهـل الحـجـاز فـي مـدن كبيـرة نسبيـاً كمكـة و الـطـائـف و
المـدينـة فـإن الـعـلاقـات الـفـرديـة والإجتمـاعيـة كـانـت
تحكمهـا فـي الغـالـب هـي ذات القـواعـد التـي تحـكـم العـلاقـات
فـي حيـاة البـدو و لـم تـظهـر فـي هـذه المـدن سلـطـة سيـاسيـة
بالمعنـى المعـروف لـهـذه الكلمـة إلـى أن ظهـر الإسـلام و نـشـأت
دولـتـه فـي المـديـنـة ، فـلـم يـكـن هـنـاك نـظـام سـيـاسـي و
لـم تـعـرف تـلـك الـقـبـائـل سـلـطـة سـيـاسيـة علـى أي صـورة مـن
صـور السلطـة السيـاسيـة ، و قد حـاول بعـض البـاحثيـن أن يـثـبـت
أن أهـل مـكـة عـرفـوا نـوعـاً مـن التنظيـم السـيـاسـي قبـل
الإسـلام مستـدلاً علـى ذلك بـأن بعـض أهلهـا قـد عقـدوا حلفـاً
اسمـه حلـف الفضـول (الأحكـام السلطـانيـة لأبـي
الحسـن المـاوردي) تعـاقـدوا فـي أن ينصفـوا المظلـومـيـن
مـن الظـالميـن و أن ينصـروا المستضعفيـن عـلـى الـبـاغـيـن و نحـن
نـرى أن عقـد حلـف الفضـول فـي حـد ذاتـه يعتبـر دليـلاً كافيـاً
علـى غياب أي سلطـة سيـاسيـة عـن المجتمـع المكـي قبـل الإسـلام ،
إذ لـو وجـدت هـذه السلطـة لمـا كـان ثمـة مكـان لعقـد مثـل هـذا
الحلـف الـذي ضـم خمـس قبـائـل فقـط مـن قـريـش دون بـاقـي
القبـائـل ، و يـدل كـذلك علـى عـدم وجـود سلطـة سيـاسيـة يخضـع
لهـا الجميـع.