المصنفات التي كتبت في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم

مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة و
تأريخها

كتابة السيرة الشاملة و المستقلة و تطورها
التصنيف المستقل لجوانب السيرة و مفرداتها
المصنفات التي كتبت في خصائص الرسول صلى الله
عليه و سلّم

الفصل الثاني : كتابة السيرة
الشاملة و المستقلة و تطورها :

المبحث الرابع : التصنيف المستقل
لجوانب السيرة و مفرداتها :

المطلب السابع : المصنفات التي
كتبت في خصائص الرسول صلى الله عليه و سلّم :

     الـخـصـائـص فـي اللغـة هـي الأمـور التـي إنفـرد بهـا الشـيء
مـن دون غيـره (لسـان العـرب لمحمـد ابـن
منظـور)
، و مـن ثـم فـإن هـذا المصطلـح قـد ركـز فـي ذكـر
الأمـور و الـمـزايـا الـتـي أنـفـرد بهـا الـرسـول صلـى الله
عليـه و سلّـم عـن بـاقـي النـاس .

     لـم تـظـهـر فـي الـقـرون الأولـى اهتمـامـات ملحـوظـة مـن
قـبـل المهتميـن بسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم فـي
إفـراد مصنـف مستقـل للحـديـث عـن الخصـائـص التـي إنفـرد و امتـاز
بهـا الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم عـن بـاقـي البشـر . و إن
السبـب الـذي كـان وراء هـذا الـعـزوف عـن تـصـنـيـف مـثـل هـذه
الـكـتـب ، هـو أن كـتـبـاً فـي عـلـوم أخـرى قـد اسـتـأثـرت بـه ،
كـأبـواب النكـاح فـي كـتـب الفقـه
(تـذكـرة الفقهـاء للعـلامـة الحلـي الحسـن بـن
يـوسـف بـن المطهـر)
إذ بـيـن الـعـلامـة الـحـلـي
الأسـبـاب المـوجبـة إلـى اختصـاص الـرسـول صلـى الله عليـه و
سلّـم بمـزايـا لـم تكـن لأحـد مـن البشـر بقـولـه : (و لا شـك أن
الله تعـالـى قـد شـرف رسـولـه محمداً عليـه أفضـل الصـلاة و
السـلام و ميـزه عـن سـائـر خلقـه بـأن خصـه بأشيـاء فـرضهـا عليـه
دون خلقـه لمـا فـي أداء الفـرائـض مـن الثـواب فـإنـه لـم يتقـرب
المتقـربـون إلـى الله بمثـل أداء مـا افتـرض عليـه و أشيـاء
خطـرهـا علـى خلقـه فأنقسـم مـا خـص بـه عليـه السـلام إلـى تخفيـف
و تغليـظ و التغليـظ إلـى ايجـاب و تحـريـم)
(تـذكـرة الفقهـاء للعـلامـة الحلـي الحسـن بـن يـوسـف بـن
المطهـر)
.

     شكـل هـذا النـوع مـن التصنيـف فـي المسـائـل بالجـوانـب
الشخصيـة للـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم تطـوراً ملحـوظـاً في
كـتـابـة سـيـرتـه ، إذ نـجـد فـي هـذه الـمـصـنـفـات الـتـي كتبـت
عـن خصـائـص الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم تجـديـداً تمثـل
بابتكـار عنـوانـات و مـوضـوعـات جـديـدة لـجـوانـب الـسـيـرة لـم
تتطـرق لهـا المصنفـات الأولـى لسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه و
سلّـم ، أمـا التـي تعـرضـت لهـا فكـانـت نـتـفـاً مـتـفـرقـة فيها
(مناقـب آل أبـي طـالـب لأبـي جعفـر بـن شهـر آشـوب المـازنـدرانـي
– تـهـذيـب الأسمـاء و اللغـات لمحيـي الـديـن يحيـى بـن شـرف
النـووي)
.

     كـانـت الـمـصـنـفـات الـتـي كتبـت عـن خصـائـص الـرسـول صلـى
الله عليـه و سلّـم متـأخـرة نسبيـاً عـن بـاقـي المصنفـات الـتـي
كتبـت فـي القـرون الأولـى مـن تـأريـخ الإسـلام ، و كمـا أشـار
إلـى ذلك أحـد البـاحثيـن حيـن أحصـى هـذه المصنفـات
(معجـم مـا ألـف عـن رسـول الله صلـي الله عليـه و سلـم لصـلاح
الـديـن المنجـد)
، كـان أقـدم كـتـاب وصـل إلـيـنـا مـن
هـذه المصنفـات هـو كتـاب (نهـاية الـسـؤال فـي خـصـائـص الـرسـول
صلـى الله عليـه و سلّـم) لأبـي الخطـاب عمـر بـن حسـن بـن علـي
الأنـدلسـي ، المكنـى ابـن دحيـة الكلبـي (ت 633 هـ) ، و الـذي
كـان يكنـي نفسـه بـذي النسبيـن ، و هـو أحـد العلمـاء المشهـوريـن
بكثـرة المصنفـات فـي مختلـف العلـوم المعـروفـة آنـذاك و هـي
التفسيـر و الـحـديـث و اللغـة ، و كـان صـاحـب أيـاد بيـض علـى
كتـابـة سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم ، و ذلك لـوضعـه
مصنفـات عـديـدة فـي جـوانبهـا ، إذ تـشـيـر قـائـمـة مصنفـاتـه
إلـى وجـود مصنفـات فـي جـوانـب لـم يتطـرق لهـا أحـد مـن قبلـه
(وفيـات الأعيـان و أنبـاء أبنـاء الـزمـان لقـاضـي القضـاة شـمـس
الـديـن ابـن خلكـان – النجـوم الـزاهـرة فـي ملـوك مصـر و
القـاهـرة ليـوسـف بـن تغـري بـردي الأتـابكـي)
، و هـذه
الجـوانـب هـي :

     1 . مـولـد الـرسـول صـلـى الله عـلـيـه و سلّـم ، و ذلك فـي
كتـاب أسمـاه (التنـويـر فـي مـولـد السـراج المنيـر) ، إذ ذكـر
الـسـنـدوبـي أن ابـن دحـيـة هـو أول مـن صنـف فـي هـذا الجـانـب
مـن سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم
(تاريـخ الإحتفـال بالمـولـد النبـوي مـن عصـر الإسـلام الأول إلـى
عصـر فـاروق الأول لحسـن السنـدوبـي)
.

     2 . دلائـل النبـوة التـي ظهـرت مـن أعضـاء جسـم الـرسـول
صلـى الله عليـه و سلّـم ، إذ صنـف كتـابـاً حـوى هـذه الـدلائـل
أسـمـاه (الآيـات الـبـيـنـات فـي ذكـر أعـضـاء رسـول الله صـلـى
الله عليـه و سلّـم صـاحـب المعجـزات) (وفيـات
الأعيـان و أنبـاء أبنـاء الـزمـان لقـاضـي القضـاة شـمـس الـديـن
ابـن خلكـان)
.

     3 . شـرح أسمـاء النبـي ، و ذلك بكتـاب أسمـاه (المستـوفـي
فـي أسمـاء النبـي) .

     هـذه هـي الـجـوانـب الـتـي خـصـهـا ابـن دحـيـة الكلبـي
بالتصنيـف ، فـضـلاً عـن كتـابتـه مصنفـاً مستقـلاً فـي خصـائـص
الـرسـول صـلـى الله عليـه و سلّـم كـان أحـد الكتـب المتميـزة فـي
هـذا الجـانـب ، لأنـه أمتـاز بخصـائـص جعلتـه صـاحـب الـريـادة
فـي هـذا الجـانـب ، و هـذه الخصـائـص هـي :

     1 . استظهـار بـواطـن مـعـانـي الآيـات الـتـي تتضمـن ذكـراً
لخـاصيـة مـن خصـائـص الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم غيـر
بـارزة أول وهلـة للمتتبـع (نهاية السـؤال فـي
خصـائتص الـرسـول)
، فمـن هـذه الآيـات التـي استظهـر ابـن
دحيـة معـانيهـا آيـة : {يـا أَيُّـهَـا
الـرَّسُـولُ بَلِّـغْ مـا أُنْـزِلَ إِلَيْـكَ مِـنْ رَبِّـكَ
}
(سـورة المـائـدة ، الآيـة : 67)

، إذ استـدل بهذه الآيـة و غيـرها علـى أن الله سبحـانـه و تعـالـى
قـد نـادى حبيبـه محمداً صلـى الله عليـه و سلّـم بالنبـوة و
الـرسـالـة ، و نـادى سبحـانـه و تـعـالـى بقيـة الأنبيـاء
بأسمـائهـم ، إذ قـال مخـاطبـاً نبيـه داوود عليـه السـلام : {يـا
داوُدُ إِنَّـا جَعَلْنـاكَ خَلِيفَـةً فِـي الْأَرْضِ
} (سـورة ص ، الآيـة : 26) ، و
نـادى أيضـاً نـبـيـه زكـريـا عليـه الـسـلام : {يا
زَكَـرِيَّـا إِنَّـا نُـبَـشِّـرُكَ بِـغُـلامٍ اسْـمُـهُ
يَـحْـيـى لَـمْ نَـجْـعَـلْ لَـهُ مِـنْ قَـبْـلُ سَـمِـيًّـا
}
(سـورة مـريـم ، الآيـة : 7)
، و اسـتـدل ابـن دحـيـة
بـخـاصتيـة أخـرى غيـر هـذه فـي تلك الآيـات ، إذ خـاطب الله
سبحـانـه و تعـالـى نبيـه محمداً صلـى الله عليـه و سلّـم بصيغـة
الجمـع (يا أيها) ، و ذلك إن الكنـايـة عـن الأسـم غـايـة التعظيـم
للمخـاطـب المبجـل المكـرم و المـدعـو المـرفـع المعظـم .

     لـم يـكـن هـذا الإستظهـار لمعـانـي الآيـات القـرآنيـة بهـذه
الشـاكلـة و الصـورة و التـوسـع و المصـادر التـي سبقـت ابـن
دحـيـة ، و ذلـك لأن جـهـده فـي هـذا الأمـر كـان عـلـى مـحـوريـن
: الأول : جـمـع النصـوص المتنـاثـرة فـي كتـب التفسيـر و اللغـة و
الحـديـث و إدخـالهـا فـي مـصـنـفـه هـذا الـذي كـان يـشـيـر فيـه
إلـى تلك الكتـب و أسمـائهـا ، و المحـور الثـانـي : تمثـل
بـإكمـال مـا بـدأه سـابقـوه مـن مـفـسـري الـقـرآن الـكـريـم
بـإضـافـة الآيـات القـرآنيـة التـي لـم يـذكـروهـا علـى أن فيهـا
ذكـراً لخـاصيـة أمتـاز بهـا الـرسـول صلـى الله عليـه و سـلّـم
عـن بـاقـي الأنـبـيـاء و البشـر ، فـقـدم لنـا ابـن دحيـة فـي ذلك
نتـاجـاً جـاهـزاً جمـع فيـه مـا تنـاثـر مـن ذكـر لخصـائـص
الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم فـي المصنفـات التـي سبقتـه
فضـلاً عـن إثبـاتـه لخصـائـص أخـرى لـم تلتفـت إليهـا المصنفـات
التـي سبقتـه .

     تطلـب هـذا الأمـر مـن ابـن دحـيـة أن يسبـر أغـوار العـربيـة
و قـواعـدهـا ، و أن يحيـط بألفـاظهـا و مـدلـولات هـذه الألـفـاظ
مـن الـمـعـانـي ، فـلـولا تضلعـه مـن هـذه الأمـور لمـا نهـج هـذا
النهـج و الطـريقـة فـي كتـابـة خصـائـص الـرسـول صلـى الله عليـه
و سلّـم و رصـد الآيـات القـرآنيـة التـي استنبطهـا منهـا .

     2 . إعتمـاده فـي مـواطـن كثيـرة مـن كتـابـه هـذا علـى
الـروايـات المسنـدة ، علـى الـرغـم مـن طـول سلسلـة السنـد التـي
تبلـغ أكثـر مـن سبعـة شيـوخ .

     نـهـج ابـن دحيـة هـذا المسـلك لأنـه أراد أن يـذكـر
الـروايـات التـي تتعلـق بخصـائـص الـرسـول صلـى الله عليـه و
سلّـم و التـي يثبتهـا السـابقـون لـه فـي مصنفـاتهـم أو لـم تكـن
بهـذه الصـورة مـن العـرض ، إذ أوضـح هـذا الأمـر فـي مقـدمـة
كتـابـه التـي قـال فيهـا : (فـإنـي ذاكـر فـي هـذا الـكـتـاب بإذن
الله الـذي لا تـسـقـط ورقـة إلا بعلمـه .. مـا يسـر لـي حفظـه و
علمـه و قـدر لـي شـرحـه و فهمـه مـن خصـائـص الـرسـول صلـى الله
عليـه و سلّـم التـي لـم تجتمـع لمخلـوق و مـا أوجـب الله عـز و
جـل لـه علـى جميـع خلقـه مـن الحقـوق …) .

     3 . الإحـالـة إلـى مصنفـاتـه أو مصنفـات مـن سبقـه ، إذ
أحـال إلـى كتـابـه (التنـويـر فـي مـولـد السـراج المنيـر) عنـد
اخـتـصـاره للـروايـة التـي ذكـرت صـفـة حـوض الـكـوثـر و سـقـي
رسـول الله صلـى الله عليـه و سلّـم المـاء لأمتـه يـوم المحشـر ،
و أحـال أيضـاً إلـى كـتـابـه (الإبتهـاج فـي أحـاديـث المعـراج)
عنـد عـرضـه لتنـاقـض الـروايـات و اختـلاف الـروايـات فـي حـادثـة
الإسـراء و المعـراج ، فضـلاً عـن وجـود إحـالات أخـرى لمصنفـاتـه
فـي هـذا الـكـتـاب ، هـذا بالنسبـة إلـى مصنفـاتـه الـتـي أحـال
إليهـا ، أمـا بالنسبـة إلـى مصنفـات غيـره ، فقـد أسهـم فـي
إعـطـاء وصـف لـهـذه المصنفـات و طـريـقـة حـصـولـه عليهـا عـن
طـريـق الـوجـادة أم الـروايـة ، فمـن المصنفـات التـي أحـال
إليهـا كثيـراً فـي كـتـابـه هـذا كـتـاب (البـرهـان فـي علـوم
القـرآن) لأبـي الحسـن علـي بـن إبـراهيـم الحـوفـي ، إذ يـقـول
فـي إحـدى إحـالتـه علـى هـذا الكتـاب : (فحكـى أبـو الـحـسـن علـي
بـن إبـراهيـم الحـوفـي فـي كتـابـه البـرهـان فـي علـوم القـرآن و
هـو عنـدي فـي ثـلاثيـن مجلـداً و حـدثنـي بـه جمـاعـة مـن أشيـاخ
إجـازة إذ لـم يـدخـل هـذا الكتـاب قـط كـامـل فلـم يـروهـا إلا
إجـازة و سمـاعـاً منهـم) .

     4 . الـزهـو و الإعـجـاب و التفـاخـر بمـا طـرحـه فـي هـذا
الكتـاب مـن مـوضـوعـات لا يستطيـع أحـد بـرأيـه أن يـأتـي بمثلهـا
لأنـه لا يـوجـد فـي زمـانـه مـن هـو أعـلـم منـه بهـذه الأمـور ،
و هـذا مـا أوضحتـه مقـالتـه التـي مفـادهـا : (فليفتخـر بهـذا
الكتـاب مـن يـأخـذه عـنـي إذ لا أعـلـم أحـداً أعـلـم بالصحيـح
مـن السقيـم مـنـي فـهـو بحـر تلتطـم بالكتـاب و السنـة أمـواجـه و
تتقـاذف بـدرر الآداب أثبـاجـه تـنـقـل مـنـه الآثـار الصحيحـة و
تـروى و تـسـقـى مـن حيـاضـه النيـرة الشفـاه الظـامئـة فتـروى ،
فتتنـافـس فيـه البلـدان و تتعـاطـاه خـراسـان و بغـدان و تصغـي
إليـه القلـوب و تسمـع إليـه الآذان و تـردده الألسـن استطـابـة
كـأنهـا الآذان) .

     شـكـل اعـتـداد ابـن دحيـة بنفسـه و بكتـابـه الـذي صنفـه
سـابقـة خطيـرة لـم تعهـدهـا المصنفـات التـي سبقتـه ، إذ كـان
أغـلـب المصنفيـن الـذيـن استعـرضنـا كتبهـم فـي هـذه الـدراسـة
قـد بـالغـوا فـي التقليـل مـن قيمـة مـا كتبـوه و الإعتـذار مـن
قتراء كتبهـم هـذه ، إن بـدر مـنـهـم أي زلـل فـيـه لأنـه بـحـسـب
اعـتـقـادهـم لـم يـولـوا مصنفـاتهـم تلك عـنـايـة تـامـة ، و لـم
يبـذلـوا فيهـا جهـداً يستحـق المفـاخـرة ، مـع العلـم أنهـم
كـانـوا خـلاف مـا كـانـت عليـه مصنفـاتهـم مـن الهشـاشـة و
الإستـرسـال .

     بـيـن تـفـاخـر ابـن دحـيـة بنفسـه صـدق المقـالـة التـي
وصفـه بهـا أحـد المتـرجميـن لـه و التـي مفـادهـا : (كـان أبـو
الخطـاب يـدعـي أشيـاء لا حقيقـة لهـا) (الفلاكة
و المفلوكون لأحمد بن علي الدجلي)
.

     5 . تـوظيـف معظـم جـوانـب السيـرة المتفـرقـة و التقـاط مـا
يمكـن التقـاطـه مـن خـصـائـص الـرسـول صلـى الله عليـه و سـلّـم ،
إذ وظـف معجـزات الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم و قـارنهـا
بمعجـزات مـن سبقـه مـن الأنبيـاء ، فضـلاً عـن عـلاقتـه مـع
زوجـاتـه ، كـذلـك وظـف العقـائـد التـي دعـا الإسـلام إلـى
الإيمـان بهـا ، و لا سيمـا الـشـفـاعـة مـن قـبـل الـرسـول صلـى
الله عليـه و سـلّـم لمـذنبـي أمتـه ، إذ جعلهـا ابـن دحيـة مـن
ضمـن خصـائـص الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم .

     حـصـل هـذا الكتـاب علـى ثقـة العلمـاء الـذيـن تنـاولـوا
سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم ، لقنـاعتهـم بقيمتـه و
مـنـهـجـه فـي عـرض روايـاتـه ، إذ اعـتـمـد عـلـيـه الصـالحـي و
جـعـلـه فـي طليعـة مـصـادر السيـرة التـي كتبهـا للـرسـول صلـى
الله عليـه و سلّـم
(سبـل الهـدى و الـرشـاد فـي سيـرة خيـر العبـاد
لمحمـد بـن يـوسـف الصـالحـي الشـامـي)
.

     حـفـز هـذا الكتـاب علـى ظهـور مصنفـات أخـرى فـي خصـائـص
الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم و لكنهـا تـأخـرت إلـى بعـد
الـعـصـر الـعـبـاسـي ، إذ عـدد أحـد الـبـاحـثـيـن هـذه المصنفـات
و أجملهـا مـع ذكـر أمـاكـن وجـودهـا ، و ذلك لبقـاء معظمهـا
مخطـوطـاً حتـى الآن
(معجـم مـا ألـف عـن رسـول الله صلـي الله عليـه
و سلـم لصـلاح الـديـن المنجـد)
، و هـذا مـا يفسـر لنـا أن
الإهتمـام بالجـوانـب الـشـخـصـيـة للـرسـول قـد حصـل فـي مـراحـل
متـأخـرة مـن تـاريخنـا الإسـلامـي ، إذ وصـف أحـد البـاحثيـن هـذا
الأمـر بالقـول : (و قـد أضفـت الكتـب المتـأخـرة نـوعـاً متن
التقـديـس علـى شخصيـة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم لا يلمـح
فـي المصـادر الأولـى و يظهـر الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم
فـي أكـثـر الـروايـة مـبـكـراً كـمـا صـوره الـقـرآن الكـريـم …
و لـم تبـق شخصيـة الـرسـول علـى وجـه التقـريـب لمـا صـورتـه
السيـر الأولـى إلا عنـد المتمسكيـن بالـحـديـث فـإنـهـم علـى
شـعـورهـم بعظمتـه ظـلـوا ينظـرون إليـه مـن خـلال مـا صـح مـن
الأحـاديـث) (فن السيرة لإحسان عباس) .

     هـذه هـي المصنفـات المستقلـة لـجـوانـب الـسـيـرة المتعـددة
، مـع العـلـم أن هـذا الإستعـراض لـم يكـن حـاويـاً كـل
الـجـوانـب ، و ذلـك لـوجـود جـوانـب أخـرى مـن شخصيـة الـرسـول
صـلـى الله عليـه و سـلّـم أفـرد لـهـا مـؤرخـو السيـرة مصنفـات
عـدة ، فقسـم مـن هـذه المصنفـات ضـاع مـع مـا ضـاع مـن تـراثـنـا
، و قـسـم وصـل إليـنـا مخطـوطـاً و لـم يطبـع بعـد ، و لكـن هـذا
المخطـوط مـن هـذا التـراث لـم نستطـع الـحـصـول عليـه لـعـدم
تـوفـر الـوسـائـل و الإمكـانـات التـي تسـاعـدنـا علـى الـوصـول
إليـه ، و قـد كفـانـا أحـد البـاحثيـن مـؤونـة إحصـاء تلك
الـمـصـنـفـات ، و جـوانـب سيـرة الـرسـول صـلـى الله عـلـيـه و
سلّـم ، إذ أجمـل كـل واحـد منهـا علـى حـدة ، و أدخلـه فـي الحقـل
الـذي ينتمـي إليـه فـي سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم
(معجـم مـا ألـف عـن رسـول الله صلـي الله عليـه و سلـم لصـلاح
الـديـن المنجـد)
.

     هـذه هـي المصنفـات الـتـي كتبـت باستقـلاليـة عـن جـوانـب
متعـددة مـن سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم مـع ذكـر
الـمـحـاور التـي تـنـاولـتـهـا ، و التـي شكلـت بمجملهـا تطـوراً
جـذريـاً فـي كتـابـة السيـرة النبـويـة ، مـع الإشـارة ضمنـاً
إلـى أن هـذا التطـور الذي أوجـدتـه هـذه الـمـصـنـفـات لكتـابـة
السيـرة هـو تطـور أفقـي ، و ذلك لكثـرة الجـوانـب التـي
تنـاولتهـا هـذه المصنفـات مـن سيـرة الـرسـول صـلـى الله عـلـيـه
و سـلّـم و الإقـتـصـار فـي الـحـديـث عـن هـذه الـجـوانـب
بـمـصـنـف واحـد أو مصنفيـن أو أكـثـر فـي حـالات نـادرة ، و إن
وجـد فهـو تكـرار لمـا سـبـق مـن مصنفـات كتبـت فـي المـوضـوع
نفسـه ، و هـذا مـا أدى إلـى انحسـار التطـور العمـودي الـذي ظهـر
فـي جـوانـب قليلـة مـن هـذه المصنفـات و لا سيمـا كتـب الشمـائـل
و الـدلائـل .

     كـان هـذا الـتـطـور فـي كـتـابـة السيـرة الـنـبـويـة
بتخصيـص مصنفـات مستقلـة تتنـاول جـوانـب مجتـزئـة مـن سيـرة
الـرسـول صلـى الله علـيـه و سـلّـم بالإشـبـاع و الإستقصـاء مـن
أخـريـات بـل خـاتـمـة التطـورات التـي حصلـت فـي كتـابـة السيـرة
النبـويـة ، و ذلك لأن المصنفـات التـي كـتـبـت بعـد ذلك قـد
انحصـر فيهـا التطـور و التجـديـد و اقتصـرت علـى تكـرار مـا
ذكـرتـه المصنفـات السـابقـة ، باستثنـاء ظهـور نمـط جـديـد بعـد
هـذا العصـر تمثـل بكتـابـة السيـرة عـلـى هيـأة أراجيـز و شـروح
لهـذه الأراجيـز ، التـي كـانـت علـى حـد تعبيـر بعـض البـاحثيـن
لـغـايـات تعليميـة ظهـرت فـي القـرون المتـأخـرة
(علم التأريخ عند المسلمين لفرانتز روز نثال)
، و قـد أشـار
الـسـخـاوي إلـى هـذه الأراجيـز التـي كتبـت عـن سيـرة الـرسـول
صلـى الله عليـه و سلّـم و جـوانبهـا المختلفـة
(الإعـلان بالتـوبيـخ لمـن ذم أهـل التـاريـخ لشمـس الـديـن
السخـاوي)
.

     مـن هـذا كـلـه نـرى أن التطـور فـي كتـابـة السيـرة قـد
أكمـل حلقـاتـه فـي العصـر العبـاسـي ، أمـا مـا جـاء بعـد هـذا
العصـر فكـان مجـرد تكـرار لمـا صنـف فـي السيـرة و جـوانبهـا مـن
قبـل الأقـدميـن ليـس إلا .

الـخـاتـمـة :
     أفـرزت المبـاحـث التـي مـرت بعـد أن بينـا و رصـدنـا التطـور
الـذي حصـل فـي كتـابـة السيـرة النبـويـة فـي العصـر الـعـبـاسـي
مـن حـيـث أسـاليـب عـرضهـا ، و المنـاهـج التـي كتبـت بهـا
مصنفـات السيـرة و تـوابعهـا ، نتـائـج عـدّة ظهـرت بيـن ثنـايـا
السطـور ، لتكـوّن محصلـة نخـرج بهـا مـن هـذه الـدراسـة ، و هـذه
النتـائـج هـي :

     أولاً : إشتـراك
لفظتـي السيـرة و المغـازي بالمعنـى و المدلـول فـي استعمـالات
مـؤرخـي الـسـيـرة فـي بـدايـة كـتـابـتـهـا و الـتـصـنـيـف
فـيـهـا ، و لـكـن هـذا الإشـتـراك بـدأت عـراه بـالإنفصـال
تـدريـجـيـاً بـعـد أن اتسعـت مصنفـات السيـرة و متعلقـاتهـا و
أخـذت أبعـادهـا المـوضـوعيـة بالإستقـلال .

     ثـانيـاً : إتـسـمـت
الكـتـابـات الأولـى لسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم
بـالطـابـع الشخصـي فـي تـدوينهـا ، إذ كـانـت مجـرد جهـود فـرديـة
قـام بهـا ثلـة مـن الصحـابـة و التـابعيـن و سجلـوا بعـض الحـوادث
التـي تبيـن دور الرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم و مكـابـداتـه
فـي نشـر الإسـلام ، فضـلاً عـن تـدويـن الحـوادث التـي كـان لهـم
و لأفـراد قبيلتهـم دور بـارز فيهـا ، تـمـثـل بـمـوقـفـهـم فـي
الـدفـاع عـن الإسـلام و عـلاقـتـهـم بـالـرسـول صـلـى الله عليـه
و سلّـم ، فكـان مـن بعـض غـايـات هـذه المـدونـات المفـاخـرة
الـقـبـلـيـة التـي كـانـت سـائـدة بيـن القبـائـل العـربيـة قبـل
الإسـلام ، مـع وجـود غـايـات أخـرى تمثلـت بكـون بعـض هـذه
المـدونـات عبـارة عـن جـوابـات لـبـعـض الأسئلـة التـي كـان
الخلفـاء و الـولاة يطـرحـونهـا علـى المهتميـن بأخبـار السيـرة و
أحـداثهـا حـول بعـض المـواقـف و التصـرفـات التـي بـدرت مـن
الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم أو مـن المسلميـن أثنـاء سيـر
الـدعـوة ، حتـى كـانـت هتذه المـدونـات ، فضـلاً عمـا تنـاقلتـه
الألسـن مـن وصـف لبعـض الحـوادث ، هـي المـادة الأولـى لكتـابـات
الجيـل الثـانـي مـن التـابعيـن و تـابعـي التـابعيـن الـذيـن
دونـوا بعـض أحـداث السيـرة بـشـمـوليـة و اتسـاع أكثـر مـن
سـابقيهـم ليكـونـوا بمجهـودهـم هـذا الأسـاس الـذي استنـدت إليـه
المصنفـات الشـاملـة و المبـوبـة لسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه
و سلّـم و أحـوالـه .

     ثـالـثـاً : وقفـت
الـدولـة الأمـويـة مـتـمـثـلـة بخلفـائـهـا و ولاتـهـا ، إلا
الخليفـة عـمـر بـن عـبـد العـزيـز ، مـوقفـاً مضـاداً مـن كتـابـة
سيـرة شـاملـة للـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم و ذلك لشعـور
يختلـج فـي نفـوسهـم أن كـتـابـة الـسـيـرة النبـويـة بتفـاصيلهـا
معنـاهـا تشهيـر بمثـالـب آبـائـهـم و أجـدادهـم و مـواقفهـم
السلبيـة تجـاه الإسـلام و الـرسـول محمد صلـى الله عليـه و سلّـم
، مـن جـراء ذلك تـأخـرت كـتـابـة أول سيـرة شـاملـة للـرسـول صلـى
الله عليـه و سلّـم حتـى بـدايـة العصـر العبـاسـي أي بعـد مـا
يقـارب القـرن و نصـف القـرن مـن وفـاة الـرسـول صلـى الله عليـه و
سلّـم .

     رابـعـاً : بالضـد مـن
المـوقـف الـذي انتهجتـه الـدولـة الأمـويـة فـي تحجيـم تـدويـن
أحـداث الـسـيـرة ، أتبعـت الـدولة الـعـبـاسيـة متمثلـة
بخلفـائهـا الأوائـل سيـاسـة مغـايـرة للسيـاسـة الأمـويـة ، إذ
سمحـت بكتـابـة أول سـيـرة للـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم ، و
لـم تقتصـر عـلـى ذلك ، بـل دعـمـت و شجعـت ذلك ، و قـربـت
المهتميـن بـأخبـار السيـرة و أغـدقـت الهبـات عـلـيـهـم ، و لـكـن
هـذا الإهـتـمـام و الـدعـم لـم يكـن يجـري دون تنـازلات تـذكـر ،
بـل صـاحـب ذلك شطـب بعـض الـروايـات و حـذفهـا و لا سيمـا تلك
الـروايـات التـي تـتـحـدث عـن مـواقـف الـعـبـاس بـن عـبـد
المطلـب و أحـوالـه أثـنـاء الـدعـوة الإسـلاميـة ، مـع تفخيـم دور
البيـت العبـاسـي فـي انتشـار الإسـلام.

     خـامـسـاً : كـان
للتجـربـة التـي قـام بهـا ابـن إسحـاق حيـن كتـب أول سيـرة
شـامـلـة للـرسـول صـلـى الله عليـه و سـلّـم صـدى واسـع عـنـد
المسلميـن ، إذ حفـزت هـذه التجـربـة علمـاء المسلميـن و محـدثيهـم
علـى إفـراد مصنفـات تتنـاول حيـاة الـرسـول صلـى الله عليـه و
سلّـم و دوره فـي أحـداث عصـره خـاليـة مـن الأقـوال و الأحكـام
التشـريعيـة . فكـان ذلك بـدايـة لإنفصـال عـرى الـتـرابـط بيـن
سيـرة الـرسـول و حيـاتـه الشخصيـة مـن جهـة ، و بيـن أقـوالـه و
أفعـالـه مـن جهـة أخـرى ؛ مـع العلـم أن أقـوال الـرسـول صلـى
الله عـلـيـه و سـلّـم و أفـعـالـه عـدّت أحكـامـاً واجبـة
التنفيـذ مـن قبـل المسلميـن ، لأن السنـة النبـويـة الشـريفـة
المصـدر التشـريعـي الثـانـي بعـد الـقـرآن ، فـقـام المحـدثـون
بالإهتمـام بـهـذه الأحكـام و تـرك وصـف الحـوادث التـي عـاشهـا
الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم إلـى أهـل الأخبـار و مـن ثـم
المـؤرخيـن ، فنشـأ عـن هـذا الأمـر فـي بـدايتـه مجمـوع مـن
الإخبـارييـن عـرفـوا بأصحـاب المغـازي و السيـر.

     سـادسـاً : تـعـددت
مصنفـات الـسـيـرة و تكـاثـرت علـى طـول العصـر العبـاسـي بسبـب
تشعـب الغـايـات و المقـاصـد التـي مـن أجلهتا كتبـت ، و الظـروف
التـي أحـاطـت بكتـابتهـا أيضـاً . إذ كـانـت هنـالـك غـايـات
علميـة تمثلـت جـيـداً و بـوضـوح الأمـر بجهـود عبـد المـلك بـن
هـشـام المعـافـري فـي نقـد بعـض الأشعـار التـي حـوتهـا سيـرة
ابـن إسحـاق ، حيـن بيـن عبـد المـلك أن بـعـض هـذه الأشعـار
نسـبـت إلـى غـيـر قـائليهـا ، فضـلاً عـن ضعـف و ركـاكـة الأشعـار
الأخـرى ، و لكـن هـذه الغـايـة العلميـة التـي دفعـت بـابـن
هـشـام إلـى نـقـد الـشـعـر الـذي ورد فـي سـيـرة ابـن إسحـاق لـم
تسـر علـى وتيـرة واحـدة ، إذ تـأثـر ابـن هشـام بـوجهـات نظـر
عصـره عـن أحـداث الـسـيـرة و مـواقـف المـشـاركيـن فيهـا مـن
صحـابـة مسلميـن فضـلاً عـن المشـركيـن و غيـرهـم ، حيـث وجـدنـا
منـه مجـانبـة للحقيقـة حيـن غمـط بعـض الـحـقـائـق و الـروايـات
حقهـا حيـن وصفهـا بأنهـا ممـا يسـوء ذكـره ، فضـلاً عـن امتنـاع
شيخـه مـن إجـازتـه بـروايتهـا ، و لمسنـا غـايـات علميـة مـن
تصنيـف أحمـد بـن فـارس لمختصـره فـي سيـرة الـرسـول صلـى الله
عليـه و سلّـم الـذي ضغـط أخبـارهـا فـي ورقـات معـدودة لـم تتعـد
أصـابـع اليـديـن ، لـيـسـهـل عـلـى الـنـاس حفظهـا و استيعابها .
هـذا بالنسبـة إلـى الـغـايـات العلميـة ، أمـا بالنسبـة إلـى
الغـايـات الأخـلاقيـة ، فكـانـت هـذه الـغـايـات وراء الـثـراء
بالـتـصـنـيـف فـي سـيـرة الـرسـول صلـى الله عـلـيـه و سلّـم و
أحـوالـه و جـوانبـه الشخصيـة ، الأمـر الـذي أدى إلـى اختـلاف
المصنفـات التـي كـتـبـت مـن أجـل هـذه الـغـايـة مـن حيـث طـرحهـا
للـروايـات و للأسلـوب الـذي انتهجتـه فـي كتـابتهـا ، حتـى
وجـدنـا نـوعيـن مـن هـذه المصنفـات : الأول : اخـتـصـر فيـه
أصحـابـه الـروايـات التـي تعنـى بسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه
و سلّـم و أحـوالـه . أمـا النـوع الثـانـي : فقـد أسهـب أصحـابـه
فـي ذكـر الأخبـار و الأحـداث التـي رويـت عـن سيـرة الـرسـول صلـى
الله عليـه و سلّـم .

     سـابـعـاً : كـان
لـتـنـوع و تـشـعـب الـصـور التـي كتـب بهـا التـأريـخ عنـد
المسلميـن ، أثـر فـعـال فـي تضميـن مصنفـات الـتـأريـخ فـي
صـورهـا كـافـة ، بـسـرد متبـايـن لسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه
و سلّـم فيهـا ، يختلـف بـيـن مـصـنـف و آخـر بـحـسـب حـجـم كـل
واحـد مـنـهـا ، و بـحـسـب نـظـرة المـؤرخ للحيـز الـذي تستحقـه
السيـرة فـي كـل مصنـف مـن هـذه المصنفـات الـتـاريخيـة ، الأمـر
الـذي أوجـد خـزينـاً معـرفيـاً ثـراً لسيـرة الـرسـول صلـى الله
عليـه و سلّـم يضـاف إلـى بقيـة مصنفـات السيـرة و متعلقـاتهـا . و
قـد أضـفـت هـذه المصنفـات الـتـاريخيـة تنـوّعـاً ملحـوظـاً فـي
كتـابـة السيـرة ، لا مـن حيـث أسـاليـب العـرض فحسـب ، بـل مـن
حيـث تنـوع المنـاهـج التـي كتبـت بهـا هـذه المصنفـات لاختـلاف
الأوقـات التـي ظهـرت فيهـا .

     ثـامـنـاً : إن
لـعـظـمـة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم فـي نـفـوس المسلميـن
أثراً ملحـوظـاً فـي كتـابـة مصنفـات تتنـاول جـوانـب مـن سيـرتـه
تتميـز بالإستقـلاليـة و الفـرز عـن بـاقـي الجـوانـب الأخـرى
التـي تضمنتهـا السيـرة الـنـبـويـة ، إذ ظهـرت لأجـل ذلك مصنفـات
تخصصـت بعـرض شمـائـل الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم و أخـلاقـه
و صفـاتـه و عـلاقـاتـه مـع زوجـاتـه و أهـل بـيـتـه و المسلميـن ،
كـان الهـدف منهـا تعـريـف المسلميـن بطـريقـة عيشـه ، فضـلاً عـن
ذكـر حـوادث متفـرقـة مـن السيـرة فـي مصنفـات مستقلـة مثـل
حـادثـة المـولـد ، أو المغـازي و غيـرهـا، إذ كـان للعصـر الـذي
صنـف فيـه كـل مصنـف مـن هـذه المصنفـات التـي كتبـت مـن أجـل هـذه
الغـايـة أثـر واضـح فـي كتـابتـه و تـداولـه بيـن النـاس .

     تـاسـعـاً : أدت
الأفـكـار الإلـحـاديـة المنكـرة للنبـوات إلـى ظـهـور مصنفـات
أخـذت عـلـى عـاتقهـا مهمـة جمـع العـلامـات و الـدلائـل التـي
ظهـرت مـن الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم و التـي أكـدت نبـوتـه
، فضـلاً عـن ظهـور نمـط آخـر مـن المصنفـات التـي صـدرت عـن
المصنفـات السـابقـة عليهـا و التـي جمعـت العـلامـات و الـدلائـل
. و قـد تمثـل هـذا التصنيـف بكتـابـة مصنفـات تـقـوم علـى إثبـات
هـذه العـلامـات و الـدلائـل عقليـاً و نقليـاً، و إعطائهـا طـابـع
أسـاليـب المتكلميـن ليسهـم هـذان الإتجـاهـان فـي ظهـور مصنفـات
كـانـت مـن نتـاجـات كتـب الحـديـث و الكـلام .

     عـاشـراً : كـانـت
المصنفـات الأولـى الـتـي تـحـدثـت عـن سيـرة الـرسـول صلـى الله
عليـه و سـلّـم بمختلـف جـوانبهـا و مـتـعـلـقـاتهـا و أنـمـاط
كتـابتهـا و لا سيمـا مصنفـات القـرون الأربعـة الأولـى أكثـر
عقـلانيـة و رصـانـة مـن الـمـصـنـفـات الـتـي تلتهـا و التـي
كـانـت جمعـاً محضـاً و تكـراراً لـروايـات سـابقـة فضـلاً عـن
فسـح هـذه المصنفـات المجـال للـروايـات الضعيفـة و الـواهيـة أن
تـدخـل فـي هيكـل السيـرة ، و هـذا أوجـد كمـاً هـائـلاً مـن
الـروايـات التـي لـم تعـرفهـا الأصـول الأولـى لسيـرة الـرسـول
صلـى الله عليـه و سلّـم .

     أحـد عـشـر : تـلاقـح
و انـصـهـار أسـالـيـب منـاهـج المـؤرخيـن و المحـدثيـن فـضـلاً
عـن المتكلميـن و الفـلاسفـة و أهـل اللـغـة و الـتـفـسـيـر فـي
تشكيـل المصنفـات الـتـاريخيـة التـي وثقـت حـوادث السيـرة
النبـويـة بمختلـف جـوانـبـهـا حتـى تنـوعـت هـذه المصنفـات و
اختلفـت آليـات عـرض كـل واحـد منهـا بـوجـود وجهـات نظـر مختلفـة
كتبـت بمـوجبهـا سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم أو أحـد
جـوانبهـا .

     هـذه هـي مـحـصـلـة البحـث الـذي أثبتنـا فيـه أن كتـابـة
السيـرة النبـويـة قـد مـرت بمـراحـل تطـوريـة ، و تشكلـت
بـقـوالـب مختلفـة حـاكـت بـهـا العصـر الـذي صنفـت فيـه ، و بينـت
نفسيـة الكـاتـب الـذي دونهـا ، و وجهـة نظـره مـن أحـداثهـا و
مـدى ارتبـاطهـا و أثـرهـا فـي الأحـداث التـي سبقتهـا و التـي
تلتهـا .

     و قـبـل أن أنـهـي خـاتـمـة هـذه الـدراسـة يـجـب
الـتـنــويـه بـبـعـض الأمــور أو الـتـوصـيـات ، أحـسـب أن
الأخــذ بـهـا سـوف يـسـهـم فـي فـسـح مـجـال أكـبـر للـتـنـوع فـي
الـدراسـات عـن سـيـرة الـرسـول صـلـى الله عـلـيـه و سـلّـم و
جـوانبـهـا الـمـخـتـلـفـة ، و هـذه الـتـوصـيـات هـي :

     1 . نـشـر و تـحـقـيـق الـتـراث الفكـري المخطـوط للسيـرة
النبـويـة بمختلـف جـوانبـه مـع جعـل الأولـويـة للمصنفـات الأقـدم
أو التـي تنشـر جـانبـاً جـديـداً ، أو تسلـط مـزيـداً مـن الضـوء
عـن جـانـب مـن جـوانـب السيـرة النبـويـة الشـريفـة .

     2 . تجميـع الإقتبـاسـات و النقـول المبثـوثـة فـي مختلـف
المصنفـات عـن السيـرة النبـويـة لابـن إسـحـاق و إضـافتهـا
للتهـذيـب الـذي عملـه ابـن هـشـام لهـا و لا سيمـا الـروايـات
التـي لـم يثبتهـا الأخيـر فـي تهـذيبـه ، إذ يتبيـن بعد الإطـلاع
علـى مـوارد العـديـد مـن مصنفـي السيـرة أنهـم قـد ضمنـوا
مصنفـاتهـم نصـوصـاً عـدة مـن سيـرة ابـن إسحـاق ، فضـلاً عـن كـون
هـذه السيـرة هـي أحـد مصـادرهـم الـرئيسـة ، و مـن ثـم نستطيـع
الحصـول علـى مجمـوع مقـارب للسيـرة التـي كتبهـا محمد بـن إسحـاق
و التـي ضـاعـت مـع مـا ضـاع مـن تـراثنـا .

     3 . تـخـصـيـص دراسـات مستقلـة و مـوسعـة للمصنفـات و
المصنفيـن الـذيـن كـتـبـوا عـن سـيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه و
سـلّـم و جـوانـبـه الـشـخـصـيـة ، و ذلك لتكمـل هـذه الـدراسـات
مـا شـرعنـا فيـه بهـذا البحـث ، إذ كـان كتـاب (دلائـل النبـوة و
معـرفـة أحـوال صـاحـب الشـريعـة) لأبـي بـكـر الـبـيـهـقـي فـي
طليعـة هـذه المصنفـات ، لـتـشـعـب المنهـج الـذي كـتـب فيـه
مصنفـه هـذا ، و تعـدد المـوارد الـذي اعـتـمـدهـا فـي إثبـات
روايـاتـه . هـذا واحـد مـن الأمثلـة بـالنسبـة إلـى المصنفـات ؛
أمـا بـالنسبـة إلـى المصنفيـن فـإن ابـن الجـوزي بتـراثـه الفكـري
الـواسـع الـذي خلفـه لنـا و الـذي ضـم فـي معظمـه سيـرة متكـاملـة
للـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم يحتـاج إلـى دراسـة مـوسعـة
تتنـاول هـذه الكتـب و تحصـي إسهـامـات كـل واحـد منهـا و تبـاينـه
عـن الآخـر .

عن المدير