وقـائـع الـسـيـرة الـنـبـويـة
أهـم الأحـداث التـاريخيـة مـن قبـل البعثـة
حتـى نـزول الـوحـي
العالم قبل البعثة النبوية و أثناءها
أحوال الأقوام العربية قبل البعثة النبوية
طبقات العرب
الفصل الأول : العـالـم قبـل
البعثـة النبـويـة و أثنـاءهـا :
المبحث الثاني : أحـوال الأقـوام
العـربيـة قبـل البعثـة النبـويـة :
المطلب الخامس : طبقـات العـرب :
قسـم المـؤرخـون أقـوام العـرب إلـى ثـلاثـة أقسـام ؛ بحسـب
السـلالات التـي ينحـدرون منهـا :
العـرب البـائـدة :
و هـم العـرب القـدامـى الـذيـن انـقـرضـوا تـمـامـاً و لـم
يمكـن الحصـول علـى تفـاصيـل كـافيـة عـن تـاريخهـم ، مـثـل
قـبـائـل عـاد ، و ثـمـود ، و الـعـمـالـقـة ، و طَـسْـم ، و
جَـدِيـس ، و أُمَـيْـم ، و جُـرْهُـم ، و حَـضُـور ، و وَبـَـار ،
و عَبِيـل ، و جـاسـم ، و حَضْـرَمَـوت و مـن يتصـل بهـم ، و هـذه
بـادت قبـل الإسـلام ،
و كـان لـهـم مـلـوك امـتـد مـلـكـهـم إلـى الـشـام و مـصـر ،
و الـمـؤرخــون يـقـسـمــون العـرب البـائـدة إلـى قـسميـن :
العمـالقـة و هـم مـن نـسـل لاوز بـن سـام بـن نـوح ، و مـن
عـداهـم مـن نسـل إرم بـن سـام بـن نـوح ، فالأولـون يقـال لهـم
السـاميـون و الآخـرون الإرامـيـون ، و العـمـالـيـق ملكـوا مصـر
مـدة ، و أسـسـوا فيهـا أسـرة ملـوكيـة ، و ملكـوا العـراق و
أسسـوا بهـا دولـة تسمـى دولـة حـمــورابـي أول مـلـوكـهـم ، و
الـذي عـرف بالـقـانـون المـشـهـور : قـانـون حمـورابـي ، و ذلك
فـي القـرن الثـالـث و العـشـريـن قبـل الميـلاد .
العـرب العـاربـة :
و هـم الـعـرب المنحـدرة مـن صـلـب يَشْـجُـب بـن يَعْـرُب
بـن قَحْطـان ، و تسمـى بالعـرب القحطـانيـة . و مَهْـدُهـا
بـلاد اليمـن و قـد تشعبـت قبـائلهـا و بطـونهـا مـن ولـد سبـأ بـن
يشجـب بـن يعـرب بـن قحطـان . فاشتهـرت منهـا قبيلتـان حِمْيَـر
بـن سـبـأ ، و كَـهْـلان بـن سبـأ ، و أمـا بقيـة بنـى سبـأ و هــم
أحـد عشـر أو أربعـة عشـر بطنـاً فيقـال لهـم السبئيـون ، و ليسـت
لهـم قبـائـل دون سبـأ .
حميـر : و مـن أشهـر
بطـونهـا :
قضـاعـة : و منهـا
بَهْـراء وَ بِلـىٌّ و القَيْـن و كَلْـب و عُـذْرَة و وَبَـرَة .
السكـاسـك : و هـم بنـو
زيـد بـن وائلـة بـن حميـر ، و لقـب زيـد السـكـاسـك ، و هـي غيـر
سكـاسـك كِنْـدة الآتيـة فـي بنـى كَهْـلان .
زيــد الجمهــور : و
منهـا حميـر الأصغـر ، و سبـأ الأصغـر ، و حضـور ، و ذو أصبـح .
كهـلان : أشـهـر
بـطـونـهـا هَتمْـدان ، و ألْـهَـان ، و الأشْـعَـر ، و طـيـئ ، و
مَـذْحِـج ، و مـن مـذحـج عَـنْـس و الـنَّـخْـع ، و لَـخْـم ، و
مـن لخـم كـنـدة ، و مـن كـنـدة بـنـو مـعـاويـة و السَّكُـون و
السكـاسـك ، و جُـذَام ، و عـاملـة ، و خَـوْلان ، و مَعَـافِـر ،
و أنـمـار ، و مـن أنـمـار خَـثْـعَـم و بَـجِـيـلَـةَ ، و مـن
بـجـيـلـة أحْـمَـس و الأزْد ، و مـن الأزد الأوس ، و الخـزرج ، و
خُـزَاعـة ، و أولاد جَفْنَـة مـلـوك الشـام المعـروفـون بآل غسـان
.
و هـاجـرت بنـو كهـلان عـن الـيـمـن ، و انتشـرت فـي أنـحـاء
الـجـزيـرة ، يقـال كـانـت هجـرة معظمهـم قبيـل سَيْـل العَـرِم
حيـن فشلـت تجـارتـهـم لضغـط الـرومـان و سيطـرتهـم علـى طـريـق
التجـارة البحـريـة ، و إفسـادهـم طـريـق البـر بعـد احتـلالهـم
بـلاد مصـر و الشـام .
و يقـال بـل إنهـم هـاجـروا بعـد السيـل حيـن هـلك الحـرث و
النسـل بعـد أن كانـت التجـارة قـد فشلـت ، و كانـوا قـد فقـدوا
كـل وسـائـل العيش ، و يؤيـده سيـاق القـرآن : {
لَـقَـدْ كَـانَ لِـسَـبَـإٍ فِـي مَـسْـكَـنِـهِـمْ آيَـةٌ
جَـنَّـتَـانِ عَـن يَـمِـيـنٍ وَ شِـمَــالٍ كُـلُــوا مِـن
رِّزْقِ رَبِّـكُــمْ وَ اشْـكُــرُوا لَـهُ بَـلْـدَةٌ
طَـيِّـبَـةٌ وَ رَبٌّ غَـفُورٌ * فَـأَعْـرَضُـوا
فَـأَرْسَـلْـنَـا عَـلَـيْـهِـمْ سَـيْـلَ الْـعَـرِمِ وَ
بَـدَّلْـنَـاهُـم بِـجَـنَّـتَـيْـهِـمْ جَـنَّـتَـيْـنِ
ذَوَاتَـى أُكُـلٍ خَـمْـطٍ وَ أَثْـلٍ وَ شَـيْءٍ مِّـن سِـدْرٍ
قَـلِـيـلٍ * ذَلِـكَ جَـزَيْـنَـاهُـم بِـمَـا كَـفَــرُوا وَ
هَـلْ نُـجَـازِي إِلَّا الْـكَـفُــورَ * وَ جَـعَـلْـنَـا
بَـيْـنَـهُــمْ وَ بَـيْـنَ الْـقُـرَى الَّـتِـي بَـارَكْـنَـا
فِـيـهَـا قُـرًى ظَـاهِـرَةً وَ قَـدَّرْنَـا فِـيـهَـا
الـسَّـيْــرَ سِـيـرُوا فِـيـهَـا لَـيَـالِـيَ وَ أَيَّـامــاً
آمِـنِـيــنَ * فَـقَـالُــوا رَبَّـنَـا بَـاعِـدْ بَـيْـنَ
أَسْـفَـارِنَـا وَ ظَـلَـمُــوا أَنـفُـسَـهُـمْ
فَـجَـعَـلْـنَـاهُـمْ أَحَـادِيـثَ وَ مَـزَّقْـنَـاهُــمْ كُـلَّ
مُـمَـزَّقٍ إِنَّ فِـي ذَلِـكَ لَآيَـاتٍ لِّـكُـلِّ صَـبَّـارٍ
شَـكُـورٍ } (سـورة سبـأ ؛ الآيـات :
15 – 19) .
و لا غـرو إن كـانـت هـنـاك عـدا مـا تـقـدم مـنـافـسـة بـيـن
بـطـون كهـلان و بطـون حميـر أدت إلـى جـلاء كـهـلان ، فقـد يشيـر
إلـى هـذا بقـاء حميـر مـع جـلاء كهـلان .
و يمكـن تقسيـم المهـاجـريـن مـن بطـون كهـلان إلـى أربعـة
أقسـام :
الأزْد : و كانـت
هجـرتـهـم علـى رأي سيـدهـم و كبيـرهـم عمـران بـن عمـرو
مُـزَيْقِيـاء فسـاروا يتنقلـون فـي بـلاد الـيـمـن و يـرسـلـون
الـرواد ، ثـم سـاروا بـعـد ذلك إلـى الشمـال و الشـرق . و هـذا
تفصيـل الأمـاكـن الـتـي سكنـوا فيهـا بـعـد الـرحلـة نهـائيـاً :
آل عمـران بـن عمـرو : نـزل
عـمـران بـن عـمـرو فـي عُـمَـان ، و اسـتـوطـنـهـا هـو و بـنـوه ،
و هـم أزْد عُـمَـان و استـوطنـت بنـو نصـر بـن الأزد تُهـامـة ،
و هـم أزد شَنُـوءة .
و عَـطَـف ثَـعْـلَـبـة بـن عمـرو مـزيـقيـاء نحـو الحجـاز ،
فـأقـام بيـن الثعلبيـة و ذى قـار ، و لمـا كبـر ولـده و قـوى
ركنـه سـار نحـو المـدينـة ، فـأقـام بهـا و استـوطنهـا ، و مـن
أبنـاء ثعلبـة هـذا الأوس و الخـزرج ، ابنـا حـارثـة بـن ثعلبـة
.
و تنقـل منهـم حـارثـة بـن عمـرو و هـو خـزاعـة و بـنـوه فـي
ربـوع الحـجـاز ، حـتـى نـزلـوا بمـر الظـهـران ثـم افتتحـوا
الحـرم فقطنـوا مكـة و أجلـوا سكـانهـا الجـراهمـة .
و سـار جَفْنَـة بـن عمـرو إلـى الشـام فأقـام بهـا هـو و
بنـوه ، و هـو أبـو الملـوك الغسـاسنـة ؛ نسبـة إلـى مـاء فـي
الحجـاز يعـرف بغسـان ، كـانـوا قـد نـزلـوا بهـا أولاً قبـل
انتقـالهـم إلـى الشـام .
و انضمـت البطـون الصغيـرة إلـى هـذه القبـائـل فـي الهجـرة
إلـى الـحـجـاز و الـشـام ، مثـل كـعـب بـن عـمـرو ، و الحـارث بـن
عـمـرو ، و عـوف بـن عـمـرو .
لخـم و جـذام : انتقلـوا
إلـى الشـرق و الشمـال ، و كـان فـي اللـخـمـييـن نصـر بـن ربيعـة
أبـو الملـوك المنـاذرة بالحيـرة .
بنـو طيـئ : سـاروا بعـد
مسيـر الأزد نحـو الـشـمـال حـتـى نـزلـوا بالجبليـن أجـأ و سلمـى
، و أقـامـوا هنـاك ، حتـى عـرف الجبـلان بجبلـي طيـئ .
كـنـدة : نـزلـوا
بالبحـريـن ، ثـم اضـطـروا إلـى مغـادرتهـا فنـزلـوا بـحـضـرمـوت
، و لاقـوا هـنـاك مـا لاقـوا بالـبـحـريـن ، ثـم نـزلـوا نجـدًا ،
و كـونـوا هـنـاك دولـة كـبـيـرة الـشـأن ، و لكنهـا سـرعـان مـا
فنيـت و ذهبـت آثـارهـا .
و هنـاك قبيلـة مـن حميـر مـع اختـلاف فـي نسبتهـا إليـه و
هـي قضـاعـة هجـرت اليمـن و استـوطنـت بـاديـة السمـاوة مـن مشـارف
العـراق ، و استـوطـن بعـض بطـونهـا مشـارف الشـام و شمـالـي
الحجـاز .
العـرب المستعـربـة : و
هـي العـرب المنحـدرة مـن صـلـب إسـمـاعـيـل عـلـيـه الـسـلام ، و
تسـمـى بالعـرب العـدنـانيـة . و أصـل جـدهـم الأعلـى و هـو
سيـدنـا إبـراهـيـم عـلـيـه الـسـلام مـن بـلاد الـعـراق ، مـن
مـدينـة يقـال لهـا (أر) علـى الشـاطـئ الغـربـي مـن نهـر الفـرات
، بالقـرب مـن الكـوفـة ، و قـد جـاءت الحـفـريـات و التنقيبـات
بـتفـاصيـل واسعـة عـن هـذه المـدينـة ، و عـن أسـرة إبـراهيـم
عليـه السـلام و عـن الأحـوال الـدينيـة و الإجتمـاعيـة فـي تـلـك
البـلاد .
و معـلوم أن إبـراهـيـم عـلـيـه السـلام هـاجـر مـنـهـا إلـى
حـاران أو حَـرَّان ، و منهـا إلـى فلسطيـن ، فاتخـذهـا قـاعـدة
لـدعـوتـه ، و كـانـت لـه جـولات فـي أرجـائهـا و أرجـاء غيـرهـا
مـن الـبـلاد ، و فـي إحـدى هـذه الجـولات أتـى إبـراهيـم عـلـيـه
السـلام علـى جبار مـن الجبـابـرة ، و معـه زوجتـه سـارة ، و
كـانـت مـن أحسـن النسـاء . فقـال لهـا : (إن هـذا الجبـار إن
يعلـم أنـك امـرأتـي يغلبنـي عليـك ، فـإن سـألـك فـأخـبـريـه
أنـكِ أخـتـي . فـإنـكِ أخـتـي فـي الإسـلام . فـإنـي لا أعـلـم
فـي الأرض مسلمـاً غيـري و غيـرك) . فلمـا دخـل أرضـه رآهـا بعـض
أهـل الجبـار فأتـاه . فقـال : (لقـد قـدم أرضـك امـرأة لا ينبغـي
أن تكـون إلا لـك) . فـأرسـل إليهـا ، فأُتـيَ بهـا . فقـام
إبـراهيـم إلـى الصـلاة . فلمـا دخـلـت عـلـيـه لـم يـتـمـالـك أن
بـسـط يـده إليهـا . فَقُبِضَـتْ يـده قبضـة شـديـدة . فقـال لهـا
: (أدعـي الله أن يطلـق يـدي ، فـلـك الله أن لا أضـرك) . فـفـعلـت
، فـعـاد فَقُبِـضَـتْ يـده أشـد مـن القبضـة الأولـى . فقـال لهـا
مثـل ذلـك ، فعـاد فَقُبِضَـتْ يـده أشـد مـن القبضتيـن الأولتيـن
. فـقـال لـهـا : (أدعـي الله أن يـطـلـق يـدي ، و لـك أن لا
أضـرك) ، فـفـعـلـت . فأطلـقـت يـده . و دعـا الـذي جـاء بـهـا ،
فـقـال لـه : (إنـك إنمـا جـئـتـنـي بـشـيـطـان و لـم تـأتنـي
بـإنسـان ، فـأخـرجـهـا مـن أرضـي) ، و أعـطـاهـا هـاجـر .
فأقـبـلـت فـلـمـا رآهـا إبـراهـيـم انـصـرف ، فـقـال لهـا :
(مَـهْـيَـم؟) قـالـت : (خـيـراً . كـف الله يـد الـفـاجـر ، و
أخـدم خـادمـاً) .
فـوهبـت سـارة خـادمتهـا هـاجـر لإبـراهـيـم و قـالـت لـه :
(إنـي كـبـرت يـا إبـراهـيـم و صـرت عجـوزاً فـانيـة و انقطـع
أمـلـي أن يـكـون لـي ولـد بعـد هـذا السـن ، و هـذه جـاريتـي
هـاجـر قـد وهبتهـا لـك عسـى أن يـرزقـك الله منهـا ولـداً تقـر
بـه عينـك) . و رجـع إبـراهيـم عليـه السـلام إلـى قـاعـدتـه فـي
فلسطيـن ، و دخـل بهـاجـر فـرزق منهـا بـولـد أسمـاه إسمـاعيـل .
فـرح إبـراهـيـم فـرحـاً عـظـيـمـاً بـولـده إسـمـاعـيـل و
فـرحـت بـه أمـه هـاجـر و أخـذت تـحـس بـمـكـانـهـا فـي الـبـيـت و
تـشـعـر أنـهـا لـم تـعـد خـادمـة كـمـا كـانـت بـل أصبحـت أمـاً
تفتخـر بـولـدهـا و تعتـز بـه كـمـا تعتـز الأمهـات و أحـسـت سـارة
أن خـادمتهـا قـد تـغـيـرت لهـا و غـدت تـعـتـز بمـكـانهـا فـى
الأسـرة و أحـسـت كـذلـك أن إبـراهيـم يـزداد فـرحـة بإسمـاعـيـل
يـومـاً بعـد يـوم و أن عنـايتـه كـذلـك تـزداد بـأمـه هـاجـر ،
فـأخـذتهـا الغيـرة و حـز فـي نفسهـا أن يكـون لخـادمتهـا ولـد و
ليـس لهـا ولـد .
و كان إبـراهـيـم حـريـصـاً أشـد الحـرص عـلـى رضـا سـاره
لأنهـا شـريكـة حيـاتـه و رفيقـة صبـاه و شيخـوتـه فلمـا أحـس بـأن
الـغـيـرة قـد أخـذتهـا مـن جـاريتـهـا هـاجـر أراد أن يفـرق
بينهمـا فـأخـذ هـاجـر و ابنـه إسمـاعيـل و انطلـق بهمـا يسيـح فـى
أرض الله و مـازال يتنقـل مـن مكـان إلـى مكـان حتـى حـط رحـالـه
فـي أرض مكـة .
و كـانـت مكـة ذلك الحيـن أرضـاً مـوحشـة خـاليـة مـن الـنـاس
و الـزرع و المـاء ، و لكـن الله أوحـى إلـى إبـراهيـم أن يـتـرك
ابـنـه إسمـاعـيـل و أمـه هـاجـر فـي هـذه الأرض فـاسـتـجـاب
إبـراهيـم لأمـر ربـه و تـركهمـا فـي هـذا المكـان القفـر ، و تـرك
معهمـا جـرابـاً بـه قليـل مـن التمـر و سقـاء فيـه قليـل مـن
المـاء ، ثـم قفـل راجعـاً إلـى زوجـه سـارة فـي أرض فلسطيـن .
لـمـا هـم أن يـنـصـرف تـعـلـقـت بـه هـاجـر و قـالـت لـه :
(إلى أيـن يـا إبـراهـيـم ؟ أتتـركنـا فـي هـذه الأرض الخـلاء ، لا
طـعـام لنـا و لا شـراب ، و لا أنـيـس و لا مـغـيـث ؟) فتـأثـر
إبـراهيـم و غلبتـه عينـاه فلـم يستطيـع أن ينظـر إليهمـا و انطلـق
يمشـي فـي طـريقـه و لـكـن هـاجـر لـم تـتـركـه و ظـلـت متعلقـة
بـه تصيـح : (إلـى أيـن يـا إبـراهـيـم ؟ إلـى أيـن يـا إبـراهيـم
؟) و ظـل إبـراهيـم منظلقـاً فـي طـريقـه لا يتلفـت إلـيـهـا و لا
إلـى ولـده ، فلمـا رأت أنـه لا يجيبهـا و لا يتلفـت إلـيـهـا
سـألـتـه قـائـلـة : (الله أمـرك بـذلـك ؟) قـال : (نـعـم) قـالـت
: (إذن فـهـو لـن يتخلـى عـنـا و لـن يضيعنـا) . و قفلـت راجعـة
إلـى صغيـرهـا .
أمـا إبـراهـيـم فـقـد ظـل مـنـدفـعـاً فـي طـريـقـه لا
يـلـوي علـى شـئ حتـى وصـل إلـى منعطـف الطـريـق ، و هنـالك جـاشـت
نفسـه بـعـاطفـة الـرحمـة لهـذيـن الضعيفيـن طفلـه و جـاريتـه
فألقـى عليهمـا نظـرة دامعـة ثـم رفـع يـديـه إلـى السمـاء
ضـارعـاً و هتـف يـدعـو الله قـائـلاً : {
رَبَّـنَــا إِنِّـي أَسْـكَـنـتُ مِـنْ ذُرِّيَّتِـي بِــوَادٍ
غَـيْـرِ ذِي زَرْعٍ عِـنْـدَ بَـيْـتِــكَ الْـمُـحَــرَّمِ
رَبَّـنَـا لِـيُـقِـيمُــوا الـصَّـلاةَ فَـاجْـعَـلْ
أَفْـئِـدَةً مِـنَ النَّـاسِ تَـهْـوِي إِلَيْهِـمْ وَ
ارْزُقْهُـمْ مِـنَ الـثَّـمَـرَاتِ لَـعَـلَّـهُـمْ
يَـشْـكُـرُونَ } (سـورة إبـراهيـم ؛
الآية : 37) . ثـم انثنـى فـي طـريـقـه و قـد اطـمـأن قلبـه
و سكنـت نفسـه و أيقـن أن الله الـذي لا تنـام عينـه سيحـوطهمـا
بـرعـايتـه . و هكـذا سـار إبـراهيـم إلـى فلسطيـن و هـو مطمئـن
إلـى رعـايـة الله لطفلـه و جـاريتـه .
أمـا هـاجـر فـقـد عـادت إلـى ولـدها تـضـمـه إلـى صـدرهـا و
تغـمـره بحنـانهـا مستسلمـة لأمـر الله ، و مـوقنـة بـأن الله
مـعـهـا و أنـه مـا سـاقـهـمـا إلـى هـذا المكـان الـقـفـر إلا
لحكمـة يعلمهـا ، و أمـر يـدبـره ، و مـا هـي إلا لحظـة حـتـى
كفكفـت دمـوعهـا و ابتسمـت لـطـفـلـهـا ، و جـعـلـت تـأكـل فـي
هـدوء و اطـمـئـنـان ثـم مـدت فـمـهـا إلـى سقـاء المـاء فأخـذت
منـه جـرعـة ثـم قـالـت : (الحمـد لله الـذي أطعمنـي فأشبعنـي و
سقـانـي فـأروانـي) .
و مـا زالـت هـاجـر تـأكـل مـن الـتـمـر و تـشـرب مـن المـاء
حتـى فـرغ التمـر و المـاء و أصبحـت لا طعـام عنـدهـا و لا مـاء .
مـاذا تفعـل أذن ؟ لـم تـجـزع و لـم تيـأس و ظلـت صـابـرة
علـى الجـوع و العطـش و هـي فـي كـل لحظـة تنتظـر فـرج الله و
رحمتـه .
و طـال بهـا الإنتظـار و تمـادى بهـا الـصـبـر و اشـتـد بـهـا
الجـوع و الظمـأ ، و لكـن كيـف يتسنـى لهـذا الطفـل الضعيـف أن
يصبـر ؟
لقـد أخـذ الطفـل يتلـوى مـن الألـم و يئـن أنينـاً ينفطـر
لـه القلـب ، و أمـه تنظـر إليـه حـائـرة لا تـدري مـاذا تفعـل . و
مـا زال الطفـل يئـن و يبكـي و نفسـه تتهـافـت و صـوتـه يتخـافـت
حتـى كـادت نفسـه تفيـض . هنـالـك لـم تستطـع أمـه صبـراً و لـم
تطـق إلـى وليـدهـا و هـو علـى هـذه الحـال ، فانطلقـت تجـري ههنـا
و ههنـا لعلهـا تجـد أحـداً يسعفهـا بشـربـة مـاء .
و كـان الصفـا أقـرب جـبـل إليهـا فـصـعـدت عليـه و تطلعـت
حـواليهـا فلـم تـر أحـداً ، فنـزلـت تهـرول إلـى بطـن الـوادي
حتـى وصلـت إلـى المـروة فصعـدت فـوقـه و تطلعـت فـلـم تـر أحـداً
، فعـادت إلـى الصفـا ثـم إلـى المـروة حتـى أتمـت سبعـة أشـواط و
هـي تجـري مكـروبـة ملهـوفـة .
فلمـا انتهـت إلـى المـروة فـي الشـوط السـابـع سمعـت صـوتـاً
يـرن فـي أذنيهـا ، فتسمعـت و أنصتـت ، فسمعـت مـرة أخـرى ،
فصـاحـت قـائلـة : (يـا صـاحـب الصـوت أغثنـا إن كـان عنـدك غـوث)
ثـم التفتـت تنظـر إلـى الطفـل فـإذا ملـك مـن السمـاء يهبـط نحـوه
و حتـى حـط بجـانبـه فـأنـدفعـت نحـوه مسـرعـة ، فـإذا الملـك
يفحـص بـرجلـه فـي الأرض فينبثـق المـاء مـن بيـن أصـابعـه
متـدفقـاً فـواراً .
فـكـبـرت هـاجـر و انكبـت عـلـى المـاء تحـوشـه بيـديهـا و
هـي تقـول (زم زم) و جعلـت تغـرف منـه فـي سقـائهـا و هـي تفـور و
تفـور و يسيـح مـا حـولـه مـن الـرمـال و الصخـور .
و هـكـذا سـقـت هـاجـر رضيعهـا و أروت ظـمـأهـا ، و سجـدت لله
شكـراً علـى مـا أدركهـا بـه مـن الغـوث و الـرحمـة ، أمـا الملـك
فـقـد ارتفـع محلـقـاً فـي السـمـاء بعـد أن ودع هـاجـر و طفلهـا ،
و بعـد أن ألقـى فـي روعهـا أن الله معهـا ، و أنـه سيشملهمـا
بخيـر كثيـر . و جـعـلـت هـاجـر تـتـطـلـع إلـى الملـك و هـو محلـق
فـي الـسـمـاء حتـى اختفـى عنهـا ، فلمـا غـاب عـن نـاظـريهـا
أحسـت بالـوحشـة ، و ودت لـو أنـه بـقـي مـعـهـا فـلـم يفـارقـهـا
، و تطلعـت نـفـسـهـا إلـى الأنـس فـي هـذه الـوحـدة الـمـوحـشـة ،
و تـمـنـت لـو أن الله سـاق إليهـا جمـاعـة مـن النـاس يـزيلـون
عنهـا وحشـة العـزلـة و الإنفـراد .
و فـي ذلـك الـوقـت كـانـت قـبـيـلـة مـن قـبـائـل العـرب
تسمـى قبيلـة جُـرْهُـم الثـانيـة (بضـم الجيـم و الهـاء) تسيـر
عبـر الصـحـراء متـجـهـة إلـى الشمـال فـرأوا طـائـراً يلحـق فـوق
(زمـزم) حيـث تقيـم هـاجـر و ابنهـا إسمـاعيـل ، فقـال قـائلهـم :
(لاشـك أن ههنـا مـاء قـريبـاً ، فـإن الطيـور لا تـحـلـق إلا
حـيـث يـكـون المـاء) أرسـلـوا واردهـم ليبحـث عـن ذلـك المـاء ،
فمـازال يبحـث حتـى اهتـدى إلـى مكـان النبـع فـانـقـلـب إلـى
أصحـابـه فـرحـاً يصـيـح بالـبـشـرى ، فـأقبلـوا مـسـرعيـن
يتسـابقـون إلـى المـاء ، فلمـا رأوا عنـده هـاجـر أدركـوا أنهـا
صـاحبـة المـاء ، فاستـأذنـوها فـي النـزول عنـد مـائهـا ، فـأذنـت
لهـم .
و هـكـذا نزلـت قـبيـلـة جـرهـم عـنـد مـاء زمـزم فـأنـسـت
بهـم هـاجـر و أنسـوا بهـا و طـابـت لهـم الحيـاة فـي هـذا المكـان
، فـأقـامـوا و شـب إسـمـاعيـل بينهـم و اختلـط بهـم و بـأولادهـم
، فتعلـم منهـم لغـة العـرب ، و نشـأ يتكلمهـا كمـا يتكلمـونـهـا .
فـلـمـا كـبـر إسـمـاعيـل و بـلـغ مـبـلـغ الـرجـال تـزوج مـن
قبيلـة جـرهـم و صـار لـه مـن بـعـد ذلك بنـون و بنـات و تـوطـدت
صلـة إسمـاعيـل بالعـرب حتـى غـدا كـواحـد مـنـهـم . و بـارك الله
فـي ذريـة إسمـاعـيـل فـأخـذت تتنـاسـل فـي هـذه البقعـة
المبـاركـة و تتـوالـد فيهـا جيـلاً بعـد جيـل ، حتـى ولـد منهـا
محمد رسـول الله صلـى الله عليـه و سلـم .
و كـان إبراهيـم عليـه السـلام يـرتحـل إلـى مكـة ليطـالـع
تـركتـه بهـا ، و لا يعلـم بالضبـط عـدد هـذه الرحـلات ، إلا أن
المصـادر المعتمـدة حفظـت لنـا أربعـة منهـا :
الـرحلـة الأولـى : ذكـر
الله تعـالـى فـي القـرآن الـكـريـم أنـه أرى إبـراهـيـم فـي
الـمـنـام أنـه يـذبـح إسمـاعـيـل ، فقـام بـامـتثـال هـذا الأمـر
: { فَـلَـمَّـا أَسْـلَـمَـا وَتَـلَّـهُ
لِلْـجَـبِـيـنِ * وَ نَـادَيْـنَـاهُ أَنْ يَـا إِبْـرَاهِـيـمُ *
قَـدْ صَـدَّقْـتَ الـرُّؤْيَـا إِنَّـا كَـذَلِـكَ نَـجْـزِي
الْمُـحْـسِـنِـيـنَ * إِنَّ هَـذَا لَـهُـوَ الْبَـلاء
الْمُـبِـيـنُ * وَ فَـدَيْـنَـاهُ بِـذِبْـحٍ عَـظِـيـمٍ }
(سـورة الصـافـات ؛ الآيات : 103 – 107) .
و قـد ذكـر فـي سِـفْـر التكـويـن أن إسمـاعيـل كـان أكبـر
مـن إسحـاق بثـلاث عشـرة سنـة ، و سيـاق القصـة يـدل علـى أنهـا
وقعـت قبـل ميـلاد إسحـاق ؛ لأن البشـارة بإسحـاق ذكـرت بعـد سـرد
القصـة بتمـامهـا .
و هـذه الـقصـة تتضـمـن رحلـة واحـدة علـى الأقـل قبـل أن
يشـب إسمـاعيـل ، أما الـرحـلات الثـلاث الأخـر فقـد رواهـا
البخـاري بطـولهـا عـن ابـن عبـاس مـرفـوعـاً ، و ملخصهـا :
الـرحلـة الثـانيـة : أن
إسماعــيــل عــلـيـه الــسـلام لمـا شـب و تـعـلـم الـعـربـيـة
مـن جُـرْهُــم ، و أنفسهـم و أعجـبـهـم زوجـوه امـرأة مـنـهـم ، و
مـاتـت أمـه ، و بـدا لإبـراهـيـم أن يـطـالـع تـركـتـه ، فـجـاء
بـعـد هـذا الـزواج ، فلـم يجـد إسمـاعيـل ، فسـأل امـرأتـه عنـه و
عـن أحـوالهمـا ، فـشـكـت إليـه ضـيـق العيـش فـأوصـاهـا أن تقـول
لإسمـاعيـل أن يغيـر عتبـة بـابـه ، و فهـم إسمـاعيـل مـا أراد
أبـوه ، فطلـق امـرأتـه تلـك و تـزوج امـرأة أخـرى و هـي ابنـة
مُضَـاض بـن عمـرو ، كبيـر جـرهـم و سيـدهـم علـى قـول الأكثـر .
الـرحلـة الثـالثـة : و
جـاء إبراهيـم عليـه الـسـلام مـرة أخـرى بـعـد أن تـزوج إسمـاعيـل
هـذه الـزوجـة الثـانيـة ، فلـم يجـده فـرجـع إلـى فلـسـطيـن بـعـد
أن سـأل زوجتـه عنـه و عـن أحـوالهمـا ، فأثنـت علـى اللّه بخيـر ،
فـأوصـى إلـى إسمـاعيـل أن يُثَبِّـتَ عَتَبَـة بـابـه .
الـرحلـة الـرابعـة : ثـم
جـاء إبـراهيــم عليـه الـســلام بـعـد ذلك فـلـقـى إسـمـاعـيـل ،
و هـو يَـبْـرِى نَبْـلاً لـه تحـت دوحـة قـريبـاً مـن زمـزم ،
فلـمـا رآه قـام إلـيـه فـصنـع كـمـا يصنـع الـوالـد بالـولـد و
الـولـد بالـوالـد ، و كـان لقـاؤهمـا بعـد فتـرة طـويلـة مـن
الـزمـن ، قلـمـا يـصـبـر فيهـا الأب الكبيـر الأواه العطـوف عـن
ولـده ، و الـولـد البـار الصـالـح الـرشيـد عـن أبيـه ، و فـي
هـذه الـمـرة بـنـيـا الـكـعـبـة ، و رفـعـا قـواعـدهـا ، و أذَّن
إبـراهيـم فـي النـاس بـالحـج كمـا أمـره الله .
و قـد رزق الله إسمـاعيـل مـن ابـنـة مُـضَـاض اثـنـى عـشـر
ولـدًا ذكـرًا ، و هـم نـابـت أو نـبـايـوط ، و قَـيْـدار ، و
أدبـائيـل ، و مِبْشـام ، و مِشْمـاع ، و دومـا ، و مِيشـا ، و
حـدد ، و تيمـا ، و يَطُـور ، و نَفيـس ، و قَيْـدُمـان .
و تشـعـبـت مـن هـؤلاء اثنتـا عشـرة قبيلـة ، سكنـت كلهـا فـي
مكـة مـدة مـن الـزمـان ، و كـانـت جـل معيشتهـم إذ ذاك الـتـجـارة
مـن بـلاد اليمـن إلـى بـلاد الشـام و مـصـر ، ثـم انتشـرت هـذه
القبـائـل فـي أرجـاء الجـزيـرة بـل و إلـى خـارجهـا ، ثـم أدرجـت
أحـوالهـم فـي غيـاهـب الـزمـان ، إلا أولاد نـابـت و قيـدار .
و قـد ازدهـرت حـضـارة الأنبـاط أبْنـاء نـابـت فـي شمـال
الـحـجـاز ، و كـونـوا دولـة قـويـة عـاصمـتهـا البتـراء المـدينـة
الأثـريـة القـديمـة المعـروفـة فـي جنـوب الأردن ، و قـد دان
لهـذه الـدولـة النبطيـة مـن بأطـرافهـا ، و لـم يستطـع أحـد أن
ينـاوئهـا حتـى جـاء الـرومـان و قضـوا عليهـا .
و قـد جنحـت طـائفـة مـن المحققيـن مـن أهـل العلـم
بالأنـسـاب إلـى أن ملـوك آل غسـان و كـذا الأنصـار مـن الأوس و
الخـزرج إنمـا كـانـوا مـن آل نـابـت بـن إسمـاعيـل ، و بقـايـاهـم
فـي تـلـك الـديـار .
و إلـيـه مـال الإمـام الـبـخـاري رحـمـه الله فـي صحيحـه ،
فقـد عقـد بـابـاً عنـوانـه نسبـة اليمـن إلـى إسـمـاعيـل عليـه
السـلام ، و استـدل عليـه ببعـض الأحـاديـث ، و رجـح الحـافـظ
ابـن حجـر فـي شـرحـه أن قـحـطـان مـن آل نـابـت بـن إسـمـاعيـل
عليـه السـلام .
و أمـا قيـدار بـن إسـمـاعيـل فـلـم يـزل أبنـاؤه بمكـة ،
يتنـاسلـون هنـاك حتـى كـان منـه عـدنـان و ولـده مَعَـدّ ، و
مـنـه حـفـظـت الـعـرب الـعـدنـانيـة أنسـابهـا . و عـدنـان هـو
الجـد الحـادي و العشـرون فـي سلسـة النسـب النبـوي ، و قـد ورد
أنـه صلـى الله عليـه و سلـم كـان إذا انتسـب فبلـغ عـدنـان يمسـك
و يقـول : (كـذب الـنـسـابـون) ،
فـلا يـتـجـاوزه ، و ذهـب جـمـع مـن العلمـاء إلـى جـواز رفـع
النسـب فـوق عـدنـان ؛ مضعفيـن للـحـديـث المشـار إليـه ، و لكنهـم
اختلفـوا فـي هـذا الجـزء مـن النسـب اختـلافـاً لا يمكـن الجمـع
بـيـن أقـوالـهـم ، و قـد مـال المحقـق الكبيـر العـلامـة القـاضـي
محمد سليمـان المنصـورفـوري رحمـه الله إلـى تـرجيـح مـا ذكـره
ابـن سـعـد و الـذي ذكـره الـطـبـري و المسعـودي و غـيـرهـمـا فـي
جملـة الأقـوال و هـو أن بيـن عـدنـان و بيـن إبـراهـيـم عليـه
السـلام أربعيـن أبـاً بالتحقيـق الـدقيـق .
و قـد تـفـرقـت بـطـون مَـعَـدّ مـن ولـده نَـزَار قيـل لـم
يكـن لمعـد ولـد غيـره فكـان لنـزار أربعـة أولاد ، تشعبـت منهـم
أربعـة قبـائـل عـظـيـمـة إيـاد و أنمـار و ربيـعـة و مُضَـر ، و
هـذان الأخيـران همـا اللـذان كثـرت بطـونهمـا و اتسعـت أفخـاذهمـا
، فكـان مـن ربيعـة ضُـبَـيْـعَـة و أسـد ، و مـن أسـد عَـنْـزَة و
جَـدِيـلـة ، و مـن جـديـلـة القبـائـل الكثيـرة المشهـورة مثـل
عـبـد القيـس ، و النَّـمِـر ، و بنـو وائـل الـذيـن مـنـهـم بـكـر
و تَـغْـلِـب ، و مـن بـنـى بكـر بنـو قيـس و بنـو شيبـان و بنـو
حنيفـة و غيـرهـا . أمـا عنـزة فمنهـا آل سعـود ملـوك المملكـة
العـربيـة السعـوديـة فـي هـذا الـزمـان .
و تـشـعـبـت قبـائـل مـضـر إلـى شـعبتيـن عـظـيـمـتـيـن
قَـيْـس عَـيْـلان بـن مـضـر ، و بـطـون إلـيـاس ابـن مـضـر ،
فـمـن قـيـس عـيـلان بـنـو سـلـيـم ، و بـنـو هـوازن ، و بنـو
ثقيـف ، و بنـو صَعْصَعَـة ، و بنـو غَطَفـان . و مـن غطفـان
عَبْـس ، و ذُبْيـان ، و أشْـجَـع ، و أعْصُـر .
و مـن إليـاس بـن مُـضَـر تـميـم بـن مـرة ، و هُـذَيْـل بـن
مُـدرِكـة ، و بنـو أسـد بـن خـزيـمـة ، و بـطـون كـنـانـة بـن
خـزيمـة ، و مـن كنـانـة قـريـش ، و هـم أولاد فهـر بـن مـالـك بـن
النضـر بـن كنـانـة .
و انقسمـت قـريـش إلـى قـبـائـل شـتـى ، مـن أشهـرهـا جُـمَـح
و سَـهْـم و عَـدِيّ و مـخـزوم و تَـيْـم و زُهْـرَة ، و بطـون
قُـصَـيّ بـن كـلاب ، و هـي عـبـد الـدار بـن قصـي ، و أسـد بـن
عبـد العـزى بـن قصـي ، و عبـد منـاف بـن قصـي .
و كـان مـن عبـد منـاف أربـع فصـائـل عبـد شـمـس ، و
نَـوْفَـل ، و المطـلـب ، و هـاشـم ، و بـيـت هـاشـم هـو الـذي
اصطفـى الله منـه سيـدنـا محمد بـن عبـد الله بـن عبـد المطلـب بـن
هـاشـم صلـى الله عليـه و سلـم .
قـال صلـى الله عليـه و سلـم : (إن الله
اصـطـفـى مـن ولـد إبراهيـم إسـمـاعـيـل ، و اصـطـفـى مـن ولـد
إسمـاعيـل بنـي كـنـانـة ، و اصـطـفـى مـن بـنـي كـنـانـة
قـريـشـاً ، و اصـطـفـى مـن قـريـش بـنـي هـاشـم و اصـطـفـانـي مـن
بـنـي هـاشــم
) (رواه مسلـم) .
و عـن الـعـبـاس بـن عبـد المطلـب قـال : (قـال رسـول الله
صلـى الله عليـه و سلـم : ( إن الله خلـق
الخلـق فـجـعـلـنـي مـن خيـر فـرقـهـم و خـيـر الـفـريـقـيـن ، ثـم
تـخـيـر الـقـبــائـل ، فـجـعـلـنـي مـن خـيـر الـقـبـيـلــة ، ثـم
تـخـيــر البـيـوت ، فجعلنـي مـن خـيـر بـيـوتـهـم ، فـأنـا
خـيــرهـم نـفـسـاً و خـيــرهـم بـيـتـاً) . و فـي لفـظ
عـنـه : (
إن الله خـلـق الخلـق فجعلنـي فـي خـيـرهـم فـرقـة ، ثـم
جـعـلـهـم فـرقـتـيـن فـجـعـلـنـي فـي خـيـرهـم فـرقـة ، ثـم
جعلهـم قـبـائـل فـجـعـلـنـي فـي خـيـرهـم قـبـيـلـة ، ثـم
جـعـلـهـم بـيـوتـاً فـجـعـلـنـي فـي خـيـرهـم بـيـتـاً و خـيـرهـم
نـفـسـاً) .
و لمـا تكاثـر أولاد عـدنـان تفـرقـوا فـي أنحـاء شتـى مـن
بـلاد العـرب متتبعيـن مـواقـع القطـر و منـابـت العشـب . فهـاجـرت
عبـد القيـس ، و بطـون مـن بكـر بـن وائـل ، و بطـون مـن تميـم
إلـى البحـريـن فـأقـامـوا بهـا . و خـرجـت بنـو حنيفـة بـن علـي
بـن بـكـر إلـى الـيـمـامـة فنـزلـوا بحُجْـر ، قَصَبـة اليمـامـة
، و أقـامـت سـائـر بـكـر بـن وائـل فـي طـول الأرض مـن اليمـامـة
إلـى البحـريـن إلـى سـيـف كـاظـمـة إلـى الـبحـر ، فـأطـراف سـواد
العـراق فـالأُبُلّـةُ فَهِيـت . و أقـامـت تغلـب بالجـزيـرة
الفـراتيـة ، و منهـا بطـون كـانـت تسـاكـن بَـكْـراً . و سـكـنـت
بـنـو تـمـيـم بـبـاديـة البـصـرة . و أقـامـت بنـو سليـم
بـالقـرب مـن المـدينـة ، مـن وادي القـرى إلـى خيبـر إلـى شـرقـي
الـمـديـنـة إلـى حـد الجبليـن ، إلـى مـا ينتـهـي إلـى الـحـرة .
و سـكـنـت بـنـو أسـد شـرقـي تيمـاء و غـربـي الكـوفـة ، بينهـم و
بيـن تيمـاء ديـار بُـحْـتُـرٍ مـن طـيـئ ، و بـيـنـهـم و بـيـن
الـكـوفـة خـمـس لـيـال . و سـكـنـت ذبـيـان بالـقـرب مـن تيمـاء
إلـى حـوران ، و بقـى بتهـامـة بطـون كنـانـة ، و أقـام بمكـة و
ضـواحيهـا بطـون قـريـش ، و كـانـوا متفـرقيـن لا تجمعهـم جـامـعـة
حتـى نـبـغ فيهـم قـصـيِّ ابـن كـلاب ، فجمعهـم ، و كـون لهـم
وحـدة شـرفتهـم و رفعـت من أقـدارهـم .