جغرافية جزيرة العرب

الفصل الأول : العـالـم قبـل
البعثـة النبـويتة و أثنـاءهـا :

المبحث الثاني : أحـوال الأقـوام
العـربيـة قبـل البعثتة النبـويـة :

المطلب الثالث : جغـرافيـة جـزيـرة
العـرب :

تـوطـئـة :
     إن كـل مـن يـدرس الـسـيـرة المحـمـديـة ، و أحـداثهـا ، و
آثـارهـا البعيـدة ، لا فـي حـيـاة الـعـرب فحسـب ، بـل فـي حيـاة
الـبـشـر جميعهـم ، و حـتـى لا يـشـق طـريـقـه فـي دراستهـا
منعـزلاً عـن البيئـة التـي أدت فيهـا رسـالتهـا ، جـاهـلاً لهـا
كـل الجهـل ، أن يعـرض عـرضـاً و لـو مـوجـزاً لـتـاريـخ الـعـرب
فـي الجـاهـلـيـة مـن نـاحيـة جغـرافيـة بـلادهـم ، و أحـوالهـم
الـدينيـة ، و الإجتمـاعيـة ، و الأخـلاقيـة ، و الـسـيـاسيـة ، و
مكـانتهـم فـي تـاريـخ الـديـانـات و الأمـم ، و طبـائعهـم ، حـتـى
يـكـون هـذا الـدارس للسيـرة عـلـى بيّنـة مـن هـذه الـبـلاد ، و
سكـانـهـا ، الـذيـن اختيـر منهـم خـاتـم الأنبيـاء ، و الـذي
أرسـل بـأعظـم رسـالـة إلهيـة ، و التـي أحـدثـت أعظـم إصـلاح فـي
العـالـم كلـه ، لـم تحـدثـه رسـالـة مـن الـرسـالات .

     هـذه النبـدة التـعـريـفيـة قـمـنـا باقـتـبـاسهـا ممـا كتـب
عـن الجـزيـرة قـديمـاً و حـديثـاً ؛ و قـد استفـدنـا مـن كتـاب
(المفصـل فـي تـاريـخ الـعـرب قـبـل الإسـلام للـدكـتـور جـواد
علـي)
كثيـراً . و مـوضـع تـفـصـيـل أكـثـر فـي هـذا
الـمـوضـوع ؛ هـي الكتـب الـتـي ألّفـت فـي جغـرافيـة جـزيـرة
العـرب ، و صفتهـا و خططهـا ، و تـاريـخ الحـضـارة العـربيـة و
الأدب العـربـي ، و هـي كثيـرة .

     و الـعـرب لـغـة هـي الـصـحـاري و الـقِـفَـار ، و الأرض
المُجْـدِبـة التـي لا مـاء فيهـا و لا نبـات . و قـد أطلـق هـذا
اللفـظ منـذ أقـدم العصـور علـى جـزيـرة العـرب . كمـا أطلـق علـى
قـوم قَطَنُـوا تلك الأرض ، و اتخـذوهـا مـوطنـاً لهـم .

تحـديـد شبـه جـزيـرة العـرب
جغـرافيـاً :

     هـي عـبـارة عـن هـذا الـجـزء الـذي يـقـع فـي الجنـوب
الـغـربـي مـن قـارة آسـيـا ، و هـي أكـبـر شـبـه جـزيـرة فـي
الـعـالـم ، تحـيـط بـهـا الـبـحـار و الأنـهـار مـن جميـع
نـواحيهـا إلا جـزءاً قليـلاً منهـا ، فليـس بيـن أشبـاه الجـزر
شبـه جـزيـرة ، تنيـف عليهـا فـي الـمـسـاحـة ، و يـطـلـق عـلـمـاء
العـرب عليـهـا تجـاوزاً إسـم جـزيـرة العـرب ، و يبلـغ متـوسـط
عـرضهـا سبعمـائـة ميـل ، و منتهـى طـولهـا ألـف و مـائـة ميـل ، و
تقـدر مسـاحتهـا مـا بيـن مليـون ميـل مـربـع إلـى مليـون و
ثـلاثمـائـة ألـف ميـل مـربـع .

     و يحـدهـا جنـوبـاً بحـر الـعـرب الـذي هـو امـتـداد
للـمـحيـط الهنـديّ ، و مـن الشـرق الخليـج العـربـيّ المعـروف
عنـد اليـونـان بـاسـم الـخـلـيـج الـفـارسـيّ و نـهـر الـفـرات و
جـزء كبيـر مـن بـلاد الـعـراق الجنـوبيـة ، و مـن الغـرب شبـه
جـزيـرة سينـاء (بـرزخ الـسـويـس قـديـمـاً و قـنـاة الـسـويـس
الآن) و الـبـحـر الأحـمـر ، كـمـا يـسـمّـى فـي الـخـارطـات
الـحـديـثـة ، المـعـروف بـاسـم الخليـج العـربـيّ Sinus prabicus
فـي الخـارطـات اليـونـانيّـة و اللّاتيـنيّـة ، و ببحـر القلـزم
فـي الكتـب الـعـربـيّـة القـديمـة ، أمـا شـمـالاً فيفصلهـا عـن
بـلاد الشـام و جـزء مـن بـلاد العـراق ، خـطّ وهـمـيّ يـمـتـدّ ،
فـي اصـطـلاح الـعـلـمـاء الـعـرب ، مـن خـلـيـج العقبـة حتـّـى
مصـبّ شـطّ العـرب فـي الخليـج العـربـيّ .

     و هـذا التحـديـد الـذي يقـول بـه الـهـمـدانـي يـدخـل بـلاد
الـشـام كلهـا ، و البـاديـة التـي بـيـن الـعـراق و الشـام و
بـاديـة سينـاء فـي جـزيـرة الـعـرب ، و هـو يتفـق و مـا ذكـره
(هيـرودوت) المـؤرخ القـديـم ، غيـر أنـه اعتبـر النيـل الحـد
الغـربـي للقـارة ، و جعـل صحـراء مصـر الشـرقيـة كمـا هـي
معـروفـة الآن مـن الجـزيـرة العـربيـة .

     و قـد قسّـم جغـرافيـو الـعـرب شـبـه الجـزيـرة إلـى خـمسـة
أقسـام هـي الحجـاز ، و تهـامـة ، و نجـد ، و العـروض ، و اليمـن .

     و زاد الأصـطـخـري و ابـن حـوقـل ثـلاثـة أصـقـاع و هـي
بـاديـة العـراق ، و بـاديـة الجـزيـرة ، و بـاديـة الشـام .

     فالحـجـاز هـي الجـبـال المـمـتـدة مـن الجـنـوب إلـى
الـشـمـال ، و سميـت حـجـازاً ، لأنـهـا حـجـزت بـيـن الغـور و
تـهـامـة غـربـاً ، و بـيـن نـجـد شـرقـاً ، و مـا بـيـن هـذه
الـجـبـال إلـى سـيـف الـبـحـر علـى امتـداده يسمّـى تـهـامـة ، و
مـا يـوجـد شـرق الـحـجـاز مـن الأرض المـرتـفـعـة إلـى أطـراف
الـعـراق و الـسـمـاوة يـسـمّـى نـجـداً ، و الجـزء الـذي يـضـم
بـلاد الـيـمـامـة و البحـريـن و مـا والاهـا يـسـمّـى الـعـروض ،
و مـا يـوجـد حـول صـنـعـاء و مـا والاهـا مـن البـلاد إلـى
حـضـرمـوت و الـشّـحـر و عـمـان يـسـمّـى الـيـمـن ، و الـذي
يـهـمـنـا التعـريـف بـه لاحقـاً هـو الحجـاز .

مـوقـع الجـزيـرة الهـام :
     و الجـزيـرة لـهـا أهـمـيـة بـالـغـة مـن حيـث مـوقعهـا
الطبيعـي و الجغـرافي ؛ فأمـا باعتبـار وضعهـا الداخـلـي فـهـي
مـحـاطـة بالـصـحـاري و الـرمـال مـن كـل جـانـب ، و مـن أجـل هـذا
الـوضـع صـارت الـجـزيـرة حصنـاً منيعـاً لا يسمـح للأجـانـب أن
يحتلـوهـا و يبسطـوا عليهـا سيطـرتـهـم و نفـوذهـم . و لـذلـك نـرى
سـكـان الـجـزيـرة أحـراراً فـي جـميـع الشـؤون منـذ أقـدم العصـور
، مـع أنهـم كـانـوا مجـاوريـن لإمبـراطـوريتيـن عظيمتيـن لـم
يكـونـوا يستطيعـون دفـع هجمـاتهمـا لـولا هـذا السـد المنيـع .

     و أمـا بالنـسـبـة إلـى الـخـارج فـإنـهـا تقـع بيـن القـارات
المعـروفـة فـي العـالـم القـديـم . و تلتقـي بهـا بـراً و بـحـراً
. فـإن نـاحـيـتـهـا الشمـاليـة الغـربيـة بـاب للـدخـول فـي قـارة
أفـريـقيـة ، و نـاحيتهـا الشمـاليـة الشـرقيـة مفتـاح لقـارة
أوروبـا ، و الـنـاحيـة الشـرقيـة تـفـتـح أبـواب الـعـجـم و
الشـرق الأوسـط و الأدنـى ، و تفضـي إلـى الهنـد و الصيـن ، و
كـذلك تلتقـي كـل قـارة بالجـزيـرة بحـراً ، و تـرسـي سـفنـهـا و
بـواخـرهـا عـلـى مينـاء الجـزيـرة رأسـاً . و أمـا مـن
الـنـاحـيـة الحـضـاريـة للـعـالـم قـبـل الإسـلام فهـي تـربـط
بيـن الحضـارتيـن السـائـدتيـن حينئـذ : الحضـارة الـرومـانيـة ، و
الحضـارة الفـارسيـة .

     و لأجـل هـذا الـوضـع الـجـغـرافـي كـان شـمـال الـجـزيـرة و
جـنـوبـهـا مهبطـاً للأمـم و مـركـزاً لتبـادل التجـارة ، و
الـثـقافـة ، و الـديـانـة ، و الـفـنـون .

طبيعـة جـزيـرة العـرب :
     تتكـون شـبـه الـجـزيـرة الـعـربـيـة مـن كـتـلـة ضخمـة مـن
الصـخـور المتبلـورة التـي تشكـل سلسلـة مـن الجبـال فـي الغـرب ،
تـرتفـع إلـى نحـو 3000 متـر فـي بعـض المـواقـع ، و لعـل أعظمـهـا
جبـال السّـراة الممتـدة مـن سـوريـة و فـلـسـطيـن شـمـالاً ، إلى
بـلاد اليمـن جنـوباً ، و هـي تـوازي سـاحـل الـبـحـر الأحـمـر ، و
تـقـتـرب مـنـه فـي مواضـع عـديـدة ، و يتـراوح ارتـفـاع هـذه
الجبـال مـا بيـن ثـلاثـة آلاف قـدم (900 متـر) ، و عـشـرة آلاف
قـدم (3000 متـر) ، فتبلـغ قممهـا فـي الشـمـال فـي مـديـن ، و فـي
الجنـوب فـي اليمـن ، و عـسيـر ، حـوالـي عـشـرة آلاف قـدم (3000
متـر) ، بينمـا لا تـتـعـدى خـلـف مـكـة ثمـانـيـة آلاف قـدم (2500
متـر) ، و قـرب المـديـنـة ثـلاثـة آلاف قـدم . و تحصـر بينهـا و
بيـن سـاحـل البحـر الأحمـر أرضـاً سهلـة ضيقـة هـي تهـامـة ،
تشـرف عليهـا هـذه المـرتفعـات ، و تنحـدر إلـيـهـا انحـداراً
شديـداً قصيـراً . و سـواحـلـهـا المهيمنـة عـلـى الـبـحـر
الأحـمـر يـصـعـب رسـوّ الـسـفـن فـيـهـا لخلـوّهـا مـن المـرافـيء
الصـالحـة ، و لـوجـود الشعـب المـرجانيـة التـي تـمتـد فـي بـعـض
المـواضــع بـعـيـداً فـي الـبـحـر ، و تـوجـد جـبـال أخـرى فـي
نـجـد و فـي الأقـسـام الجـنـوبـيـة مـن شـبـه الجـزيـرة
مـتـفـاوتـة الإرتـفـاع . و فـي المـرتـفـعـات الغـربيـة ، و
بـخـاصـة فـي الـركـن الـجـنـوبـي الـغـربـي مـن شـبـه الـجـزيـرة
، حـيـث يـزيـد متـوسـط الأمطـار عـن 500 مـم فـي بعـض الأجـزاء ،
ظهـرت منـذ الـقـديـم حـيـاة زراعـيـة مـسـتـقـرة ، لـتـوفـر
الميـاه للـري ، فـازدهـرت الممـالك العـربيـة القـديمـة فيـمـا
يُعـرف الآن باليمـن . و كانـت عـواصـم ثـلاث مـن هـذه الـمـمـالـك
هـي قـرنـاوة عـاصـمـة المعينيـن ، و مـأرب عـاصـمـة سبـأ ، و
تـيـمـاء ، تقـع علـى الـسـفـوح الشـرقيـة لسلسلـة الجـبـال
الغـربيـة ، علـى مجـاري ميـاه تنحـدر نحـو الشمـال الغـربـي مـن
هـضـبـة حـضـرمـوت .

     و تمتـد مـسـاحـات مـنـبـسطـة مـن الأرض (يبلـغ مـتـوسـط
سـقـوط الأمـطـار عليهـا مـن 100 إلـى 250 مـم) شمـالاً علـى
امتـداد سـلسـلـة الـجـبـال الـغـربيـة ، و كـذلك علـى امتـداد
السـواحـل الشـرقيـة ، ممـا سـاعـد علـى وجـود نـوع مـن الحيـاة
المستقـرة . أمـا بـاقـي شـبـه الجـزيـرة العـربيـة فـيـكـاد يكـون
صـحـراء جـرداء عـديمـة الأمـطـار تـقـريـبـاً ، و الحـيـاة فيهـا
قـاصـرة عـلـى الـواحـات حيـث تـوجـد الينـابيـع و الآبـار .

     و تـتـسـع هـذه المـنـاطـق الصـحـراويـة فـي الجـنـوب مكـونـة
مـا يسمـى بالـربـع الخـالـي ، و هـو أكبـر منطقـة رمليـة فـي
الـعـالـم . كـمـا تـوجـد فـي الـشـمـال صـحـراء الـنـفـود و هـي
أقـل اتسـاعـاً مـن الـربـع الخـالـي . و تـوجـد الـواحـات فـي
نقـط متفـرقـة ، و هـي الـتـي كـانـت تـحـدد مـسـار طـرق القـوافـل
، لإمكـان تـزودهـا بالمـاء . و فـي الأجـزاء المحيـطـة بالصحـراء
الـوسطـى ، تنمـو المـراعـي علـى مـيـاه الأمـطـار القليلـة ، و
بـخـاصـة فـي المنطقـة الشمـاليـة المحصـورة بـيـن خليـج العقبـة و
بـلاد النهـرين (الـرافـديـن) ، حيـث قـامـت بعـض المـدن الكبيـرة
مثـل البتـراء (سـالـع) ، و تـدمـر (بالميـرا) ، و دمشـق .

     و فـي شـبـه جـزيـرة الـعـرب حـرار كـثـيـرة (جـمـع حـرّة ، و
تسمـى لابـة و لـوبـة) ، و هـي أراض ذات حجـارة سـود نـخـرة ، و
قـد تـكـونـت مـن فـعـل الـبـراكيـن ، و يـشـاهـد مـنهـا نـوعـان :
نـوع يتـألـف مـن فجـوات البـراكيـن نفسهـا ، و نـوع يتـألـف مـن
حممهـا التـي كـانـت تقـذفهـا ، فتسيـل عـلـى جـوانـب الفتحـة ،
ثـم تـبـرد ، و تتفتـت بفعـل التقلبـات الـجـويـة ، فتكـون
ركـامـاً مـن الأحجـار البـركـانيـة التـي تغطـي الأرض بطبقـات ،
قـد تكـون رقيقـة ، و قـد تكـون سميكـة .

     و قد اشـتـهـر كـثـيـر مـن منـاطـق الحـرار بالخصـب ، و
النمـاء ، و بكثـرة الميـاه ، و لا سيمـا حـرار المـدينـة التـي
استغلـت اسـتـغـلالاً جـيـداً ، و منهـا خيبـر حيـث كـانـت واحـة
عظيمـة ، و تضـم قـرى كـانـت تشتهـر بأنـواع المـزروعـات مـن
قـديـم الـزمـان . و ليـس فـي بـلاد العـرب نهـر واحـد بالمعنـى
المـعـروف مـن الأنـهـار ، و إنـمـا هـي جـداول غيـر صـالحـة
للمـلاحـة ، و هـي إمـا قصيـرة سـريعـة الجـريـان ، شـديـدة
الإنـحـدار ، و إمـا ضحلـة تجـف فـي بعـض المـواسـم ، و بـهـا
كـثـيـر مـن العيـون العـذبـة و حـول هـذه العيـون الـواحـات ، و
الـوديـان ذات الأشجـار الـوارفـة ، و تـوجـد بهـا بعـض
المـزروعـات ، و الخضـر ، و الفـاكهـة .

أهـل الجـزيـرة العـربيـة :
     تغلّبـت الصّحـراويّـة عـلـى شـبـه الجـزيـرة ، و ظـهـر
الجفـاف عليهـا لـعـوامـل طبيعيّـة و حـوادث جـيـولـوجـيـة و
بـسـبـب الـمـوقـع الـجـغـرافـيّ ، فـكـان ذلـك كـلّـه سـبـبـاً
فـي قـلّـة نـفـوس جـزيـرة الـعـرب فـي المـاضـي و فـي الحـاضـر ،
و فـي سـبـب عـدم نشـوء مجـتـمـعـات حـضـريّـة ، و حكـومـات
مـركـزيّـة كبيـرة فيهـا ، و فـي سـبـب تفشّـي الـبـداوة ، و غلبـة
الطّبيعـة الأعـرابيـة علـى أهلهـا ، و بـروز روح الفـرديّـة عنـد
أهلهـا ، و تـقـاتـل الـقـبـائـل بـعـضـهـا مـع بـعـض ، لـذلـك
انحـصـرت الحضـارة في الأمـاكـن الممطـورة ، و الأمـاكـن التـي
خـرجـت فيهـا المـيـاه الجـوفيّـة عـيـونـاً و يـنـابـيـع ، أو
قـاربـت المـيـاه فـيـهـا سـطـح الأرض فـأمـكـن حـفـر الآبـار
فـيـهـا .

     فالحيـاة فـي جـزيـرة العـرب ، هـي هـبـة الـمـاء ، فـكـانـت
الـقـوافـل تـؤمّـه ، و إليـه كـانـت الطبيعـة تقـذف بالأعـراب مـن
كـلّ مـكـان ، و كـانـوا لا يـرتبطـون بالأرض ارتـبـاط الـمـزارع
بـأرضـه ، فـلا يـسـتـقـرّون فـي مـكـان إلّا إذا وجـدوا فـيـه
الـكـلأ و المـاء ، فـإذا جـفّ الـمـاء ، و قـلّ الـكـلأ
ارتـحـلـوا إلـى مـواضـع جـديـدة . و لـذلـك صـارت حيـاتـهـم حيـاة
قـاسـيـة ، يتمثّـل مـجـتـمـعـهـم فـي القبيلـة ، فالقبيلـة هـي
الحكـومـة و القـوميّـة فـي نـظـر البـدويّ ، و كـانت هـذه
الحـيـاة لا تعـرف الرّاحـة و الإستقـرار ، و لا تـعـتـرف إلا
بمنطـق القـوّة ، حـيـاة جلبـت المشقّـة لأصحـابهـا ، و المشقّـة
لمـن يقيـم علـى مقـربـة منهـم مـن الحضـر ، فـهـم فـي نـزاع دائـم
فيمـا بينهـم ، ثـمّ هـم فـي نـزاع مـع الحضـر .

     و لكـنّ العـربـيّ مـن نـاحـيـة أخـرى مـخـلـص ، مـطـيـع
لـتـقـالـيـد قبيلتـه ، كـريـم يـؤدّي واجبـات الضّيـافـة ، و
الـمـحـالفـة فـي الـحـروب ، كـمـا يـؤدّي واجبـات الصّـداقـة ،
مخـلـصـاً فـي أدائـهـا ، بحـسـب مـا رسمـه العـرف ، و قـد نطـق
بـه شعـرهـم ، و زخـر بـه أدبهـم ، مـن حكـم و أمثـال ، و مثـل ، و
قيـم .

     و العـربـيّ يحـبّ المسـاواة ، و يعشــق الحـرّيـة ، و هـو
رجـل جـادّ صـارم ، قـلّ فـي مجتمعـه الإسـفـاف ، محـافـظ ،
متمسّـك بحيـاتـه ، معتـزّ بمـا كتـب لـه ، و إن كـانـت حيـاة
خشـونـة و صعـوبـة .

     و الممعـن فـي البـداوة مـنـهـم ضـعـيـف الإيمـان بـديـن ،
قـلّ أن يـؤمـن إلاّ بتقـاليـد قبيلتـه ، و مـا ورثـه عـن آبـائـه
، مثلـه الأعلـى فـي الأخـلاق تـركّـز فيمـا سمّـاه المـروءة ، و
تغنّـى بهـا فـي شعـره و أدبـه .

     و فـي تلك الـمـواضـع الّتـي تـوفّـرت فـيـهـا الـمـيـاه ،
مـن مـطـر ، و عـيـون ، و آبـار ، ظهـرت الحـضـارة علـى شـكـل قـرى
و مستـوطنـات ، و أسـواق مـوسـمـيّـة ، كـان لـهـا أثـر خـطيـر فـي
حـيـاة العـرب عمـومـاً ، و نشـأت مجتمعـات ، لهـا طبيعـة خـاصّـة
، و شخصيّـة مستقلّـة ، متـأثّـرة بطبيعـة الأرض ، و طبيعـة الجـوّ
، و طبيعـة الـحـرف و الصّـنـاعـات ، و طـرق العيـش الّتـي
يمـارسهـا هـذا المجتمـع ، فكـان فـي مـكّـة مـجـتـمـع خـاصّ ، لـه
طـابـع مـتـمـيّـز ، و كـذلـك لأهـل الـحـيـرة و لأهـل يـثـرب ، و
كـان مجتمـع اليمـن مـن أغـنـى المجتمعـات العـربيّـة و أرقـاهـا ،
لأوضـاعـه الـخـاصّـة ، و تـاريخـه الـحـضـاريّ الـقـديـم ، و
السّيـاسـيّ الـحـديـث ، فتفـوّق فـي إنتـاج الغلّـة ، و تـربيـة
الـحـيـوان ، و اسـتـخـراج المـعـادن ، و أقـام لـه قـصـوراً و
حـصـونـاً ، و استـورد آلات تسـاعـده فـي ممـارسـة الصّـنـاعـات ،
و تيسيـر الحيـاة ، مـن العـراق و بـلاد الشّـام ، و مـن إفـريقيـة
.

عن المدير