تاريخ الكعبة وأطوار بنائها

الكتاب الثاني: وقـائـع الـسـيـرة الـنـبـويـة
الباب الأول: أهـم الأحـداث التـاريخيـة مـن قبـل البعثـة حتـى نـزول الـوحـي
الفصل الأول: العالم قبل البعثة النبوية وأثناءها
المبحث الثاني: أحوال الأقوام العربية قبل البعثة النبوية

المطلب الثاني: تاريخ الكعبة و أطوار بنائها

الـكـعـبـة هـي بـيـت الله الـحـرام، وقـبـلـة المسلميـن، جعلهـا الله سبحـانـه وتعـالـى منـاراً للتـوحيـد، ورمـزاً للعبـادة، يقـول الله تعـالـى: {جَـعَـلَ اللَّهُ الْكَعْبَـةَ الْـبَـيْـتَ الْـحَـرَامَ قِـيَـاماً لِّلـنَّـاسِ وَالشَّهْـرَ الْـحَـرَامَ وَالْهَـدْيَ وَالْقَـلائِـدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُـواْ أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَـمُ مَـا فِـي الـسَّـمَـاوَاتِ وَمَـا فِـي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِـكُـلِّ شَـيْءٍ عَلِيـمٌ} (سـورة المـائـدة؛ الآيـة:97) )، و هـي أول بيـت وضـع للـنـاس مـن أجـل عـبـادة الله جـل وعـلا، قـال تـعـالـى: {إِنَّ أَوَّلَ بَـيْـتٍ وُضِـعَ لِلـنَّـاسِ لَلَّـذِي بِـبَـكَّـةَ مُـبَـارَكـاً وَ هُـدًى لِّلْـعَـالَـمِـيـنَ} (سـورة آل عـمـران؛ الآيـة: 96).

وللـكـعـبـة الـمـشـرفـة تـاريـخ طـويـل، مـرت فيـه بـمـراحـل عـديـدة، ويـبـتـدأ تـاريـخـهـا فـي عهـد نبـي الله إبـراهيـم وولـده إسـمـاعيـل علـيـهـمـا الـسـلام حـيـن أمـره الله سـبـحـانـه وتـعـالـى بـأن يـسـكـن مـكـة هـو وأهـلـه، وكـانـت مـكـة فـي ذلك الـوقـت جـدبـاء قـاحلـة.

وبعـد الإسـتـقـرار فـي مـكـة و بلـوغ إسـمـاعـيـل عليـه السـلام أذن الله تعـالـى لـهـمـا ببنـاء الـكـعـبـة، ورفـع قـواعـدهـا، يقـول الله تعـالـى: {وَإِذْ يَـرْفَـعُ إِبْـرَاهِـيـمُ الْقَـوَاعِدَ مِـنَ الْـبَـيْـتِ وَإِسْـمَـاعِـيـلُ رَبَّـنَـا تَـقَـبَّـلْ مِنَّـا إِنَّـكَ أَنـتَ السَّمِيـعُ الْعَلِيـمُ} (سـورة البقـرة؛ الآيـة: 127)، فجعـل إسمـاعيـل عـلـيـه السـلام يـأتـي بالحجـارة وإبـراهيـم يبنـي، وارتفـع البيـت شيئـاً فشيئـاً، حتـى أصبـح عـاليـاً لا تصـل إليـه الأيـدي، عنـدهـا جـاء إسمـاعيـل عليـه السـلام بحجـر ليصعـد عليـه أبـوه ويكمـل عملـه، واستمـرا عـلـى ذلك وهمـا يقـولان: {رَبَّـنَـا تَـقَـبَّـلْ مِـنَّـا إِنَّـكَ أَنـتَ الـسَّـمِيـعُ الْـعَـلِيـمُ} حتـى تـم البنـاء واستـوى. ثـم اسـتقـرت بـعـض القبـائـل الـعـربيـة فـي مكـة مـن (العمـاليـق) و (جـرهـم)، وتصـدع بنـاء الكعبـة أكثـر مـن مـرة نتيجـة لكثـرة السيـول والعـوامـل المـؤثـرة فـي البنـاء، وكـان أفـراد تلك القبيلتيـن يتـولـون إصـلاحهـا، ورعـايتهـا.

ومـرت السنـون، حـتـى قـامـت قـريـش بـبـنـاء الكعبـة، وذلك قـبـل البعثـة بخمـس سنيـن، وكـان بنـاء الكعبـة آنـذاك عـلـى هيئـة حجـارة مـنضـودة مـوضـوعـة بعضهـا فـوق بعـض مـن غيـر طيـن، ممـا جعـل السيـول التـي تجتـاح مكـة بيـن الحيـن والآخـر تـؤثـر علـى متـانـة الكعبـة فـأوهـت بـنـيـانهـا، وصـدعـت جـدرانهـا، حتـى كـادت أن تنهـار، فقـررت قـريـش إعـادة بنـاء الكعبـة بنـاءً متينـاً يصمـد أمـام السيـول، ولمـا أجمعـوا أمـرهـم علـى ذلك وقـف فيهـم أبـو وهـب بـن عمـرو فقـال: (يا معشـر قـريـش، لا تـدخلـوا فـي بنـائهـا مـن كسبكـم إلا طيبـاً، لا يـدخـل فيـهـا مـهـر بغـي، ولا بيـع ربـا، ولا مظلمـة أحـد مـن النـاس). لكـن قـريشـاً تهيبـت مـن هـدم الكعبـة، وخشيـت أن يحـل عليهـم بـذلـك سخـط الله، فـقـال لهـم الـوليـد بـن المغيـرة: (أنـا أبـدؤكـم فـي هـدمها، فـأخذ المعـول وبـدأ بـالهـدم وهـو يقـول: (اللهـم لـم نـزغ، ولا نـريـد إلا الخيـر)، فهـدم مـن نـاحيـة الـركنيـن، فتـرقـب النـاس ليلتهـم ليـروا هـل أصـاب المغيـرة شـر بسبـب مـا فعـل؟ فلمـا رأوه يـغـدو عـلـيـهـم لا بـأس بـه، قـامـو إلـى الـكـعـبـة فـأكـمـلـوا هـدمـهـا، حتـى لـم يبـق منهـا إلا أسـاس إبـراهيـم عليـه السـلام.

ثـم تلـى ذلك مـرحلـة الـبـنـاء، فـتـم تقسيـم العـمـل بـيـن القبـائـل، وتـولـت كـل واحـدة منهـا نـاحيـة مـن نواحـي الكعبـة، فجعلـوا يبنـونهـا بحجـارة الـوادي، ولمـا بلـغ البنيـان مـوضـع الحجـر الأسـود دبَ الشقـاق بيـن قبـائـل قـريـش، فكـل يـريـد أن يـنـال شـرف رفـع الحجـر إلـى مـوضعـه، وكـادوا أن يقتتلـوا فيمـا بينهـم، حتـى جـاء أبـو أميـة بـن المغيـرة المخـزومـي فاقتـرح عليهـم أن يحكّمـوا فـيـمـا اخـتـلـفـوا فـيـه أول مـن يـدخـل عليهـم مـن بـاب المـسـجـد الحـرام، فـوافـقـوا علـى اقـتـراحـه وانتظـروا أول قـادم، فـإذا هـو رسـول الله صـلـى الله عـلـيـه وسـلـم ومـا إن رأوه حـتـى هـتـفـوا: هـذا الأمـيـن، رضـيـنـا، هـذا محمد، ومـا إن انـتـهـى إليـهـم حتـى أخبـروه الخبـر فقـال: (هـلـمّ إلـي ثـوبـاً) فـأتـوه بـه فـوضـع الحجـر فـي وسطـه ثـم قـال: (لـتـأخـذ كـل قـبيـلـة بنـاحيـة مـن الثـوب ثـم ارفعـوه جميعـاً) ففعلـوا، فلمـا بلغـوا بـه مـوضعـه، أخـذه بيـده الشـريفـة ووضعـه فـي مكـانـه.

ولما كـانـت قـريـش قـد عـزمـت علـى بنـاء الكعبـة مـن حـلال أمـوالـهـا، فقـد جمعـت لهـذا الأمـر مـا استطـاعـت، إلا أن الـنـفـقـة قـد قـصـرت بـهـم عـن إتـمـام بـنـاء الكـعـبـة بالـمـال الـحـلال الخـالـص، ولهـذا أخـرجـوا الحِجـر (الحطيـم) مـن البنـاء، ووضعـوا عـلامـة تــدل عـلـى أنـه مـن الـكــعــبـــة، وقــد ثـبـت فـي الـصـحـيـحـيــن أن رسـول الله صـلـى الله عـلـيـه وسـلـم قـال لـعـائـشـة رضـي الله عـنـهـا: (ألـم تـري أن قـومـك قـصـرت بـهـم الـنـفـقـة؟ ولـولا حـدثـان قـومـك بـكـفـر لنقضـت الكعبـة، وجعـلـت لهـا بـابـاً شـرقيـاً وبـابـاً غـربيـاً، وأدخلـت فيهـا الحجـر).
ولمـا جـاء عهـد ابـن الـزبيـر رضـي الله عنـه قـرر أن يعيـد بنـاء الكعبـة علـى نحـو مـا أراد رسـول الله صلـى الله عليـه وسـلـم فـي حـيـاتـه، فـقـام بـهـدمـهـا، وأعـاد بـنـاءهـا، وزاد فيهـا مـا قـصـرت عنـه نفقـة قـريـش وكـان حـوالـي ستـة أذرع، وزاد فـي ارتـفـاع الكعبـة عـشـرة أذرع، وجعـل لها بـابيـن أحـدهمـا مـن المشـرق والآخـر مـن المغـرب، يـدخـل النـاس مـن بـاب ويخـرجـون مـن الآخـر، وجعلهـا فـي غـايـة الحسـن والبهـاء، فكـانـت علـى الـوصـف النبـوي كمـا أخبـرتـه بـذلـك خـالتـه عـائشـة أم المـؤمنيـن رضـي الله عنهـا.

وفـي عهـد عبـد المـلك بـن مـروان كـتـب الحجـاج بـن يـوسـف الثقفـي إليـه فيمـا صنعـه ابـن الـزبيـر فـي الكعبـة، ومـا أحـدثـه فـي البنـاء مـن زيـادة، وظـن أنـه فـعـل ذلك بالـرأي و الإجـتـهـاد، فـرد عـلـيـه عـبـد المـلـك بـأن يـعـيـدهـا كـمـا كـانـت عـلـيـه مـن قـبـل، فـقـام الحـجـاج بـهـدم الحـائـط الـشـمـالـي وأخـرج الحِـجْـر كـمـا بنتـه قـريـش، وجـعـل للكـعـبـة بـابـاً واحـداً فـقـط ورفـعـه عـالـيـاً، وسـد الـبـاب الآخـر، ثـم لمـا بـلـغ عـبـد المـلـك بـن مـروان حـديـث عـائـشـة رضـي الله عنهـا نـدم عـلـى مـا فعـل، وقــال: (وددنــا أنـا تـركـنـاه ومـا تـولـى مـن ذلك)، وأراد عـبـد المـلـك أن يـعـيـدهـا عـلـى مـا بـنـاه ابـن الـزبيـر، فاستشـار الإمـام مـالـك فـي ذلك، فنهـاه خشيـة أن تـذهـب هيبـة البيـت، ويـأتـي كـل مـلك وينقـض فعـل مـن سبقـه، ويستبيـح حـرمـة البيـت.

وأمـا آخـر بنـاء للكعبـة فـكـان فـي العصـر العثمـانـي سنـة 1040 للهجـرة، عنـدمـا اجتـاحتت مكـة سيـول عـارمـة أغـرقـت المسـجـد الحـرام، حتـى وصـل ارتـفـاعهـا إلـى الـقنـاديـل المعلقـة، ممـا سبـب ضعـف بنـاء الكعبـة، عنـدهـا أمر محمد علـي بـاشـا والـي مصـر مهنـدسيـن مـهـرة، وعـمـالاً يهـدمـون الكعبـة، ويـعيـدون بنـاءهـا، واستمـر البنـاء نصـف سنـة كـاملـة، وكلفهـم ذلك أمـوالاً بـاهظـةً، حتـى تـم الـعمـل، ولا زالـت الكـعـبـة شـامـخـة، تـهـفـو إليهـا قلـوب المـؤمنيـن، وستظـل كـذلك حتـى يقضـي الله أمـره فـي آخـر الـزمـان بهـدم الكعبـة علـى أيـدي الأحبـاش واستخـراج كنـز الكعبـة، وفـي الجملـة فـإن الكعبـة لهـا تـاريـخ طـويـل ملـيء بالأحـداث والعبـر التـي لا بـد لنـا أن نعيهـا ونستفيـد منهـا.

                                                     

عن المدير