لماذا مكة ؟

الكتاب الثاني: وقـائـع الـسـيـرة الـنـبـويـة
الباب الأول: أهـم الأحـداث التـاريخيـة مـن قبـل البعثـة حتـى نـزول الـوحـي
الفصل الأول: العالم قبل البعثة النبوية وأثناءها :
المبحث الثاني: أحوال الأقوام العربية قبل البعثة النبوية:

المطلب الأول: لماذا مكة؟

تحدثنـا عن الزمان الذي بعث فيه رسول الله، والآن نتحدث عن المكان الذي بُعث فيـه، لمـاذا مكـة؟ هـذا هـو السـؤال الـذي نبـدأ بـه، لمـاذا لـم يُبْعـث الـرسـول فـي فـارس أو الـروم أو فـي فلسطيـن ككثيـر مـن الأنبيـاء؟ أو فـي مصـر كسيـدنـا مـوسـى عليـه السـلام؟ لمـاذا ينـزل الـوحـي فـي مكـة، وتجـري أحـداث قصـة الـرسـول فـي المـدينـة والجـزيـرة والطـائـف وغيـرهـا؟ ليـس هناك نقطـة واحـدة فـي حـيـاة الـرسـول عشـوائيـة، بـل كـل نقطـة بحسـاب، فـإن الـرسـول سيصيـر قـدوة لـكـل المسلميـن؛ لـذا لا بـد أن تكـون كـل خطـوة فـي حيـاتـه محسـوبـة بـدقـة. إذن كـان الـوضـع فـي جـزيـرة العـرب هـو الـوضـع المنـاسـب لقيـام الـدعـوة الإسـلاميّـة.

مـن الـواضـح أن الـتـجـربـة الإسـلامـيّـة الأولـى كـانـت تجـربـة نـاجحـة تمـامـاً، ومـن الـواضـح أيضـاً أن البيئـة التـي نشـأت فيهـا الـرسـالـة، وخطـت فيهـا خطـواتهـا الأولـى كـانـت بيئـة صـالحـة؛ لأننـا رأينـا الإسـلام ينتشـر بسـرعـة عجيبـة وبثبـات أعجـب، فـفـي غضـون سنـوات قليلـة لا تحسـب فـي التـاريـخ بشـيء وصـل الإسـلام مـن أقصـى الأرض إلـى أقصـاهـا. ليـس هـذا فقـط، بـل دخـل النـاس فـي ديـن الله أفـواجـاً، راغبيـن غيـر مكـرهيـن، مختـاريـن غيـر مجبـريـن.

نريـد أن نـدرس هـذا السـؤال لنعلـم المقـومـات التـي أنجحـت هـذه الـرسـالـة. نعـم إن الـرسـالـة مـن الممكـن أن تحقـق نجـاحـاً ذاتيّـاً؛ لأنهـا عظيمـة فـي ذاتهـا، وتصلـح لكـل زمـان ومكـان، ولكـن مـن منظـور أن الـرسـالـة جـائـت مـن أجـل بنـاء أمـة، وأن أول البنـاء وضـع الحجـر الأسـاس. ونـحـن نـدرك أنّ الحكمـة الكـامنـة وراء اختيـار المكـان لا يعلمهـا إلا الله، نـريـد أن نبحـث قـدر الإستطـاعـة محـاوليـن إعطـاء تفسيـر لإختيـار الله هـذه الـرقعـة مـن الأرض لـوضـع الأسـاس لهـذا المشـروع النـاجـح (الإسـلام). فمـا هـي مـواصفـات هذا المكـان؟ ومـا هـي ظـروفـه؟ ومـا هـي طبيعتـه؟

إيـمـان أهـل مـكـة بالله:

لعـل مـن الحكمـة مـن وراء نـزول الـرسـالـة فـي هـذا المكـان أنّ أهـل هـذه البقعـة مـن الأرض كـانـوا يـؤمنـون بالله، ويعلمـون أنـه خـالـق، ولكنهـم حكمـوا غـيـره فـي حيـاتهـم، واتخـذوا إليـه شفعـاء، قـال الله فـي كتـابـه الكـريـم: {وَلَئِـنْ سَـأَلْتَهُـمْ مَـنْ خَلَقَهُـمْ لَيَقُـولُـنَّ اللهُ فَـأَنَّـى يُـؤْفَكُـونَ} (سـورة الـزُّخـرف، الآيـة: 87)، {وَلَئِـنْ سَـأَلْتَهُـمْ مَـنْ خَلَـقَ السَّمَـاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُـولُـنَّ اللهُ قُـلِ الحَمْـدُ للهِ بَـلْ أَكْثَـرُهُـمْ لاَ يَعْلَمُـونَ} (سورة لقمان، الآيـة: 25) ،{وَالَّـذِيـنَ اتَّـخَـذُوا مِـنْ دُونِـهِ أَوْلِـيَـاءَ مَـا نَـعْـبُـدُهُـمْ إِلاَّ لِـيُـقَـرِّبُـونَـا إِلَـى اللهِ زُلْفَـى} (سورة الزُّمر، الآيـة: 3) فالذي يـؤمـن بالله، ولكـن هنـاك اضطـراب فـي فهمـه، وقصـور فـي إدراكـه أقـرب مـن الـذي يـؤمـن بـإلـه آخـر، أ و لا يـؤمـن بـوجـود إلـه أصـلاً. لـم يكـن فـي الأرض وقـت البعثـة النبـويـة الـشـريفـة مـن يفقـه هـذه الحقـائـق إلا أقـل القليـل. كـان هنـاك مـن يعبـد المسيـح عليـه الـسـلام، وهنـاك مـن يعبـد النـار، وهنـاك مـن يعبـد بـوذا، وفـي الهنـد كـان هنـاك مـن يعبـد بقـرةً أو شجـرةً أو فـأراً أو قـرداً.

الـوضـع الثقـافـي فـي الجـزيـرة العـربيـة:

لـم يـكـن فـي مـكـة الـمـكـرمـة خـاصـة والـجـزيـرة العـربيـة بصفـة عـامـة فلسفـات، ولـم يكـن فيهـا تشريعـات مـركـبـة، ولـم يـكـن فـيـهـا قـوانين مفضّلـة، إنمـا هـي حيـاة بسيطـة إلـى أبعـد درجـات البسـاطـة، بينمـا كـانـت الحضـارات المعـاصـرة ذات أفكـار مـرتبـة، وفلسفـات خـاصـة، وتـاريـخ طـويـل، علـى الـوضـع التـالـي:

1 – ففـي الـدولـة الـرومـانيـة الـغـربـيـة والـشـرقـيـة كـان هنـاك قـوانيـن وتشـريعـات فـي مختلـف المجـالات، بالطبـع كـان فيهـا ظلـم وإجحـاف، لكنهـا فـي العمـوم قـوانيـن تغطـي جـل مجـالات الحيـاة.

2 – واليـونـان بصفتهـا جـزءاً مـن الـدولـة الـرومـانـيـة، وقـد ظـهـر فيهـا فـلاسفـة كبـار لهـم فلسفـات خـاصـة كسقـراط وأفـلاطـون وأرسطـو.

3 – وفـي الـدولـة الفـارسيـة، فقـد ظهـر لـديهـم فـلاسفـة كمـزدك (صـاحـب فكـرة الشيـوعيـة) وزرادشـت.

4 – أمـا الهند، فكـان لـديهـم الكثيـر مـن حكمـائهـم طبقاً لأفكـارهـم.

5 – وفـي مصـر الفـرعـونيـة كـان لـديهـم تـاريـخ طـويـل، وقـوانيـن وتشـريـعـات عـديـدة.

ورغـم كل هـذا نشـأت الـرسـالـة فـي مكـان يعتبـر بـلا تـاريـخ ولا وضـع ثقـافـي يُـذكـر، اللهـم إلا الشِّعـر، لكـن حـتـى الشعـر لـم يكـن لـه دور فعـال، أو أهميـة خـاصـة فـي إنشـاء الأمـة الإسـلاميّـة، بـل إن رسـول الله لـم يكـن يعـرف نَظْـم الشعـر رغـم بـلاغتـه وفصـاحتـه، وقـد قـال الله تـعـالـى : {وَمَـا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْـرَ وَمَـا يَنْبَغِـي لَـهُ} (سـورة يـس، الآيـة: 69). أي لا يصـح لـه أن يقـول الشعـر، وليـس ذلك لأن الشعـر حـرام، ولكـن لكـي لا يختلـط علـى النـاس الأمـر، فيعتقـدوا أن القـرآن نـوع جديد من الشعر ساقـه الرسول من عنده. وكذلك كان المهاجرون على فصـاحتهـم، لا يقـولـون الشعـر إلا قليـلاً، فأبـو بكـر وعمـر وعـثـمـان وعلـيّ وطلحة والزبيـر، كان معظمهـم لا يقول الشعر، ولم يظهـر للمسلميـن شعـراء إلا بعـد تثبيـت أركـان الـدولـة الإسـلاميّـة فـي المـدينـة، فظهـر مـن الأنصـار شعـراؤهـم ككعـب بـن مـالك، وحسـان بـن ثـابـت، وعبـد الله بـن رواحـة وغيـرهـم.

نقـاء رسـالـة الإسـلام:

كـل مـا ذكـرنـاه آنفـاً لـم يكـن إلا لشـيء واحـد، هـو مـن الأهميـة بمكـان، ألا و هـو: نقـاء الـرسـالـة؛ حتـى لا تختلـط بـأفـكـار أخـرى سـابقـة، وهنـا قـد يتهمهـا الناس بـأنهـا مجـرد تطـور لمعتقـدات معينـة، وقـواعـد خـاصـة وضعـوهـا منـذ آلاف السنيـن، قـد يحـث بـعـضـهـا علـى معنـى أو فضيلـة معينـة يحـث عليهـا الإسـلام أيضـاً، ولكـن مـع شـيء مـن التحـويـل والتغييـر، فقـد يحـث بعضهـم علـى الـصــدق، أو الـزهــد فـي الـدنـيـا والأمـانـة، فـإذا جـاءت هـذه الأفـكـار فـي الإسـلام فـقـد يـعـتـقـد الـبـعـض أنـهـا مـجـرد تـطـور لأفـكـار الفـلاسفـة.

وقـد ادعـى بـعـض أعـداء الإسـلام هـذا الإدعـاء رغـم بُعـد الـرسـول عـن هـؤلاء الفـلاسفـة، ورغـم كـونـه أُمّيّـاً وقـت نـزول الـرسـالـة، فكيـف تكـون الحـال إذا نـزلـت الـرسـالـة فـي بلـدٍ مملـوءٍ بالفـلاسفـة والمفكـريـن؟! كمـا أنّ هنـاك أمـر آخـر مهـم أيضـاً هـو ضـمـان عـدم تـسـرب بـعـض هـذه الأفـكـار والفلسفـات إلـى الإسـلام شيئـاً فشيئـاً دون درايـة المسلميـن بـذلـك، فيختلـط الـصـواب بالخطـأ، والحـق بالبـاطـل.

إن الجزيـرة العـربيّـة رغـم خلـوهـا مـن الفلسفـات والأفكـار القـديمـة، فـإن مجتمـع المسلميـن فيهـا احتـاج جهـداً كـبـيـراً لإلغـاء عـادة مثـل التبنـي، فقـد استلـزم الأمـر طـلاق الصحـابـي الجليـل زيـد بـن حـارثـة مـن زوجـه زينـب بنـت جحـش رضـي الله عنهـا، ثـم زواج النبـي منهـا، كـل ذلك لإحـداث هـزة فـي المجتمـع لإلغـاء هـذه العـادة، فكيـف لـو كـان البلـد حـافـلاً بالفلسفـات وأصحـابهـا؟

إن الله يـريـد أن يـحـفـظ نـقـاء الـرسـالـة، ولعـل هـذا هـو السـر فـي عـدم نـزول الـرسـالـة فـي فلسطيـن، وذلك حـتـى لا تصبـح الـرسـالـة مجـرد امتـداد لليهـوديـة أو النصـرانيـة. نعـم أصـول التـوحيـد واحـدة، ولكـن الإسـلام أتـى بتشـريـع كـامـل متكـامـل يحكـم الـدنيـا والـديـن، كمـا أن اليهـوديـة والنصـرانيـة قـد حُـرِّفَتـا بـدرجـة كبيـرة جـدًّا، ولـم يعـد أحـد يـدري أيـن الصحيـح مـن المـزوَّر؟ أراد الله تعـالـى أن تنـزل الـرسـالـة فـي مكـة ليـس فلسطيـن، حتـى لا يـدّعـي أحـد أنَّ الـرسـول قـد مـزج بيـن التـوراة والإنجيـل، و حـرَّف فيهمـا قليـلاً وغيَّـر، وصنـع منهمـا الإسـلام.

إن كـفـار مـكـة قـد ادعـوا ذلك عـلـى الـرستول الكـريم فـادّعـوا أن الـرسـول يـأخـذ القـرآن مـن غـلام نصـرانـي، فـكـيـف لـو نـزلـت الـرسـالـة فـي بلـدٍ مـمـلـوءٍ بـأهـل التـوراة والإنجيـل كفلسطيـن؟ لـذلـك نـزلـت الـرسـالـة فـي بلـد ليـس فيـه أي نـوع مـن الـثـقـافـات الـسـابقـة أو القـوانيـن أو التشـريعـات. كـل هـذا ليبقـى الـديـن فـي النهـايـة نقيّـاً خـالصـاً {أَلاَ للهِ الـدِّيـنُ الخَـالِـصُ} (سورة الزُّمر، الآيـة: 3)

مـن هـنـا نـفـهـم مـوقـف رسـول الله مـن عـمـر بـن الخطـاب رضـي الله عنـه عنـد رؤيتـه يقـرأ صحيفـة مـن التـوراة. روى أحمـد عَـنْ جَـابِـرِ بْـنِ عَبْـدِ اللَّهِ رَضِـيَ اللَّهُ عَنْهُمَـا أَنَّ عُمَـرَ بْـنَ الْخَطَّـابِ رضـي الله عنـه أَتَـى النَّبِـيَّ بِكِتَـابٍ أَصَـابَـهُ مِـنْ بَعْـضِ أَهْـلِ الْكِتَـابِ، فَقَـرَأَهُ النَّبِـيُّ فَـغَـضِـبَ (وفي روايـة: أن عمـر هـو الـذي كـان يقـرأ) ، فَقَـالَ الـرَّسـوُلُ: (أَمُتَهَوِّكُـونَ فِيهَـا يَـابْـنَ الْخَطَّـابِ، والَّـذِي نَفْسِـي بِيَـدِهِ لَـوْ أَنَّ مُـوسَـى كَـانَ حَيّـاً مَـا وَسِعَـهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِـي).

هذا الحـديـث وإن كـان فيـه أحـد الضعفـاء وهـو مجـالـد بـن سعيـد، إلا أنـه ورد مـن طـرقٍ شتـى يقتضـي مجمـوعهـا أنّ لـهـا أصـلاً كـمـا قـال ابـن حجـر فـي الـفـتـح. ومـن هنـا نفهـم النهـي المتكـرر الصـريـح والجـازم الـذي جـاء فـي القـرآن الكـريـم بخصـوص قضيـة اتبـاع الآبـاء.
لا شـك أنـه سـتـكـون هـنـاك تـقـالـيـد معينـة فـي مـكـة، ومعتقـدات خـاصـة عـنـد السـابقيـن، فلـو اختلطـت هـذه المعتقـدات، وإن كانت قليلـة بالإسـلام، فـإنّ ذلك لا يضمـن بعـد ذلك وضـوح الـرؤيـة ونقـاء الـرسـالـة، قـال الله تعـالـى: {وَ إِذَا قِـيـلَ لَـهُــمُ اتَّـبِـعُــوا مَـا أَنْـزَلَ اللهُ قَـالُــوا بَـلْ نَـتَّـبِــعُ مَـا أَلْـفَـيْـنَـا عَـلَـيْـهِ آبَـاءَنَـا أَوَلَـوْ كَـانَ آبَـاؤُهُـمْ لاَ يَـعْـقِـلُـونَ شَـيْـئـاً وَلاَ يَـهْـتَـدُونَ} (سـورة البقـرة، الآيـة: 170)

                                                     

عن المدير