نظرة إجمالية على الوضع الديني في القرن السادس المسيحي

الكتاب الثاني: وقائع السيرة النبوية
الباب الأول: أهم الأحداث التاريخية من قبل البعثة حتى نزول الوحي
الفصل الأول: العالم قبل البعثة النبوية وأثناءها:
المبحث الأول: أحوال الأقوام غير العربية في القرن السادس المسيحي:
المطلب الثاني: نظرة إجمالية على الوضع الديني في القرن السادس المسيحي:

توطئة:

كانت الإنسانية قبل بزوغ فجر الإسلام، وعلى الخصوص في القرن السادس المسيحي، تعيش مرحلة من أحط مراحل التاريخ البشري في شؤونها الدينية والإقتصادية والسياسية والإجتماعية، وتعاني من فوضى عامة في كافة شؤون حياتها، وهيمن المنهج الجاهلي على العقائد والأفكار والتصورات والنفوس، وأصبح الجهل والهوى والإنحلال والفجور، والتجبر والتعسف من أبرز ملامح المنهج الجاهلي المهيمن على أحوال الأقوام. وضاع تأثير الديانات السماوية على الحياة أو كاد بسبب ما أصابها من التبديل والتحريف والتغيير الذي جعلها تفقد أهميتها باعتبارها رسالة الله إلى خلقه، وانشغل أهلها بالصراعات العقدية النظرية التي كان سببها دخول الأفكار البشرية، والتصورات الفاسدة على هذه الأديان، حتى أدى إلى الحروب الطاحنة بينهم، ومن بقي منهم لم يحرف ولم يبدل قليل نادر، وآثر الإبتعاد عن دنيا الناس ودخل في حياة الخلوة والعزلة طمعاً في النجاة بنفسه يأساً من الإصلاح، ووصل الفساد إلى جميع الأصناف والأجناس البشرية، ودخل في جميع المجالات بلا استثناء.
ففي الجانب الديني تجد الناس إما ارتدوا عن الدين أو خرجوا منه أو لم يدخلوا فيه أصلاً، أو وقعوا في تحريف الديانات السماوية وتبديلها، وأما في الجانب التشريعي، فإن الناس نبذوا شريعة الله وراءهم ظهرياً، واخترعوا من عند أنفسهم قوانين، وشرائع لم يأذن بها الله، تصطدم مع العقل وتختلف مع الفطرة.

وتزعم هذا الفساد زعماء الشعوب والأمم من القادة والرهبان والقساوسة والدهاقين والملوك، وأصبح العالم في ظلام دامس وليل بهيم، وانحراف عظيم عن منهج الله سبحانه وتعالى. وأصبحت الدّيانات العظمى، وصحفها العتيقة، وشرائعها القديمة، الّتي مثّلت في أزمان مختلفة دورها الخاصّ في مجال الدّيانة والأخلاق والعلم، فريسة للعابثين والمتلاعبين، ولعبة المحرّفين والمنافقين، وعرضة الحوادث الدّامية والخطوب الجسيمة حتّى فقدت روحها و شكلها ، فلو بعث أصحابها الأوّلون، وأنبياؤها المرسلون، لأنكروها وتجاهلوها لما تعرضت له من تحريف وتبديل وضياع وإبادة أحياناً؛ وذلك بشهادة علماء هذه الديانات من أسفار العهد العتيق والعهد الجديد إلى أوستا الإيرانية ، وويدا صحف الهند العتيقة.

1 – اليهودية:

أصبحت اليهوديّة مجموعة من طقوس وتقاليد لا روح فيها ولا حياة، وهي بصرف النظر عن ذلك، ديانة سلاليّة، لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، ولا للإنسانيّة رحمة. وقد أصيبت هذه الدّيانة في عقيدة كانت لها شعاراً من بين الدّيانات والأمم، وكان فيها سرّ شرفها، وتفضيل بني إسرائيل على الأمم المعاصرة في الزّمن القديم، وهي عقيدة التّوحيد الّتي وصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب، فقد اقتبس اليهود كثيراً من عقائد الأمم الّتي جاوروها أو وقعوا تحت سيطرتها، وكثيراً من عاداتها وتقاليدها الوثنيّة الجاهليّة، وقد اعترف بذلك مؤرّخو اليهود المنصفون، فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية (Jewish Encyclopedia) ما معناه أنّ سخط الأنبياء وغضبهم على عبادة الأوثان يدلّ على أنّ عبادة الأوثان والآلهة، كانت قد تسرّبت إلى نفوس الإسرائيليين ولم تستأصل شأفتها إلى أيام رجوعهم من الجلاء والنّفي في بابل، وقد قبلوا معتقدات خرافية ومشركة، إنّ التّلمود أيضاً يشهد بأنّ الوثنية كانت فيها جاذبية خاصّة لليهود.

ولعلّ أبلغ دليل على ما وصل إليه المجتمع اليهوديّ في هذا القرن من الإنحطاط العقليّ وفساد الذوق الدينيّ هو تلمود بابل الّذي يبالغ اليهود في تقديسه، وقد يفضلونه على التوراة وكان متداولاً بين اليهود في القرن السّادس المسيحيّ، وما يزخر به من نماذج غريبة من خفّة العقل وسخف القول، والإجتراء على الله، والعبث بالحقائق، والتلاعب بالدّين والعقل.

وللعلم فإن كلمة تلمود معناها كتاب تعليم ديانة اليهود وآدابهم؛ وهي مجموعة حواش وشروح لكتاب (المشنا الشريعة) لعلماء اليهود في عصور مختلفة.

2 – المسيحية:

أمّا المسيحيّة فقد امتحنت بتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، ووثنيّة الرّومان المتنصّرين، منذ عصرهـا الأول، وأصبح كلّ ذلك ركاماً، دفنت تحته تعاليم المسيح البسيطة، واختفى نور التّوحيد وإخلاص العبادة لله وراء هذه السّحب الكثيفة.

جاء في دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة عن مدى تغلغل عقيدة التثليث في المجتمع المسيحيّ، منذ أواخر القرن الرابع الميلاديّ: (تغلغل الإعتقاد بأن الإله الواحد مركب من ثلاثة أقانيم في أحشاء حياة العالم المسيحي وفكره، منذ ربع القرن الرابع الأخير، ودامت كعقيدة رسمية مسلَّمة، عليها الإعتماد في جميع أنحاء العالم المسيحي، ولم يرفع الستار عن تطور عقيدة التثليث وسرها إلا في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلادي).

وقد جاء في (تاريخ المسيحية في ضوء العلم المعاصر): (لقد انتهت الوثنية، ولكنها لم تلق إبادة كاملة، بل إنها تغلغلت في النفوس واستمر كل شيء فيها باسم المسيحية وفي ستارها، فالذين تجردوا عن آلهتهم وأبطالهم وتخلوا عنهم، أخذوا شهيداً من شهدائهم ولقبوه بأوصاف الآلهة، ثم صنعوا له تمثالاً، وهكذا انتقل هذا الشرك وعبادة الأصنام إلى هؤلاء الشهداء المحليين. ولم ينته هذا القرن حتى عمّت فيه عبادة الشهداء والأولياء، وتكونت عقيدة جديدة، وهي أن الأولياء يحملون صفات الألوهية، وصار هؤلاء الأولياء والقديسون خلقاً وسيطاً بين الله والإنسان يحمل صفة الألوهية على أساس عقائد الأريسيين، وأصبحوا رمزاً لقداسة القرون الوسطى وورعها وطهرها، وغيرت أسماء الأعياد الوثنية بأسماء جديدة، حتى تحول في عام 400 ميلادي عيد الشمس القديم إلى عيد ميلاد المسيح).

وجاء القرن السادس المسيحيّ، والحرب قائمة على قدم وساق، بين نصارى الشام والعراق وبين نصارى مصر، حول حقيقة المسيح وطبيعته، تحولت بها المدارس والكنائس والبيوت إلى معسكرات متنافسة يكفّر بعضها بعضاً، ويقتل بعضها بعضاً، كأنها حرب بين دينين متنافسين، أو أمتين متحاربتين، فأصبح العالم المسيحيّ في شغل بنفسه عن محاربة الفساد، وإصلاح الحال، ودعوة الأمم إلى ما فيه صلاح للإنسانية.

3 – المجوسية:

أمّا المجوس فقد عرفوا من قديم الزّمان بعبادة العناصر الطبيعية وأعظمها النار، وقد عكفوا على عبادتها أخيراً، يبنون لها هياكل ومعابد، وانتشرت بيوت النار هذه في طول البلاد وعرضها، وكانت لها آداب وشرائع دقيقة، وانقرضت كلّ عقيدة وديانة غير عبادة النار وتقديس الشمس، وأصبحت الديانة عندهم عبارة عن طقوس وتقاليد يؤدونها في أمكنة خاصّة، أمّا خارج المعابد فكانوا أحراراً، يسيرون على هواهم، وما تملي عليهم نفوسهم، وأصبح المجوس لا فرق بينهم وبين من لا دين لهم ولا خلاق، في الأعمال والأخلاق.

إن مؤلّف (إيران في عهد السّاسانيّين) الدّانماركيّ البروفيسور آرتهر كرستين سين، أستاذ الألسنة الشرقية في جامعة كوبنهاجن بالدانمارك، المتخصص في تاريخ إيران، يصف طبقة رؤساء الدّين ووظائفهم فيقول: (كان واجباً على هؤلاء الموظّفين أن يعبدوا الشمس أربع مرات في اليوم، ويضاف إلى ذلك عبادة القمر والنار والماء، وكانوا مكلّفين بأدعية خاصّة، عند النوم والإنتباه والإغتسال ولبس الزنّار والأكل والعطس وحلق الشعر وقلم الأظفار، وقضاء الحاجة وإيقاد السّراج، وكانوا مأمورين بألّا يدعوا النار تنطفىء، وألا تمسّ النار والماء بعضهما بعضاً، وألا يدعوا المعدن يصدأ، لأنّ المعادن عندهم مقدّسة.

وكان أهل إيران يستقبلون في صلاتهم النار، وقد حلف (يزدجرد) آخر الملوك السّاسانيين بالشمس مرة، وقال: (أحلف بالشّمس التي هي الإله الأكبر)، وقد كلّف التائبون عن المسيحيّة عبادة الشمس إظهاراً لصدقهم. وقد دانوا بالثنويّة في كلّ عصر وأصبح ذلك شعاراً لهم، وآمنوا بإلهين اثنين أحدهما النور أو إله الخير، ويسمّونه آهور مزدا أو يزدان، والثاني الظلام أو إله الشر، وهو أهرمن، ولا يزال الصّراع بينهما قائماً والحرب دائمة.

يذكر المؤرّخون للدّيانة الإيرانية مجموعة أساطير متصلة بالآلهة Mythology لا تقلّ في غرابتها وتفاصيلها الدقيقة عن الميثولوجيا الإغريقيّة أو الهنديّة.

4 – البوذية:

أمّا البوذيّة وهي الديانة المنتشرة في الهند وآسيا الوسطى، فقد تحوّلت وثنيّة تحمل معها الأصنام حيث سارت، وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل بوذا حيث ما حلّت ونزلـت، ولم يزل العلماء يشكّون في إيمان هذه الديانة ومؤسّسها بالإله الخالق للسّماوات والأرض والإنسان ولا يجدون ما يثبت ذلك، ويحارون في قيام هذه الديانة العظيمة بغير الإيمان بالله.

5 – البرهمية:

أمّا البرهميّة وهي دين الهند الأصيل، فقد امتازت بكثرة المعبودات والآلهة والإلهات، وقد بلغت الوثنيّـة أوجها في القرن السّادس فبلغ عدد الآلهة في هذا القرن إلى 330 مليون، وقد أصبح كلّ شيء رائع، وكلّ شيء هائل، وكلّ شيء نافع، إلهاً يعبد، وارتقت صناعة نحت التّماثيل في هذا العهد، وتأنّق فيها المتأنّقون.

يقول الأستاذ الهندوكيّ (سي، وي، ويد) في كتابه (تاريخ الهند الوسطى)، وهو يتحدّث عن عهد الملك هرش (606 – 648 م)، وهو العهد الذي يلي ظهور الإسلام في الجزيرة العربيّة: (كانت الديانة الهندوكية والديانة البوذية وثنيتين سواء بسواء، بل ربّما كانت الديانة البوذية قد فاقت الديانة الهندوكية في الإغراق في الوثنية، كان ابتداء هذه الديانة بنفي الإله، ولكنّها بالتدريج جعلت بوذا الإله الأكبر، ثم أضافت إليه آلهة أخرى مثل Bodhistavas على مرّ الزمن، لا سيّما أرسخت الوثنيّة قدميها في المدرسة البوذية الفكرية التي تسمّى مهايانا بالتأكيد، وقد بلغت أوجها في الهند ، حتى أصبحت كلمة بوذا Buddha مرادفة لكلمة الوثن أو الصنّم في بعض اللغات الشرقيّة مثل الفارسية و اللغات المنشقة عنها كالأردية ، فهي تعبر عن الوثن أو الصنم بكلمة (بد) و هذا التعبير منتشر في الشعر والأدب وكلام النـاس في إيران والهند ، والناس يطلقون على (بوذا) كلمة (بدها) فيقولون: (جوتم بدها) ، وكلمة (بد) و(بدها) متقاربتان نطقاً.

ممّا لا شكّ فيه أنّ الوثنيّة كانت منتشرة في العالم المعاصر كلّه. لقد كانت الدنيا كلّها من البحر الأطلسيّ إلى المحيط الهادىء غارقة في الوثنيّة. وكأنّما كانت المسيحية والديانات الساميّة والديانة البوذيّة تتسابق في تعظيم الأوثان وتقديسها. وكانت كخيل رهان تجري في حلبة واحدة.

                                        

عن المدير