الكتاب الثاني: وقائع السيرة النبوية
الباب الأول: أهم الأحداث التاريخية من قبل البعثة حتى نزول الوحي
الفصل الأول : العالم قبل البعثة النبوية وأثناءها
المبحث الأول: أحوال الأقوام غير العربية في القرن السادس المسيحي
المطلب الأول: إطلالة على البلاد والأمم في القرن السادس المسيحي
توطئة:
بداية قد نتساءل: لماذا الحديث عن الفترة السابقة للإسلام؟
والإجابة هي أنك لن تدرك قيمة النور إلا إذا عرفت الظلام، وفي هذا المجال تكفينا الإشارة إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي، والذي يوضح حال الأرض قبل بعثته: (إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)، فقد وصل حال الناس إلى درجة من الإنحطاط جلبت عليهم مقت الله، والمقت هو شدة الكراهية.
واستخدام الرسول صلى الله عليه وسلم للتعبير بكلمة (بقايا) يوحي بالأثرية، أي كأنهم آثار من عهود سحيقة لا قيمة لها في واقع الناس، ومن جانب آخر فإنّ هذه البقايا لم تشكل مجتمعات كاملة، بل كانت أفراداً معدودين: رجلاً في مدينة ما، وآخر في مدينة ثانية تبعد عن الأولى مئات الأميال، وهكذا.
إذن، تعالَوْا نخترق حدود الزمان والمكان: نخترق حدود الزمان لنصل إلى ما قبل بعثة رسول الله. ونخترق حدود المكان لنصل إلى كل بقعة على الأرض كانت تعاصر رسول الله، ونتجول بين الشرق والغرب لنطالع أحوال الناس والملوك، والأخلاق والطباع، ونكتشف حقيقة ما سمِّي بالحضارات في ذلك الزمن.
كان البشر وقت البعثة المحمدية منتشرين في العالم وخاصة القارات الثلاث؛ آسيا وأوروبا وأفريقيا، وهم من أجناس متنوعة، فالعرب في شبه جزيرة العرب والعراق والشام، والفرس في بلاد ايران، والتتار والترك في بلاد ما وراء النهر وأواسط آسيا والهنود في شبه جزيرة الهند، والجنس الأصفر في الصين واليابان وجنوب شرق آسيا، والروم في آسيا الصغرى (تركيا حالياً) وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقية، والأنجلو سكسون في إنكلتره، والفرنج في فرنسا وهولنده وألمانيا، والغوط في أسبانيا وإيطاليا، والسودان والحبشة في بلادهم المعروفة اليوم في إفريقية. وكانت القوى الكبرى المتحكمة في العالم آنذاك تتمثل في الفرس والروم، حيث سيطرت القوتان على مساحات شاسعة من الأرض، وحكمتا شعوباً عديدة امتد نفوذها إليها. فقبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان العالم يعج بصور شتى من الإنحرافات العقدية والأخلاقية والطبقية والإستعباد والإغتصاب للحقوق بكل صورها لا يختص ذلك ببلد دون آخر، والفارق هو في ازدياد فئة لنوع من الشر على فئة أخرى، وما ذاق أهل الأرض العدل إلا بالنور الساطع من شمس النبوة على أرجاء العالم.
1 – الإمبراطورية الرومانية الشرقية:
أول شيء يلفت الأنظار في ذلك الزمن دولة ضخمة جداً تمتلك نصف الأرض تقريباً وهي الدولة الرومانية، ومن ضخامتها سمى الله عز وجل سورة من سور القرآن الكريم بسورة الروم، ذكر فيها قصة الروم مع الفرس، قال الله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * في بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (سورة الروم، الآيات: 2 – 4)، ولكن ما هي الدولة الرومانية؟
كانت الدولة الرومانية ضخمة جداً، مساحتها ممتدة على ثلاثة أرباع أوروبا مقسمة إلى قسمين رئيسيين، دولة رومانية غربية عاصمتها روما، وقد سقطت قبل البعثة النبوية، ودولة رومانية شرقية وعاصمتها القسطنطينية، كان يحكمها القيصر هرقل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيصر هذا لقب لإمبراطور القسطنطينية الذي يحكم الدولة الرومانية. وكانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية تعرف بالإمبراطورية البيزنطية ويعرفها العرب بالروم، وكانت تحكم في العصر الذي نتحدث عنه، دول اليونان والبلقان وآسيا وسوريا وفلسطين وحوض البحر المتوسط بأسره، ومصر وكل إفريقيا الشمالية، وكان ابتداء الإمبراطورية المذكورة سنة 395؛ وانتهاؤها بغلبة العثمانيين على القسطنطينية سنة 1453 م.
وقد مزقت الخلافات العقائدية العقيمة بين طوائف النصارى في أطراف الدولة الرومانية الشاسعة، فقد كانت خلافاتهم بشعة، فالخلاف بين المذهب الأرثوذكسي والكنيسة الشرقية من ناحية، والمذهب الكاثوليكي والكنيسة الغربية من ناحية أخرى كان خلافاً حادّاً أسفر عن حروب مدمرة فني فيها الآلاف والآلاف على مدار السنين. بل في داخل الدولة الرومانية الأرثوذكسية الشرقية ذاتها إشتعلت الخلافات العقيمة بين طائفة الملكانية -وهم على مذهب الملك- التي تعتقد بازدواجية طبيعة المسيح، أي أنّ له طبيعتين: بشرية وإلهية، وطائفة المنوفيسية -وهم أهل مصر والحبشة- التي تعتقد بطبيعة إلهية واحدة للمسيح، وكانت طائفة الملكانية تقوم بتعذيب الطائفة الأخرى تعذيباً بشعاً، فيحرقونهم أحياناً، ويغرقونهم أحياناً أخرى، مع أنهم جميعاً أبناء مذهب واحد هو الأرثوذكسية، وظلت هذه الحروب مشتعلة حتى العهد القريب، وإلى الآن هناك خلافات عقائدية ضخمة، وحروب بين الطوائف المختلفة من النصارى. فكل طائفة قد يختلف كتابها المقدس عن الأخرى في أجزاء، كما أن لكل طائفة كنائسها التي لا تسمح لأبناء الطائفة الأخرى بالصلاة فيها، ولهذا كله كان الفتح الإسلامي لمصر يشكل لأقباطها خلاصاً من اضطهاد وتعذيب الدولة الرومانية لهم، فقد رحمهم المسلمون من هذا الإضطهاد وتركوا من شاء منهم على دينه.
ومن ناحية أخرى كان الناس يسجدون للبابا في إيطاليا، ويقبلون قدمه حتى يأذن لهم بالقيام، كما في المسالك والممالك للبكري رحمه الله.
أما الجوانب الأخلاقية فقد كانت في انحدار شديد في هذه الدولة، تمثل في:
* تأخر سن الزواج، أو بمعنى أصح اختفى الزواج، وفضل الجميع العزوبة على الزواج؛ لأن تكاليف الزواج كانت غالية والناس كلها فقراء، الأموال كثيرة جداً في الدولة، ولكنها مجموعة في أيدي قلة قليلة من رجال الدولة الرومانية الواسعة، فأدى ذلك إلى انحلال رهيب بين أوساط الناس، وانتشرت الزنا في كل مكان، واختلطت الأنساب.
* أصبحت الرشوة أصلاً في التعامل مع موظفي الدولة، فأي مصلحة تريد أن تقضيها لابد أن تقدم بين يديها رشوة.
* الضرائب ضخمة باهظة على كل سكان البلاد، وهي على الفقراء أكثر منهم على الأغنياء.
* كان المجتمع الروماني ينقسم إلى أحرار وهم السادة، وعبيد وهم ثلاثة أضعاف الأحرار من حيث العدد، ومعاملة العبيد كانت في منتهى القسوة فهم لا يتمتعون بأية حقوق بل مصيرهم في أيدي سادتهم، كما أنهم ليس لهم أي احترام وسط المجتمع، لدرجة أن أفلاطون الفيلسوف صاحب فكرة المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) التي ألفها وتخيلها في عقله، هذه المدينة الخيالية المثالية كان يرى إنه لا يجب أن يعطى فيها العبيد حق المواطنة. مع أنهم من أهل البلد.
* الوحشية الشديدة في الطباع وقد تمثل ذلك في لهوهم، وفي حروبهم على السواء. ففي اللهو كان من وسائل التسلية التي كانت في الدولة الرومانية الشرقية صراع العبيد مع الوحوش المفترسة في أقفاص مغلقة، فقد كانت هناك ميادين رياضيّة واسعة تتّسع لجلوس ثمانين ألف شخص، يتفرّجون فيها على مصارعات بين الرّجال والرّجال أحياناً، وبين الرّجال والسّباع أحياناً أخرى. والوزراء والأمراء ينظرون من الخارج، ويستمتعون برؤية الأسد أو النمر وهو يفترس العبد بعد قتال قد يدوم قليلاً أو كثيراً. وكانوا يقسّمون الجماهير في لونين: لون أزرق ولون أخضر، لقد كانوا يحبّون الجمال، ويعشقون العنف والهمجيّة.
أما في حروبهم فكانوا يتعاملون مع عدوهم بهمجية وبربرية ووحشية، فعلى سبيل المثال: في عهد اسفسيانوس أحد قياصرة الرومان، حاصر اليهود في أورشليم (القدس) سنة (70 م) لمدة خمسة أشهر كاملة، انتهت في سبتمبر سنة (70 م) بسقوط المدينة واستسلام اليهود في أشد هزيمة مهينة عرفها التاريخ، لماذا نقول هزيمة مهينة؟ لأن الرومان أجبروا اليهود أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم بأيديهم، هكذا أتى الأمر الروماني إلى دولة اليهود المحاصرة داخل مدينة القدس، الغريب أن اليهود أطاعوا ووافقوا على ذلك، وقاموا به من شدة الرعب، وطمعاً منهم في النجاة، وهم أحرص الناس على حياة ولو كانت حياة ذليلة مهينة، وخرجوا يقتلون أبناءهم ونساءهم بسيوفهم، ثم خرجوا للرومان الذين بدءوا بعمل قرعة بين كل اثنين من اليهود، أيهما يقتل أخاه إلى أن صفوا كل اليهود الموجودين في القدس ولم ينج منهم إلا الشريد، أو أولئك الذين كانوا يسكنون في أماكن بعيدة.
أمّا مصر فكانت محتلة من قبل الرومان منذ هزيمة كليوباترا على يتد أوكتافيوس في سنة (31) قبل الميلاد، أي أكثر من خمسة قرون من الإحتلال الروماني لمصر، حتى سقط في سنة (476 م) لما سقطت الدولة الرومانية الغربية، لكن الدولة الرومانية الشرقية سرعان ما استولت على مصر قبل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم بحوالـي (100) سنة.
والدولة الرومانية سواء كانت شرقية أو غربية كانت تتخذ من مصر مخزناً يمد الإمبراطورية الرومانية باحتياجاتها من الغذاء، وحصل تدهور شديد في الإقتصاد المصري، وتدهور شديد أيضاً في الحالة العلمية والإجتماعية، وفقد المصريون السلطة بكاملها في بلادهم، لكن الرومان حرصوا على أن يتركوا بعض الرموز من أجل أن تبقى صورة من المصريين موجودة في السلطة، فيتجنبوا ثورة الشعوب، لكن الواقع أن كل الحكم والإدارة كانت في يد الرومـان.
فرضوا الضرائب الباهظة على الشعب الفقير المعدم، ضرائب عامة على الأفراد والصناعات والأراضي والماشية، وحتى على المبيعات. وضرائب على المارة، إذا أردت أن تذهب من مكان إلى مكان أو من مدينة إلى مدينة تدفع ضريبة. وضرائب حتى على زوجات الجنود، الجندي يدفع روحه من أجل البلد وامرأته وهو غائب تدفع ضريبة. وضرائب على أثاث المنزل، بل تجاوزت ضرائب الأحياء إلى الأموات، فقد كان لا يسمح بدفن الميت إلا بعد أن تدفع ضريبة معينة تشبه ضريبة التركات، ولم يكتفوا بمصيبة الموت فأضافوا إليها ضريبة.
فوق كل هذا كان هناك التعذيب لأجل المخالفة في المعتقد الديني، فالكل لابد أن يكون تحت مظلة النصرانية الأرثوذكسية.
أما سورية، وهي ولاية الإمبراطورية البيزنطيّة الآخرى، فكانت مطيّة المطامع الرومانيّة، وكان الحكم حكم الغرباء الذي لا يعتمد إلّا على القوّة، ولا يشعر بشيء من العطف على الشعب المحكوم، وكثيراً ما كان السّوريّون يبيعون أبناءهم ليوفّوا ما كانت عليهم من ديون، وقد كثرت المظالم والسخرات والرقيق.
2 – الإمبراطورية الإيرانية الساسانية:
ننتقل إلى جهة الشرق لنرى الدولة الفارسية التي كانت تمتلك نصف العالم الآخر في ذلك الزمن، وتعرف بالدولة الكسروية، وقد انشقت عن الإمبراطورية الرومانية الكبرى، وكانت أكبر وأعظم من الإمبراطورية الرومانية الشرقية مساحة وأبهة وثروة؛ وقد تأسست على يد أردشير في سنة 224 م، وكانت تحكم حين بلغت أوجها: أسبرته، وخوزستان، وميديه، وفارس، وأذربيجان، وطبرستان، وسرخس، وجرجان، وكرمان، ومرو، وبلخ، وصغد، وسيـستان، وهراة، وخراسان، وخوارزم، والعراق، واليمن من الجزيرة العربية، وقد دخلت بعض ولايات الهند مثل كجه، وكاتتيهاوار، ومالوه، في حكمها في بعض الفترات، وقد اتسعت هذه الإمبراطورية اتساعاً كبيراً منذ القرن الرابع المسيحي، وقد أوغلت في الشمال والشرق وبلغت أقصى حدودهما. وقد كانت طيسيفون (المدائن) عاصمة الإمبراطورية، ومقر الإمبراطور الإيراني، وكانت مجموع مدائن كما يبدو من اسمها العربي، وقد بلغت أوجها في الرقي والمدنية والبذخ؛ في القرن الخامس إلى ما بعد.
وكانت تمثل مأساة حضارية بكل المقاييس! انهيار شديد في الأخلاق بلغ أقصاه بزواج المحارم، وهذا شيء رغم بـشاعته إلا أنه كان منتشراً في الدولة الفارسية، فقد كان الرجل يتزوج من ابنته أو أخته أو أمه، كبار القوم وصغارهم في ذلك سواء، فكسرى يمكن أن يتزوج أي واحدة في المجتمع كله، وقد وقع من يزدجرد الثاني كسرى فارس أنه تزوج من ابنته ثم قتلها.
كذلك بهرام جوبين وهو أحد الأكاسرة كان متزوجاً من أخته، وبعضهم كان يتزوج أمه، وهذا الأمر كان مستنكراً في كل بقاع الأرض، وكل الشعوب تعيب على أهل فارس أنهم يتزوجون بالمحارم، ولم يقولوا: إن هذا متعارف عليه في المجتمعات؟ لا، بل كان هذا شيئاً منكراً ضد الفطرة، ولكنهم كانوا يفعلونه.
وسبب ذلك: أنه في عهد قباذ -وهو أحد الأكاسرة الكبار في تاريخ الفرس- ظهر رجل اسمه مزدك، وهناك من يضعه في طائفة الفلاسفة والمفكرين بينما هو في الواقع مصيبة وكارثة ضربت الفرس في مقتل، قال مزدك: إن الناس سواسية في كل شيء! وكانت كلمته ظاهرها جيد، لكن هل هم سواسية في الحقوق، والمعاملة؟ لا، لم يرد هذا فقط، بل أراد سواسية حتى في المال والنساء، فلا يوجد احترام لأي ملكية في البلد، كل شيء مباح للناس كلها، كل شيء مشاع، يمكن لأي أحد أن يدخل إلى بيت الآخر ويأخذ من ماله ونسائه، فبالتبعية استفاد الأقوياء من هذا القانون على حساب الضعفاء، وكان الرجل القوي يدخل على الضعيف يغلبه على ماله وزوجته فلا يستطيع الضعيف أن يتكلم، بينما الضعيف لا يستطيع أن يدخل على القوي، ولا أن يعترض أو يرفع شكواه؛ لأن هذا أصبح جزءاً من الدين في بلاد فارس.
ثم عمت البلاد المشاكل؛ لأن كل الناس لا تريد أن تعمل؛ لأن كل من يعمل لا يملك شيئاً، فلماذا يعمل؟ وعمت السرقات كل مكان، وباركها كسرى قباذ؛ لأن هذا عنده من الدين الذي وضعه مزدك، وفسد الناس كلهم أجمعون.
قارن هذا الموقف بموقف رسول الله وهو يقول: (والذي نفس محمد بيده! لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) صلى الله عليك وسلم يا رسول الله.
وكان تقديس الأكاسرة في بلاد فارس أمراً عظيماً جداً عند عامة الناس، فقد رسخوا عند العوام الإعتقاد بأن الأكاسرة تجري بعروقهم دماء إلهية، وأنهم فوق البشر وفوق القانون، فكان الرجل إذا دخل على كسرى ارتمى ساجداً على الأرض، ولا يقوم حتى يؤذن له، وكان الناس يقفون أمام كسرى حسب طبقاتهم، فأقربهم إليه هم طبقة الكهان والأمراء والوزراء وهؤلاء كانوا يقفون على بعد خمسة أمتار منه، ومن هم أقل منهم درجة فكانوا يقفون على مسافة عشرة أمتار منه، والرسل كانوا يقفون على مسافة خمسة عشر متر من كسرى، وكل من أراد أن يدخل على كسرى يتوجب عليه أن يضع على فمه قطعة من القماش الأبيض الرقيق، حتى لا تلوث أنفاسه الحضرة الملكية لكسرى!
يفعلون ذلك بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استقبله رجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل الذي ينزعها، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له، حيث أنه يتواضع لجليسه حتى إنه لا يمد رجله أمام الجليس، كما روى ذلك الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه وأرضاه.
كانت هناك طبقية شديدة فيها مهانة كبيرة جداً للإنسانية، فقد قسموا شعب فارس من أوله إلى آخره سبع طبقات:
* الطبقة الأولى: طبقة الأكاسرة فوق الجميع.
* الطبقة الثانية: طبقة الأشراف وهؤلاء سبع عائلات، ولا يمكن أن يوجد شريف خارج هذه العائلات السبع.
* الطبقة الثالثة: طبقة رجال الدين.
* الطبقة الرابعة: طبقة رجال الحرب وقواد الجيوش.
* الطبقة الخامسة: طبقة المثقفين، ورجال العلم، والكتاب، والأطباء، والشعراء.
* الطبقة السادسة: طبقة الدهاقين، وهم رؤساء القرى، وجامعو الضرائب.
* الطبقة السابعة: وهي طبقة الشعب، وهم أكثر من (90%) من مجموع سكان فارس، وهم: العمال، والفلاحون، والتجار، والجنود، والعبيد. وهذه الطبقة ليس لها حقوق تذكر. كانوا يربطون بالسلاسل في المعارك، كما حدث في موقعة الأبلة، وهي أول موقعة إسلامية في فتح فـارس، كانت بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، كان الفرس يربطون ستين ألفاً من الجنود بالسلاسل، كل عشرة في سلسلة، حتى إن الموقعة سميت بعد ذلك في التاريخ بذات السلاسل، ولك أن تتصور كيف يستطيع هؤلاء المقيدون في السلاسل أن يحاربوا قوماً وصفهم خالد بن الوليد رضي الله عنه بقوله في رسالته إلى زعيم الأبلة في نفس الموقعة: (جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة) .
شيء آخر أيضاً في منتهى البشاعة كان في بلاد فارس هو عبادة النار، ظهر رجل إسمه زرادشت في بلاد فارس، يعتبرونه من كبار الفلاسفة ليس فقط لأهل فارس بل للعالم بأسره، حتى إن صاحب (الخالدون المائة) وأعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم، عدّه من ضمن الخالدين، وجعل ترتيبه (89) ؛ لأن ديانته محلية، بينما ديانة الرسول صلى الله عليه وسلم وديانة المسيح عليه السلام عالمية، فهو يقول: (من أجل هذا أخرته)، وهذا أسلوب قبيـح في التشبيه بين الأنبياء وبين هذا الرجل.
هذا الرجل هو الذي دعا إلى تقديس النار، وقال: (إن نور الله عز وجل يسطع في كل ما هو مشرق وملتهب)، ومن ثم حرم الأعمال التي تتطلب النار، واكتفت الناس بالزراعة والتجارة. والنار لا توحي لعبادها بشريعة ولا تضع لهم منهجاً، فشرع الناس لأنفسهم حسبما تريد أهواءهم، وعم الفساد في بلاد فارس.
3 – الـهـنـد:
أمّا الهند التي برزت في العصر القديم في العلوم الرياضيّة وعلم الفلك والطبّ والتعمّق في الفلسفة فقد اتّفقت كلمة المؤرّخين لها على أنّ أحطّ أدوارها ديانةً، وخلقاً، وإجتماعاً، ذلك العهد الذي يبتدىء من مستهلّ القرن السادس الميلاديّ، فانتشرت الخلاعة حتّى في المعابد وأصبحت لا عيب فيها، لأنّ الدين قد أضفى عليها لوناً من القدسية والتعبّد. وقد كثرت فيها المعبودات بشكل مريع، فأي شيء في الهند يعبد، تماثيل لكل شيء، يعبدون الأشخاص والجبال والأنهار، مثل نهر الكنج فهو مقدس عندهم، حتى المعادن، وأشهر المعادن التي كانت تعبد الذهب والفضة. وعبدوا آلات الحرب من سيف أو درع، وآلات الكتابة من قلم أو كراسـة. كذلك الأجرام الفلكية تعبد من دون الله عز وجل، والحيوانات، وأكثر حيوان يعبد في بلاد الهند هو البقرة، وللأسف ما زالت تعبد إلى الآن من قبل علماء كمبيوتر وعلماء ذرة وأطباء ومهندسين، وليس فقط البقرة، بل كل الحيوانات عبدت في بلاد الهند، لدرجة أنهم عبدوا الفئران، وحصلت مجاعة ضخمة في بلاد الهند كان سببها ترك الفئران فأكلت كل المزروعات الهندية.
والمرأة في المجتمع الهندي أحياناً يكون لها أكثر من زوج، وهي في منزلـة مثل منزلة الأمة، حتى ولو كانت زوجة لشريف، فهي لا قيمة لها ولا عصمة، وأحياناً في بلاد الهند يلعب الرجل القمار ويخسر، ثم لا يجد إلا أن يقامر على زوجته، وممكن أن يخسرها في القمار، وإذا مات زوجها صارت كالموءودة لا تتزوج ولا تستحق احتراماً، وانتشرت عادة إحراق الأيامى نفوسهن على وفاة أزواجهن، خاصّة في الطبقات الشريفة والأرستقراطيّة إظهاراً للوفاء، وفراراً من الشقاء، وتسمّى هذه العادة بستّي، ولم تزل زوالاً كلياً إلا بعد الإحتلال الإنجليزيّ.
قارن هذا بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً) أو (النساء شقائق الرجال) أو (خيركم خيركم لأهله) … وغير ذلك من الأحاديـث.
وامتازت الهند من بين جاراتها وأقطار العالم بالتفاوت الفاحش بين طبقات الشعب، والإمتياز بين الإنسان والإنسان، وكان نظاماً قاسياً لا هوادة فيه ولا مرونة، مدعماً بالدين والعقيدة، خاضعاً لمصلحة الآريّين المحتلّين، والبراهمة المحتكرين للديانة والقداسة، قائماً على أساس الحرف والصـنائع وتوارثها، والعنصرية والسّلالية، وكان ذلك تابعاً لقانون مدنيّ سياسيّ دينيّ هو القانون المدني الإجتماعي الهندي المسمّى ب (منو شاستر)، وضعه المشرّعون الهنديّون الذين كانت لهم صفة دينية، أصبح القانون العام للمجتمع ودستور الحياة، وهو يقسّم سكان الهند في أربـع طبقات:
* طبقة الكهنة ورجال الدين، وهم البراهمة.
* رجال الحرب والجندية وهم شتري.
* رجال الفلاحة والتجارة وهم ويش .
* رجال الخدمة وهم شودر ، ومعنى كلمة (شودر) المنبوذين، وهم أحطّ الطبقات، فقد خلقهم خالق الكون من أرجله، وهم أحط عندهم من البهائم، وأذل من الكلاب، وليس لهم إلا خدمة هذه الطبقات الثلاث وإراحتها. حتى إن القانون عندهم ينص: من سعادة شودر أن يقوموا بخدمة البراهمة من دون أن يكون لهم أجر.
قارن هذا بما رواه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) .
فليس لطبقة شودر أن يقتنوا مالاً؛ لأن هذا يؤذي البراهمة، فلا يصح أن تكون عندك ملكية لأي جزء ولو القليل من المال. وإذا همَّ شودري أن يضرب برهمي قطعت يده، وإذا هم بالجلوس إليه كوي إسته بالنار، ونفي خارج البلاد، وإذا سبه اقتلع لسانه، وإذا إدعى أنه يعلمه شيئاً سقي زيتاً مغلياً.
يقول القانون الهندي: إن كفارة قتل الكلب والقطة والضفدعة والبومة سواء بسواء مثل كفارة قتل الشودر.
وكانت الهند في حالة فوضى وتمزّق تحكمها إمارات وحكومات تعدّ بالمئات، تضعفها حروب ومنافسات، ويسود الإضطراب وسوء الإدارة واختلال الأمن وإهمال شؤون الرعيّة والإستبداد.
وكانت تعيش في عزلة عن العالم، يسيطر عليها الجمود، والتزمّت، والتطرّف، في العادات والتقاليد، والتفاوت الطبقيّ، والتعصّب الدمويّ والسّلاليّ.
يتحدّث Vidyadhar Mahahan مؤرّخ هندوكيّ أستاذ التاريخ في إحدى جامعات الهند، عن عصر سابق لدخول الإسلام في الهند، في كتابه Muslim Rule in India، فيقول: (كان أهل الهند منقطعين عن الدنيا، منطوين على أنفسهم، لا خبرة عندهم بالأوضاع العالميّة، وهذا الجهل أضعف موقفهم، فنشأ فيهم الجمود، وعمّت فيهم أمارات الإنحطاط والتّدهور، كان الأدب في هذه الفترة بلا روح، وهكذا كان الشأن في الفنّ المعماريّ، والتصوير، والفنون الجميلة الآخرى. وكان المجتمع الهنديّ راكداً جامداً، وكان هناك تفاوت عظيم بين الطبقات، وتمييز معيب بين أسرة وأسرة، وكانوا لا يسمحون بـزواج الأيامى ويشدّدون على أنفسهم في أمور الطعام والشراب. أمّـا المنبوذون فكانوا يعيشون مضطرّيـن خارج بلدهم ومدينتهم).
4 – أوروبا الشمالية:
أوروبا الشمالية، وهي: إنجلترا، والدول الإسكندنافية السويد والدنمارك وفنلندا وألمانيا. هذه المناطق الشمالية من أوروبا كانت خارج حدود الدولة الرومانية، يقول عنها المؤرخ الفرنسي رينو وقد شهد شاهد من أهلها: (طفحت أوروبا في ذلك الزمن بالعيوب والآثام، وهربت من النظافة والعناية بالإنسان والمكان، وزخرت بالجهل والفوضى والتأخر وشيوع الظلم والإضطهاد، فشت فيها الأمية، للدرجة التي كان الأمراء يفتخرون بأنهم لا يستطيعون أن يقرءوا، والعلماء كانوا في مهانة شديدة في هذه البلاد، هذا إن وجدوا). قارن هذا بدين كانت أول كلماته {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (سورة العلق، الآية: 1) كما قال الله عز وجل.
ويتابع رينو قائلاً: (كانت أوروبا مسرحاً للحروب والأعمال الوحشية)
كانت أجسامهم قذرة، ورؤوسهم مملوءة بالأوهام، وكانوا يزهدون في النظافة واستعمال الماء، ويغالي الرهبان منهم في تعذيب الأجسام، والفرار من الإنسان، وكانوا يبحثون في أنّ المرأة حيوان أم إنسان، ولها روح خالدة أم ليست لها روح خالدة، وأنّ لها حقّ الملكيّة، والبيع، والشراء، أم ليس لها شيء في ذلك؟
يقول روبرت بريفولت Robert Briffault في مؤلفه The Making of Humanity : (لقد أطبق على أوربة ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر، وكان هذا الليل يزداد ظلاماً وسواداً، وقد كانت همجيّة ذلك العهد أشدّ هولاً، وأفظع من همجية العهد القديم، لأنّها كانت أشبه بجثّة حضارة كبيرة قد تعفّنت، وقد انطمست معالم هذه الحضارة، وقضي عليها بالزوال، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي، كإيطاليا، وفرنسا، فريسة الدّمار والفوضى والخراب.
ويقول جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) يصف وضع أوروبا: (لم يجدوا في أوروبا بعض الميل للعلم إلا في القرن الحادي عشر والثاني عشر من الميلاد -وهذا موافق للقرن الرابع والخامس الهجري-، وذلك حين ظهر فيهم أناس أرادوا أن يرفعوا أكفان الجهل، فولوا وجوههم شطر المسلمين الذين كانوا أئمة عصرهم). وهذا الكلام كان بعد أربعة أو خمسة قرون من نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً ، كيف كان الوضع قبل هذا ؟
كتب مؤرخ أندلسي إسمه صاعد كتاباً اسمه (طبقات الأمم) وهو كتاب رائع، يصف فيه حال البلاد في زمانه، وقد توفي في القرن الخامس الهجري سنة (462 هـ) في طليطلة، يحكي حال البلاد الشمالية في القرن الخامس الهجري فيقول: (كانوا قوماً أشبه بالبهائم، وقد يكون ذلك من إفراط بعد الشمس عن رءوسهم فصارت بذلك أمزجتهم باردة، وأخلاقهـم فجة رديئة، وقد انسدلت شعورهم على وجوههم، وعدموا دقة الأفهام، وغلب عليهم الجهل والبلادة، وفشت فيهم الغباوة).
وهذا الرحالة الأندلسي إبراهيم الطرطوش يصف أهل جليقية الذين كانوا يعيشون في شمال إسبانيا، قال: (هم أهل غدر ودناءة أخلاق، لا يتنظفون ولا يغتسلون في العام إلا مرة أو مرتين بالماء البارد، لا يغسلون ثيابهم منذ يلبسونها إلى أن تتقطع عليهم، ويزعمون أن الوسخ الذي يعلوهم من عرقهم تصح به أبدانهم).
قارن بين هذا وبين دين يأمر بالوضوء خمس مرات في اليوم، والإغتسال من الجنابة، ويوم الجمعة، وفي الأعياد، ويأمر باجتناب صلاة الجماعة -وهي من أشرف العبادات- لمن أكل ثوماً أو بصلاً!
يروي ابن فضلان الرحالة المسلم في القرن الرابع الهجري ما شاهده بنفسه من موت أحد السادة في أوروبا، فجاءوا بجارية له كي تموت معه، فشربت الخمر ورقصت وقامت بطقوس معينة، ثم قيدوها بالحبال من رقبتها، ثم أقبلت إمرأة عجوز يسمونها ملك الموت وبيدها خنجر كبير، ثم أخذت تطعنها في صدرها بين الضلوع في أكثر من موضع، والرجال يخنقونها بالحبل حتى ماتت، ثم أحرقوها ووضعوها مع سيدها الميت، وهم بهذا يحترمون إنسانية السيد كما يظنون!
قارن هذا بما جاء به الإسلام وتعجب من أجل أن تعرف دينك، جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه) سواء كان هذا العتق على سبيل الوجوب أو الإستحباب. فهذه نظرة الإسلام لمعاملة الرقيق. وحتى في الحديث عنهم يراعي الإسلام مشاعرهم، جاء في صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: (لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتي، كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلامِي وَجَارِيَتِي، وَفَتَايَ وَفَتَاتِي).
5 – الصين :
أما وضع الصين أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان فيها ثلاث ديانات:
الأولى: لرجل إسمه لاوتسوا وله ديانة نظرية غير عملية، فيها بعد كامل عن النساء، وزهد كامل في الدنيا، وانعزال كامل عن المجتمع.
الثانية: لكنفوشيوس، ويعتبرونـه من كبار الفلاسفة الصينيين، وهو صاحب نظرية مادية بحتة، وهي ديانة تعنى بقوانين وقواعد وتجارب، وتشير إلى أن الحياة بصفة عامة شيء بائس، ومن ناحية العبادة: أنت حر، أعبد ما أردت: شجرة أو نهراً، أو … إلخ، فهذا أمر لا يعني كنفوشيوس.
الثالثة : لبوذا، وهي تعاليم أخلاقية معينة، ولكن فيها أيضاً الكثير من الإنعزال عن المجتمع، والزهد في الحياة، وبعد ذلك تحول بوذا من مجرد مشرع إلى معبود رسمي، صنعت له التماثيل، وظل يعبد على مدار السنين.
وإلى الآن هؤلاء الثلاثة موجودون، حتى إن صاحب كتاب (الخالدون المائة) وأعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وضعهم في الخالدين، بوذا الخامس وكنفوشيوس السادس. بل إن مؤلف الكتاب لم يتردد أن يقول في وقاحة شديدة: إن بوذا يستحق أن يتصدر قائمة الخالدين ويسبق محمداً صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام لولا أن أتباع بوذا الآن أقل من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباع عيسى عليه السلام، من أجل هذا أخر بوذا إلى المرتبة الخامسة، وهذا يضمر لنا إلى أي حد أصبحت المقاييس مختلة عند أمثال هؤلاء.
6 – موقع اليهود على خارطة الأحداث قبل وبعد البعثة النبوية:
في هذه الصورة البشعة للأرض أين كان اليهود؟ عاش اليهود مضطهدين في آسيا وأوروبا وإفريقيا وفي كل بقعة وفي كل زمن، وليس هناك طاقة لأحد من البشر بمعاشرة اليهود، فهم في لحظات الضعف خنوع ونفاق ودس وكيد وكذب، وفي لحظات القوة تجبر وتكبر وظلم ووحشية وربا وفتن ومؤامرات.
اليهـود في ذلك الزمن تركزوا في منطقة الشام، وفي سنة 610 ميلادية، بعد حوالي ثلاث سنوات أو سنتين من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم حصلت المعركة الضخمة ما بين الفرس والروم، التي ذكرت في كتاب الله عز وجل: {غُلِبَتِ الرُّومُ} (سورة الروم، الآية : 2)، وانتصر الفرس على الرومان، واليهود كانوا في بلاد الشام التي تتبع الدولة الرومانية، فلما غلبت الدولة الرومانية تحول اليهود من رعايا الدولة الرومانية إلى قتلة وسفاكي دماء لكل رهبان النصارى الموجودين في بلاد الشام، وصارت لهم شوكة فترة من الزمان، ثم دارت الأيام وانتصر الرومان على الفرس {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (سورة الروم، الآية: 3)، فجمع اليهود أنفسهم وذهبوا إلى هرقل وقدموا له القرابين وتذللوا لـه، وأظهروا لـه الإنصياع الكامل والتبعية لحكومته، فقبل منهم هرقل ذلك، وأعطاهم العهد بالأمان، لكن أتى رهبان الشام بعد ذلك فذكروا لهرقل ما فعله اليهود في وقت هزيمة الرومان، فغضب وأراد أن يعاقب اليهود، ولكن منعه العهد الذي أعطاه إليهم، فجاء إليه الرهبان النصارى وقالوا لهرقل: (لا عليك من العهد، أقتلهم وسنصوم عنك جمعة كل سنة أبد الدهر)، فقبل هرقل كلام الرهبان، وعذبهم عذاباً شديداً، ولم يفلت إلا الذي هرب من الشام.
و من حينها اشتد العداء بين النصارى و اليهود، علماً بأن النصارى يكرهون اليهود لإدعائهم بأنهم قتلوا المسيح عليه السلام، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (سورة النساء، الآيـة: 157)، حتى إن النصارى في عهد سيدنا عمر بن الخطاب لما فتح القدس سنة 16 هجرية اشترطوا ألا يعيش في القدس يهودي، وألا يبقى فيها يوماً وليلة إلا للمرور، وأعطاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه العهد بذلك.
اليهود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يتمركزون في شمال المدينة المنورة في خيبر، وكانوا كعادتهم قوماً غلاظ الطباع، قساة القلوب، منحرفي الأخلاق، يعيشون على الربا، وإشعال الفتن والحروب والتكسب من بيع السلاح، وإيقاع السادة في الفضائح الأخلاقية وتهديدهم بها، والسيطرة على الجهال بكتبهم المحرفة وأفكارهم الضالة.
خلاصة :
ونخلص من هذا العرض الوجيز إلى القول بأن العالم يومذاك كان بحاجة إلى رسالة دينية جديدة تعيد للتوحيد صفاءه وللأخلاق قيمتها وتأخذ بيد الإنسان نحو الحق والخير والعدل بعد أن ساد الشرك والظلم والشر آماداً طويلة وانحرف الناس عن تعاليم الأنبياء.
وقد جعل الله تعالى مهمة حمل الرسالة الخاتمة التي بعث بها رسوله محمداً صلى الله عليـه وسلم في أعناق العرب سكان شبه جزيرة العرب، وكانوا ضعفاء مقهورين، فقواهم الله، وفقراء مملقين فأغناهم الله، وقبائل متفرقين فوحدهم الله، وأغماراً منسيين فعرفتهم الدنيا بعد أن حملوا رسالة الإسلام، وقدموها للأمم الأخرى فاستجاب لهم كثيرون من أمم الأرض، وساعدوهم على نشر الدعوة حتى امتد الإسلام إلى بلاد فارس والترك والهند وأطراف الصين شرقاً، وإلى البلاد الخاضعة للروم في الشام وشمال أفريقيا، بل إلى الأندلس وجنوب فرنسا وإيطاليا، وهكذا عم نور الإسلام معظم أرجاء المعمورة، وأزاح القوتين الكبيرتين فقضى على فارس وأضعف الروم في القرن الأول الهجري.