المصنفات التي كتبت في أعلام ودلائل نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة و
تأريخها

كتابة السيرة الشاملة و المستقلة و تطورها
التصنيف المستقل لجوانب السيرة و مفرداتها
المصنفات التي كتبت في أعلام و دلائل نبوة الرسول محمد صلى الله عليه و سلم

الفصل الثاني : كتابة السيرة
الشاملة و المستقلة و تطورها :

المبحث الرابع : التصنيف المستقل
لجوانب السيرة و مفرداتها :

المطلب السادس : المصنفات التي
كتبت في أعلام و دلائل نبوة الرسول محمد صلى الله عليه و سلم :

     كـان لانتشـار الإسـلام فـي الأقـالـيـم المجـاورة للجـزيـرة
العـربيـة أثـر فعـال فـي امتـزاج و تـلاقـح هـذا الـديـن و أهـلـه
مـع أصـحـاب الـديـانـات الـتـي اعتنقتهـا الأقـوام الـمـجـاورة
لـهـم . و قـد ولّـد هـذا الإمتـزاج و التـلاقـح الفكـري أرضيـة
مـلائمـة لنشـوء الإحـتـجـاجـات الفكـريـة بـيـن أصحـاب الـديـن
الجـديـد و أصحـاب المـلل و الأديـان التـي يـديـن بهـا أهـل الأرض
المفتـوحـة و المحـررة الـذيـن لـم يـدخلـوا الإسـلام بـل دفعـوا
الجـزيـة ، فمـا كـان مـن المسلميـن إلا أن أخـذوا علـى عـاتقهـم
مهمـة إقنـاع و إفحـام أصحـاب هـذه المـلل و الأديـان ، و ذلك
بتبيـان فـسـاد و بـطـلان هـذه المعتقـدات أمـام الـديـن
الإسـلامـي . و قـد اتخـذ المسلمـون مسـاريـن فـي هـذا المنحـى :
المسـار الأول : تمثـل باستعمـال الـدلـيـل العقلـي عـلـى بـطـلان
الـدعـاوى التـي يطلقهـا علمـاء هـذه الأديـان فـي إنكـار حقيقـة
نبـوة الـرسـول محمد صلـى الله عليـه و سلّـم . أمـا الـمـسـار
الثـانـي : تمثـل باستعمـال الـدليـل النقلـي و بعـرض مجمـوعـة مـن
البـراهيـن و الأدلـة علـى إثبـات نبـوة الـرسـول محمد صلـى الله
عليـه و سـلّـم . و هـذا الـمـسـار هـو مكمـل للمسـار الأول ، لأن
الإقتنـاع بحقيقـة هـذه البـراهيـن لا يحصـل إلا مـن بعـد أن
يـؤمـن الفـرد بفسـاد الـدعـاوى الـسـابقـة الـمـنـكـرة للنبـوة
بـعـامـة ، و لنبـوة الـرسـول محمد صلـى الله عليـه و سلّـم
بخـاصـة . إذ تبنـى مهمـة ذلك جمـع مـن العلمـاء أطلـق عليهـم إسـم
(المتكلميـن) (عوامل و أهداف نشأة علم الكلام في
الإسلام ليحيى هاشم حسن فرغل)
.

     عـرفت الكتـب الـتـي صنفهـا هـؤلاء العلمـاء باسـم (كتب علـم
الكـلام) ، التـي عنيـت بتـرسيـخ عقيـدة المسلـم و الـرد عـلـى
الشبهـات و الآراء المنحـرفـة و محـاججـة المخـالفيـن لهـم ، و قـد
ظهـرت هـذه الكتـب بعـد تـرجمـة المسلميـن لكتـب الأقـوام
المجـاورة لهـم و لا سيمـا كتـب الهنـود و اليـونـان .

     نـشـأت مـن هـذه الـكـتـب الـتـي تتنـاولـت قضيـة إثبـات
النبـوة ضمـن مبـاحثهـا مصنفـات مستقلـة عنهـا اقتصـرت فـي
حـديـثـهـا عـلـى إثبـات نبـوة محمد صلـى الله عليـه و سلّـم بجمـع
الحجـج و البـراهيـن الـدالـة عليهـا و ذلك باستعمـال الدليليـن
العقلـي و النقلـي فـي إثبـاتهـا .

     اعـتـمـدت هـذه المصنفـات عـلـى مختلـف المصـادر التـي
سبقتهـا سـواء أكـانـت كتـب سيـرة أم كتـب حـديـث ، إذ تشيـر
الـنـصـوص الـتـي وردت فـي هـذه الكتـب إلـى أن أصحـابهـا قـد
جمعـوا هـذه الأدلـة و البـراهيـن النقليـة حصـراً قبـل أن تخصـص
لهـا مصنفـات مستقلـة
(الصحيحـان لمحمد بن إسماعيل البخاري و مسلم بن
الحجاج القشيري – الطيقـات الكبـرى لمحمد ابن سعد – الجامع الصحيح
لمحمد بن عيسى بن سورة الترمذي)
. اتخـذت هـذه الكتـب
أسمـاء عـدة ، فتـارة تطلـق علـى نفسهـا (كتـب أعـلام النبـوة) أو
(كتـب دلائـل النبـوة) ، مـع العلـم أن كـلاً مـن لفظتـي أعـلام و
دلائـل لـهـمـا المعنـى نفسـه الـذي يقصـد بـه (كـل دليـل يثبـت
نـبـوة محمد صلـى الله عليـه و سلـم و يبـرهـن علـى صـدقـه دون
تـقـيـيـده بـشـروط مـعـيـنـة فيشمـل حـتـى السمـات الخـاصـة فـي
جسـده عليـه السـلام كخـاتـم النبـوة ، و يشمـل تبشيـر الكتـب
السمـاويـة ببعثتـه)
(نبـوة محمد في القرآن لحسن ضياء الدين عتر)
، و لكـن الأعـلام و الـدلائـل تـخـالـف فـي مـعـنـاهـا و
مـدلـولـهـا مـا عـنـتـه الـمـعـجـزات اتـي أدخلـت هـي الأخـرى فـي
هـذه الكتـب و التـي وصفـت بأنهـا (أمـور خـارقـة للعـادة مقـرونـة
بالتحـدي فالمعجـزة أخـص مـن الـدليـل و العـلامـة)
(الأربعيـن في أصول الدين لمحمد بن زكريا الرازي)
، إذ نـرى
مـن ذلك أن الأعـلام و الدلائـل لـم تكـن تـهـدف إلى تـحـدي النـاس
بـل كـان الـهـدف مـنـهـا هـو تـرسـيـخ فـكـرة الـنـبـوة فـي شـخـص
النبـي محمد صلـى الله عليـه و سلّـم مـن قبـل أتبـاعـه ، فضـلاً
عـن كـون المـعـجـزات هـي الأخـرى دلـيـلاً عـلـى صـدق نـبـوتـه
لأنـهـا تثبتهـا و تـأكـدهـا ، فمـن هـذا نخـرج إلـى نتيجـة أن كـل
معجـزة هـي دليـل علـى نبـوة سيـدنـا محمد صلـى الله عليـه و سلّـم
و لكـن ليـس كـل دليـل علـى هـذه النبـوة معجـزة .

     بيـن ابـن حـجـر الـعـسـقـلانـي هـذا الـتـرابـط بـيـن
مـعـانـي هـذه الألفـاظ آنفـة الـذكـر ، و ذلك بقـولـه : (فكـل
مـعـجـزة عـلامـة عـلـى نـبـوة صـاحبهـا حتمـاً و لكـن ليـس كـل
عـلامـة أو دليـل علـى النبـوة أمـراً معجـزاً يكـون خـارقـاً
للعـادة مقـرونـاً بالتحـدي فالمعجـزة أخـص مـن الـدلـيـل و
الـعـلامـة) (فتح الباري في شرح صحيح البخاري
لشهاب الدين بن حجر العسقلاني)
، و لكـن ابـن كـثـيـر فـي
مـؤلـفـه (البـدايـة و النهـايـة) بـيـن هـذا الأمـر بأسـلـوب
مـغـايـر عـمـا طـرحـه ابـن حجـر ، إذ وصـف الـدلائـل بـأنهـا
تنقسـم علـى قـسـمـيـن حـسـيـة و هـي المعجـزات ، و أخـرى
مـعـنـويـة و هـي الأمـانـة و الصـدق و الشجـاعـة و الـزهـد و
إيثـار الآخـريـن علـى نفسـه … الخ مـن الصفـات التـي اتسـم بهـا
الـرسـول محمد صلـى الله عليـه و سلّـم .

     تمثلـت هـذه الفكـرة بمـا كتبـه البيهقـي فـي كـتـابـه دلائـل
النبـوة حيـن جعـل سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم
بـرمـتـهـا دلـيـلاً مـن دلائـل نـبـوتـه ، و مـا صـرح بـه ابـن
حـزم حـيـن عـدّ سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم دليـلاً
مـن دلائـل نبـوتـه ، و ذلك بقولـه : (إن سيـرة الـرسـول لمـن
تـدبـرهـا تقتضـي تصـديقـه ضـرورة ، تشهـد لـه بـأنـه رسـول الله
صلـى الله عليـه و سلـم حقـاً ، فلـو لـم تكـن معجـزة غـيـر
سـيـرتـه صـلـى الله عـلـيـه و سـلـم لـكـفـى)
(الفصل في الملل و الأهواء و النحل لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد
بن حزم الأندلسـي)
.

     ابـتـدأ التصنيـف فـي هـذه الأمـور فـي مـدة مـبـكـرة مـن
تـاريـخ الإسـلام الفكـري ، إذ تخبـرنـا فهـارس الـكـتـب عـن
تصنيـف العلمـاء لهـا فـي بـدايـة الـقـرن الثـالـث الهجـري ، إذ
ذكـر ابـن النـديـم أسمـاء عـدّة مصنفـات تنـاولـت أعـلام الـرسـول
و دلائـل نبـوتـه
(الفهرست لمحمد ابن النديم) ، ثـم أخـذت
المصنفـات بالتكـاثـر شيئـاً فشيئـاً مـن بعـد منتصـف هـذا القـرن
حتـى نهـايتـه ، إذ اجـمـل أحـد الـبـاحـثـيـن عـددهـا بـتـسـع
مصنفـات (معجـم مـا ألـف عـن رسـول الله صلـي
الله عليـه و سلـم لصـلاح الـديـن المنجـد)
، و هـذه المصنفـات الـتـي ذكـرهـا هـذا البـاحـث لـم تصـل
إلينـا ، فضـلاً عـن ذلك فقـد كـانـت مصنفـات القـرن الـرابـع و
الخـامـس الهجـري أوفـر حـظـاً مـن المصنفـات الـتـي سبقتهـا ، إذ
وصـلـت إلينـا منهـا مصنفـات عـدة أسـهـم كـل واحـد منهـا فـي
تطـور كتـابـة أعـلام و دلائـل النبـوة ضمـن كتـب السيـرة
النبـويـة ، و هـذه المصنفـات هـي :

1 . دلائل النبوة لأبي بكر جعفر بن
محمد بن الحسن الفريابي (ت 301 هـ) :

     ولـد هـذا المصنـف فـي فـريـاب و هـي قـريـة فـي نـواحـي
بـلـخ فـي بـلاد مـا وراء النهـر سنـة 207 هـ ، و كـان أحـد
الـحـفـاظ المجـديـن الـذيـن حفظـوا الـحـديـث و نـشـروه فـي
بـلادهـم ، و صنفـوا العـديـد مـن الكتـب التـي انصـب معظمهـا علـى
الحـديـث و علـومـه
(تاريـخ بغـداد لأحمد بن علي الخطيب البغـدادي –
معجم البلدان لياقوت بن عبد الله الحموي – السير في خبر من غبر
لشمس الدين بن عثمان الذهبي)
.

     يـعـدّ كـتـاب الـفـريـابـي هـذا مـن الكتـب المهمـة فـي
دلائـل نبـوة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم و ذلك لأمـور عـدة
هـي :

     1 . التعـويـل و الإعتمـاد علـى مـرويـاتـه فـي دلائـل نبـوة
الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم مـن قبـل الـذيـن تـأخـروا عـنـه
و تـعـرضـوا لـهـذه الـجـوانـب فـي مصنفـاتـهـم ، إذ اعتمـد عليـه
أبـو نعيـم الإصفهـانـي فـي مـواضـع عـدة مـن كـتـابـه دلائـل
النبـوة التـي بـلـغـت أربـعـة مـواضـع ، و نقـل البيهقـي روايـات
عنـه أيضـاً ، فضـلاً عـن نقـل ابـن كثيـر ثـلاث روايـات عنـه ، و
قـد بينـت هـذه النقـول بمجملهـا مكـانـة هـذا الكتـاب و أثـره فـي
المصنفـات التـي تلتـه .

     2 . الإهتمـام بـروايتـه و الحصـول علـى الإجـازة بهـا مـن
قبـل العلمـاء و ذلك حتـى عصـور متـأخـرة .

     3 . إكتسـابـه صفـة القـدم بالنسبـة إلـى المصنفـات التـي
وصلـت إلينـا عـن دلائـل و أعـلام النبـوة .

     هـذه الأمـور الـتـي تـضـمـنـهـا هـذا الـكـتـاب و الـتـي
أكسبتـه أهميـة كبيـرة ضمـن كتـب دلائـل النبـوة ، فضـلاً عـن
اتصـافـه بمميـزات عـدّة تمثلـت بمحـاور عـدة :

     1 . الـتـخـصـص باسـتـعـراض جـانـبـيـن مـن الـجـوانـب الـتـي
شـمـلـتـهـا المعـاجـز الحسيـة ، و هـذان الـجـانبـان همـا :

     أ . ذكـر البـركـة الـتـي حصلـت فـي الطعـام القليـل الـذي
أكـل منـه الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم ليشبـع البـاقـي منـه
عـدداً غفيـراً مـن المسلميـن ، و ذلك بـإيـراد الـروايـات التـي
تطـرقـت إلـى هـذا الأمـر .

     ب . ذكـر تـكـرار حـادثـة نـبـع الـمـاء مـن بـيـن أصـابعـه
عنـد وضعـه لهـن فـي مـاء قليـل لا يكفـي مـن حـولـه مـن النـاس ،
و ذلك بجمـع طـرق الـروايـات التـي اتفقـت علـى حـدوث هـذه
المعجـزة و فـي مـواطن عـدة .

     مـع العلـم أن الـفـريـابـي لـم يقتصـر علـى ذكـر الـروايـات
التـي اختصـت بعـرض المعـاجـز التـي حصلـت ضمـن هـذيـن
الـمـحـوريـن ، إذ أقـحـم فـي أحـد مـواضـع كـتـابـه هـذا روايـات
تتضمـن دعـوة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم فـي الأشجـار
لتكـون فيهـا البـركـة و الخيـر و النمـاء .

     تـدل هـذه الـمـيـزة الـتـي اتـصـف بـهـا منحـى الـفـريـابـي
علـى رغبـة جـامحـة تتمثـل بـإيجـاد مجمـوع بسيـط يضـم جـوانـب
مـحـدودة مـن المعجـزات الحسيـة للـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم
مـن دون الإكثـار منهـا و الإستفـاضـة بإيـراد جميـع مـا آثـر عـن
النبـي صلـى الله عليـه و سلّـم مـن معـاجـز حسيـة .

     2 . تـعـدد طـرق الـروايـات فـي الـخـبـر الـواحـد ، إذ نـراه
يـورد أكثـر مـن طـريـق لحـادثـة واحـدة تضمنـت ذكـراً لمعجـزة مـن
معجـزات الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم و إن اختلفـت هـذه
الطـرق فـي ألفـاظهـا و لكنهـا أعطـت المعنـى نفسـه .

     3 . عـدم إبـداء الآراء مـن قـبـل الـفـريـابـي فـي
الـروايـات الـتـي يـوردهـا فـي كتـابـه هـذا ، إذ حشـد فيـه مـا
وصـل إلـيـه مـنـهـا فـي هـذا الجـانـب مـن دون تبيـان مقـدار صحـة
أو ضعـف أو غـريـب هـذه الـروايـات ، التـي قسمهـا المحـدثـون إلـى
أنـواع عـدة
(معرفة علـوم الحديث لمحمد بن عبد الله الحاكم
النيسابوري)
، و لأجـل ذلك ظـهـرت روايـات عـدة اتـسـمـت
بالـغـرابـة و أتـسـم رواتهـا بالضعـف .

     أعـطـى البيهقـي تعليـلاً لـبـروز هـذه الـحـالـة فـي مثـل
هـذه المصنفتات إذ يقـول : (و ممـا يجـب معـرفتـه فـي هـذا الـبـاب
أن تعلـم أن الأخبـار الخـاصـة المـرويـة علـى ثـلاثـة أنـواع نـوع
أتفـق أهـل العلـم بالحـديـث علـى صحتـه و هـذا علـى حـزبيـن
أحـدهمـا أن يتكـون مـرويـاً مـن أوجـه كثيـرة و طـرق شتـى حتـى
دخـل فـي حـد الإنتشـار و بعـد مـن تـوهـم الخطـأ فـيـه ، أو
تـواطـؤ الـروايـة علـى الكـذب فيـه فهـذا الـضـرب مـن الـحـديـث
يحصـل بـه الـعـلـم المكتسـب و مـن ذلك مـا روي فـي المعجـزات و
الفضـائـل و الأحـكـام ، فقـد روي بعـض أحـاديثهـا مـن أوجـه
كـثـيـرة ، و الـضـرب الـثـانـي أن يكـون مـرويـاً مـن جهـة
الآحـاد ، و يـكـون مستعمـلاً فـي الـدعـوات و التـرغيـب و
التـرهيـب … و أمـا فـي المعجـزات … فـقـد روت فيهـا أخـبـار
الآحـاد فـي ذكـر أسـبـابهـا إلا أنـهـا مجتمعـة فـي إثبـات معنـى
واحـد و هـو ظهـور المعجـز علـى شخـص واحـد … ، بـل إذا جمـع
بينهـا و بـيـن الأخـبـار المستفيضـة فـي المعجـزات و الآيـات
الـتـي ظـهـرت علـى سيدنـا المصطفـى صلـى الله عليـه و سلـم دخلـت
فـي حـد الـتـواتـر الـذي يـوجـب الـعـلـم الـضـروري و تثبـت بذلك
خـروج رجـل مـن العـرب يقـال لـه محمد بـن عبـد الله بـن عبـد
المطلـب إدعـى أنـه رسـول رب الـعـالـمـيـن و ظـهـرت عليـه الآيـات
و أورد علـى النـاس مـن المعجـزات التـي بـايـن بهـا مـن سـواه
بمـا آمـن عليـه مـن أنعـم الله عليـه بالهـدايـة مـع مـا بـقـي
مـن أمـتـه مـن الـقـرآن الـمـعـجـز) (دلائـل
النبـوة و معـرفة أحـوال صـاحب الشـريعة لأحمـد بـن الحسيـن
البيهقـي)
.

     و مـن ثـم فـقـد أصـبـح مـن المتيقـن أن كـتّـاب الـدلائـل
قـد أرادوا إثـبـات هـذه الـروايـات لأنهـا قـد اتفقـت علـى معنـى
واحـد و هـو ظهـور المعجـزات مـن شخـص الـرسـول صلـى الله عليـه و
سلّـم مـع اختـلاف فـي فحـوى هـذه المعجـزات و كيفيـاتهـا .

     أمـتـاز أسلـوب الـفـريـابـي بالـدوران فـي فلك الـروايـة و
عـدم إبـداء وجهـات النظـر فـي الأخبـار التـي ذكـرها أو التعليـق
عليهـا مقتفيـاً بذلك أثـر المحـدثيـن عـنـد تصنيفهـم الكتـب و ذلك
بالتـركيـز فـي جمـع الـروايـات علـى وفـق الأبـواب التـي تنتمـي
إليهـا مـن دون إضفـاء أي رأي عليهـا .

     هـذه هـي الأمـور الـتـي أضـفـاهـا الـفـريـابـي فـي كـتـابـه
هـذا عـلـى كـتـابـة دلائـل النبـوة أولاً و كتـب السيـرة ثـانيـاً
فـي الإسهـام بتطـور كتـابتهـا .

2 . تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد
الجبار المعتزلي (ت 416 هـ) :

     هـو قـاضـي الـقـضـاة أبـو الـحـسـن عـبـد الجبـار بـن أحـمـد
بـن الخليـل بـن عبـد الله الهمـدانـي ، و هـو مـن كبـار عـلـمـاء
الـمـعـتـزلـة و متكلميهـم الـذي انـتـهـت إلـيـه رئـاستهـم حـتـى
صـار شيخهـا غـيـر مـدافـع ، و فـاقـت شهـرتـه فـي الأقـاليـم
الإسـلاميـة حـد الـوصـف ، فـضـلاً عـن قـيـامـه بتصنيـف كـتـب
عـديـدة فـي الإنتـصـار لجمـاعـتـه و تـبـيـان أفكـارهـا و
عـقـائـدهـا (طـبـقات المعتـزلـة لأحمـد بتن
يحيـى المـرتضـى)
.

     كـانـت فـكـرة الـنـبـوة و إثـبـاتـهـا مـن الـمـسـائـل
المهمـة الـتـي تـنـاولهـا القـاضـي عبـد الجبـار بالبحـث و
الـدراسـة ، بـل خـصـص لـهـا حـيـزاً كـبـيـراً فـي مصنفـه الكبيـر
(المغنـي فـي أبـواب العـدل والتـوحيـد) ، فـضـلاً عـن تخصيصـه
مصنفـاً مستقـلاً لـهـا أسمـاه (تثبـت دلائـل النبـوة) ، و هـذا
الكتـاب هـو مـدار بحثنـا .

     تـنـاول الـقـاضـي عـبـد الجبـار هـذه الفكـرة بـفـرز و
استقـلال عـن بـاقـي المسـائـل الإعتقـاديـة الأخـرى ، إذ عـرض
القـرائـن و الـدلائـل التـي تـؤكـد نبـوة محمد صلـى الله عليـه و
سلّـم .

     حـدد الـقـاضـي عـبـد الـجـبـار تـاريـخ تصنيفـه هـذا الكتـاب
بسنـة (385 هـ) ، و هـذا الـتـاريـخ يجعلنـا فـي محـل تـريـث قـبـل
الـتـسـرع فـي تبيـان المحـاور الـتـي تـنـاولهـا هـذا الكتـاب و
إسهـامـه فـي تطـور كتـب الـدلائـل ضمـن كتـب السيـرة النبـويـة ،
إذ كـتـب هـذا الـمـصـنـف فـي عـصـر احـتـدمـت فـيـه الـطـروحـات
الـفـكـريـة الـتـي تبنتهـا الـفـرق و الـنـحـل الإسـلامـيـة و
غـيـر الإسـلاميـة كـافـة
(الحضارة الإٍسلامية في القرن الرابع الهجري أو
عصر النهضة في الإسلام لآدم متز)
، و مـن المستبعـد أن
يـكـتـب الـقـاضـي عـبـد الجبـار مصنفـه هـذا فـي مـثـل هـذا
العصـر مـن دون أن يـحـاكـي مجـريـاتـه و محـدثـات أمـوره سـواء
أكـانـت بطـريقـة مبـاشـرة أم غيـر مبـاشـرة ، و ذلك لأن لـكـل
عـصـر أثـراً ملمـوسـاً فـي كـل مصنـف يـكـتـب فيـه
(مناهج العلماء في البحث العلمي لفرانتز روز نثال)
، إذ
تـشـيـر الـمـصـادر الـتـي تـرجـمـت لـهـذه الشخصيـة إلـى أنـه قـد
نـال مـكـانـة بـارزة ضمـن علمـاء عصـره ، فضـلاً عـن كـونـه
متكلـم المعتـزلـة و رئيسهـم (طبقات المعتزلة
لأحمد بن يحيى المرتضى)
، إذا مـا علمنـا أن هـذه الطـائفـة
قـد أسهمـت إسهـامـاً بـارزاً فـي شحـذ هـمـم الـمـسـلـمـيـن علـى
المحـاججـة و المنـاظـرة معهـم ثـم مـع المـلل الأخـرى و تـأسيـس
حلقـات الـدرس لهـذه الأمـور مجتمعـة
(المعتزلة لزهدي جار الله)
.

     نـال هـذا المصنـف مـكـانـة بـارزة فـي نـفـوس العلمـاء
الـذيـن أطلعـوا عليـه ، إذ وصـفـوه بنعـوت عـدة فمنهـا مـا وصنفـه
الـذهـبـي بالـقـول : (إنـه -القـاضـي عـبـد الجبـار- قـد أجـاد
بـه و بـرز) (لسان الميزان لشهاب الدين بن حجر
العسقلاني)
، و يضيـف ابـن كثيـر عـلـى هـذا الـكـلام آنـف الـذكـر
قـائـلاً : (كتـاب تثبيـت دلائـل النبـوة مـن أجـل مصنفـاه و
أعظمهـا و قـد أبـان فيـه مـن علـم و بصيـرة جيـدة)
(لسان الميزان لشهاب الدين بن حجر العسقلاني)
، و ينتهـي
أحـد المحـدثيـن إلـى وصـفـه بالقـول : (و لـم نـر مـا يـقـارب
كـتـاب تـثـبـيـت دلائـل الـنـبـوة للـقـاضـي عـبـد الـجـبـار فـي
قـوة الحجـاج و حسـن الصيـاغـة فـي دفـع شكـوك المشككيـن)
(محمد زاهـد الكـوثـري ، مقـدمـة التحقيـق
لكتـاب تبييـن كـذب المفتـري فيمـا نسب إلى الإمـام أبي الحسن
الأشعـري لإبن عساكر الدمشقي)
.

     إن هـذه الآراء الـتـي قيلـت فـي هـذا الكتـاب لـم تطلـق
جـزافـاً مـا لـم يلمـس قـائلـوهـا فـي قـرارة أنفسهـم نفسـاً
تـجـديـديـاً أو أفـكـاراً أصيلـة ضـمـن مبـاحـث الكتـاب و
منـاقشـة مـا ورد فيـه مـن نصـوص ، و هـذا مـا كـان فعـلاً ، إذ
وجـدنـا فيـه مميـزات تبيـن أصـالـة القـاضـي عبـد الجبـار فـي
تصنيفـه هـذا الكتـاب ، و هـذه الميـزات هـي :

     1 . الأسلـوب الـحـواري فـي كـتـابـة الـنـصـوص و ذلك
بالإجـابـة عـن الـتـسـاؤلات الـتـي تـرد فـي ذهـن المتلقـي حـول
الـقـضـايـا مـدار الـبـحـث و الـبـراهنـة عـلـى صـدق هـذه
الإجـابـات بمـا يعـرضـه فيـه مـن أدلـة ، إذ استعمـل عبـارات عـدة
تبيـن هـذا الأسلـوب و هـي : (أعـلـم رحـمـك الله) ، أو (فـإن
قـلـنـا كـذا قـيـل كـذا) ، و مـن ثـم فـإن هـذا الأسـلـوب
الـحـواري يظـل حكـراً علـى مصنفـات المتكلميـن بسبـب هـيـمـنـة
الـمـحـاجـجـة و المنـاظـرة عـلـى أسـاليبهـم فـي الطـرح و
الكتـابـة (تاريخ الفلسفة في الإسلام للمستشرق
ت. ج. دي بور)
، و هـذا الأسـلـوب قـد اعـتـمـده الـقـاضـي عـيـاض فـي
كـتـابـه (الـشـفـا بـتـعـريـف حـقـوق المصطفـى) ، و إن لـم يـشـر
ضـمـنـاً إلـى مـن سـبـقـه فـي هـذه الطـريقـة .

     2 . اسـتـنـطـاق الآيـات الـقـرآنيـة بمـا تحـويـه مـن دلائـل
علـى صـدق نبـوة سيـدنـا محمد صلـى الله عليـه و سلّـم بأسلـوب
غيـر مـطـروق علـى مـسـامـع مـن سبقـه مـن المسلميـن ، أو مـن صنـف
فـي هـذا الجـانـب مـن حيتاة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم ، و
ذلك لأن القـاضـي عـبـد الـجـبـار لـم يـكـن فـي كـتـابـه هـذا
جـامـعـاً لـدلائـل النبـوة مـن أفـواه الـرواة الـذيـن نقلـوهـا
إلـى الـنـاس ، و لا سيـمـا فـي الآيـات الـقـرآنيـة التـي تضمنـت
ذكـراً لـمـعـجـزة حسيـة مثـل الإسـراء و المعـراج ، أو انشقـاق
القمـر ، بـل كـان القـاضـي عبـد الجبـار فـي كتـابـه هـذا مفتشـاً
عـن دليـل حـسـي لـم تلتفـت إليـه أعيـن الـرواة و المحـدثيـن ، و
هـذا مـا جعـل الشـواهـد علـى هـذا الأمـر كثيـرة فـي هـذا الكتـاب
، فمـن هـذه الآيـات الـتـي استنطـق الـقـاضـي عبـد الجبـار مـا
تضمنـت مـن دلائـل ، و إن كـان القـرآن بمجملـه دليـلاً علـى نبـوة
محمد صلـى الله عليـه و سلّـم ، و ذلك بـوجـود الإعـجـاز فـيـه ، و
لـكـن وجـدت فـيـه أدلـة ضمنيـة أخـرى دلـت عـلـى نبـوة محمد صلـى
الله عليـه و سلّـم إذ يقـول القـاضـي عبـد الجبـار فـي تعليقـه
عـلـى سـورة الـكـوثـر : (و ذلك أن قـريـشـاً لمـا أعييتهـم
الـحـيـل فـي أمـر رسـول الله كـانـوا يستـروحـون إلـى أدنـى غـم
يـنـالهـم صلـى الله عـلـيـه و سـلّـم ، فـمـات إبـنـه إبـراهيـم و
هـو أكبـر ولـده و بـه كـان يكنـى و مـات ابنـه عبـد الله فسـرت
قـريـش بذلك ، و قـال بعضهـم لبعـض فقـد أبـتـر محمد ، فأنـزل الله
عـز و جـل هـذه الآيـات فانـبـتـرت ديـانـات قـريـش و العـرب
كلـهـا و بـطـلـت عـن آخـرهـا ، و لـم يبـق علـى ذلك الـديـن عيـن
تـطـرف ، و تـم أمـره صـلـى الله عليـه و سـلّـم و سـطـع نـوره و
علـى و قهـر ، و فـي هـذا غيـوب كثيـرة أخبـر بهـا قبـل أن تكـون)
، و فـي مكـان آخـر مـن هـذا الـكـتـاب يتحـدث عـن أعـلام النبـوة
التـي حصلـت فـي أثنـاء مكثـه صلـى الله عليـه و سلّـم فـي مكـة ،
إذ يقـول : (و منهـا إنقضـاض الكـواكـب و إمـتـلاء السـمـاء منهـا
مـن كـل جـانـب علـى وجـه انتقضـت بـه العـادة و خـرج عـن المتعـاد
، و هـذه آيـة عظيمـة و بينـة جليلـة و واضحـة جسميـة و قـد نـطـق
بـهـا الـقـرآن فقـال حـاكيـاً عـن الجـن : {وَ
أَنَّـا لَمَسْنَـا السَّمـاءَ فَـوَجَـدْنـاهـا مُلِئَـتْ
حَـرَسـاً شَـدِيـداً وَ شُهُبـاً ، وَ أَنَّـا كُنَّـا نَقْعُـدُ
مِنْهـا مَقـاعِـدَ لِلسَّمْـعِ فَمَـنْ يَسْتَمِـعِ الْآنَ
يَجِـدْ لَـهُ شِهـابـاً رَصَـداً
}
(سـورة الجـن ، الآيتان : 8 – 9)
، فـإن قـيـل و مـن أيـن
لـكـم هـذا أو قـد سبقكـم زمـانـه و نحـن لا نـؤمـن بكتـابكـم و لا
نقـر بنبيكـم و خبـرونا عـن طـريـق معـرفتكـم بذلك هـل هـو ضـرورة
أم إكتسـاب ؟ فقيـل لـه العلـم بـذلك طـريـقـة الإستـدلال و
الإكتسـاب و يتهيـأ لكـل عـاقـل مـن كـافـر و مـؤمـن أن يعـرف ذلك
و يجـب عليـه أن يـعـرف و سبيلـه سـهـلـة قـريـبـة فـمـن نظـر و
اسـتـدل عـرف ، و مـن لـم يستـدل لـم يعـرف ، و الـدليـل علـى أن
ذلك قـد كـان ، إن رسـول الله صلـى الله عـلـيـه و سـلّـم قـد
تـلـى هـذه السـورة و احتـج بـذلك علـى العـدة و الـولـي ، فعلمنـا
أنـه أمـر قـد كـان و وقـع ، فـإن الحجـة بـه قـد قـامـت و ظهـرت و
قـهـرت ، لأنـه لا يجـوز أن يقصـد عـاقـل إلـى قـوم يـدعـوهـم إلـى
صـدقـه و نبـوتـه و يحـرص فـي إجـابتهـم إلـى طاعتـه و الإنقيـاد و
يـريـد مـنـهـم ذلك ثـم يقـول : مـن عـلامـة نبـوتـي و دلائـل
رسـالتـي أن النجـوم لـم تكـن تنقـظ و أنهـا الآن انتقضـت ، و هـو
يعلـم أنهـم يعلمـون أن هـذا أمـر لا أصـل لـه و أنـه قـد كـذب فـي
مـا أدعـى ، و هـذا الأمـر لا يـقـع مـن عـاقـل كـائـنـاً مـن كـان
فكيـف بـمـن يـدعـي النبـوة ، و عقلـه العقـل الـراجـح المـوصـوف
ثـم يقصـد إلـى أمـر ظـاهـر مكشـوف فـي السمـاء البـارزة للخلـق
أجمعيـن … و فـي تـركهـم ذلك دليـل علـى صحـة هـذه المعجـزة) ،
عـلـى هـذه الـشـاكلـة اسـتـنـطـق الـقـاضـي عبـد الجبـار الآيـات
القـرآنيـة فـي إظهـار مـا تحـويـه مـن دلائـل علـى صـدق نبـوة
محمد صلـى الله عليـه و سلّـم .

     3 . الإستيعـاب و الهضـم الكـامـل لآراء المـلل و المـذاهـب
الإسـلاميـة ، إذ بينـت النصـوص التـي حـواهـا هـذا الكتـاب
مـصـداقـيـة هـذا الإستنتـاج ، إذ حـشـد لـهـذا الأمـر كـل
إمـكـانيـاتـه العقليـة و النقليـة لتبيـان فسـاد و ضعـف و وهـن
آراء المخـالفيـن لـه فـي الـديـن و الـمـعـتـقـد ، فتـراه فـي
كتـابـه هـذا يحـاجـج معظـم الفـرق و المـلل التـي كـانـت فـي
عصـره ، ممـا أفـاد ذلك فـي تبيـان وجهـات نظـر تلك الفـرق و
المـلل فـي مـوضـوع النبـوة و دلائلهـا .

     4 . نقـد و تحليـل المصنفـات التـي سبقتـه أو عـاصـرتـه و
التـي تنـاولـت دلائـل نبـوة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم
سـواء أكـانـت مـصـنـفـات مسـتـقـلـة فـي ذلك أم مـذكـورة فـي
مصنـف أوسـع و أشمـل ، فمـن المصنفـات التـي نقـدهـا ، الكتـب
التـي تنـاولـت معجـزة الإسـراء و الـمـعـراج بالـدحـض و
التـكـذيـب ، إذ يقـول فـي ذلك : (و هـذه الكتـب قـد نقضهـا غيـر
واحـد مـن المعتـزلـة و المطـاعـن علـى الأنبيـاء كـلـهـم إنـمـا
هـي مـن جـهـة هـؤلاء الـشـيـع … فإعـرف هـذا فـإنـه مـن
العجـائـب ، و بـك إلـى معـرفتـه أشـد الحـاجـة ، فمـن هـذه الكتـب
كتـاب (الـجـارف) ، و (الأركـان) للحـداد ، و كتـاب الحصـري فـي
(تسـويـة أصحـاب الكـلام بالعـوام) و كتـاب (الـزمـردة) و كتـاب
(غـريب المشـرقـي) و كتـاب (حنيـن الـبـهـائـم) ، و كـتـاب (التـاج
فـي القـدم) لابـن الـراونـدي) ، و لـم يقتصـر نقـده فـي كتـابـه
هـذا علـى المصنفـات التـي كتبـت فـي هـذا الأمـر بـل شمـل نقـده .
منـاهـج دقيقـة فـي تحليـل الكتـب و نقـدهـا ، و مـن ثـم عكـس هـذا
التحليـل علـى المصـادر التي تكتـب فـي مـوضـوع السيـرة النبـويـة
و متعلقـاتهـا .

     و مـع كـل مـا ذكـرنـا مـن جـوانـب إيـجـابيـة تـسـجـل لـهـذا
الكتـاب و تعطيـه مكـانـاً بـارزاً فـي المصنفـات التـي أسـهـمـت
فـي تطـور كتـابـة دلائـل النبـوة مـن جهـة و سيـرة الـرسـول صلـى
الله عليـه و سلّـم مـن جهـة أخـرى ، ظهـرت فـي هـذا الكتـاب
جـوانـب سلبيـة أضعفـت مـن شـأنـه وحـدت مـن تـأثيـره ، و هـذه
الجـوانـب هـي :

     1 . الإسـتـطـراد فـي العـديـد مـن أبـواب الكتـاب و الخـروج
علـى مضمـونـه ، و المقصـد الـذي مـن أجلـه صنـف ، حتـى ليشعـر
الـقـارىء لـه بـأن عنـوان الكتـاب يختلـف عمـا حـواه مـن أمـور لا
عـلاقـة لهـا بـدلائـل النبـوة و تثبيتهـا ، و لا سيمـا ذكـره و
عـرضـه لآراء الفـرق الإسـلاميـة بالخـلافـة و مـن يصـح لهـا مـن
الصحـابـة و المسلميـن ، فضـلاً عـن سـرده للأحـداث التـي تمخضـت
عـن استخـلاف كـل واحـد مـن الخلفـاء الـراشـديـن رضـي الله عنهـم
.

     2 . الـتـحـامـل و كيـل التهـم و الشتـائـم و إطـلاق بعـض
الألفـاظ النـابيـة و البـذيئـة علـى بعـض الفـرق الإسـلاميـة
الـمـخـالـفـة لـه فـي العقيـدة ، مـمـا أبعـد الكتـاب و الكـاتـب
عـن المـوضـوعيـة و الحـوار العلمـي الـذي يجـب أن يتصـف بـه شخـص
مثـل القـاضـي عـبـد الـجـبـار ، حـتـى أن الـذي ينظـر إلـى هـذا
الكتـاب لا يتصـور أنـه كتـاب يعنـى بإثبـات دلائـل النبـوة فـي
معظـم صـوره بـل يـراه مـن جـانـب آخـر كتـابـاً مـن كتـب
المحـاججـة و المنـاظـرة فـي مسـائـل إعتقـاديـة لا دخـل لـدلائـل
النبـوة فيهـا مثـل الإمـامـة

     و الـعـصـمـة للإمـام و نـشـوء الـفـرق الإسـلامـيـة و نـقـل
أفـكـارهـا مـشـفـوعـة بـعـبـارات الإزدراء و الـتـحـقـيـر لـهـا .

     و لأجـل هـذيـن الـعـامـلـيـن لـم يـنـل هـذا الـكـتـاب
الإنتشـار بيـن الكتـب و لـم يعتـمـد عليـه أحـد مـن العلمـاء
الـذيـن عـرضـوا دلائـل النبـوة سـواء مـن المعـاصـريـن لـه أم مـن
المتـأخـريـن .

     هـذه هـي العنـاصـر التـي أوجـدها القـاضـي عبـد الجبـار
لكتـابـة دلائـل النبـوة و طـريقـة عـرضهـا للنـاس مـن حيـث
اسـتـعـمـال آليـات و أسـالـيـب جـديـدة فـي كتـابتهـا ، و مـا ذلك
إلا لـدور العصـر الـذي عـاش فيـه القـاضـي عبـد الجبـار و الـذي
كـان لـه الأثـر الفعـال فـي خـروج كتـابـه علـى هـذا الشكـل و
الصـورة .

3. أعلام النبوة لأبي الحسن
الماوردي (ت 450 هـ) :

     هـو علـي بـن محمد بـن حبيـب قـاضـي القضـاة و أحـد أقطـاب
علمـاء المعتـزلـة و متكلميهـم ، ولـد فـي البصـرة سنـة 364 هـ ، و
انـتـقـل إلـى بغـداد و مكـث بهـا إلـى أن وافتـه المنيـة ، بـرع
فـي مختلـف العلـوم العقليـة والنقليـة (طبقات
الشافعية الكبرى لتاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي –
شذرات الذهب في أخبار من ذهب لعبد الحي ابن العماد العكري الحنبلي)

.

     صـنـف الـمـاوردي كـتـابـه هـذا عـلـى طـريـقـة مـن سـبـقـه
فـي اسـتـعـمـال لـفـظـة أعـلام بـدلاً مـن لفظـة الـدلائـل
(الطيقات الكبرى لمحمد ابن سعد) .

     سـار الـمـاوردي عـلـى هـدى شـيـخـه القـاضـي عبـد الجبـار
فـي استعمـال الـدليليـن العقلـي و النقلـي لإثبـات نبـوة الـرسـول
صـلـى الله عـلـيـه و سلّـم ، فضـلاً عـن منـاقشـة هـذه الأدلـة ،
إذ بيـن منحـاه هـذا بالمقـدمـة التـي إفتتـح بهـا كتـابـه
قـائـلاً : (الحمـد الله الـذي أحـكـم مـا خلـق و قـدر و عـدل
فيهـا و دبـر و أنـذر بـمـا أنـشـأ و أظهـر و استـأثـر بمـا أخفـى
و أسـر و أنعـم بمـا أمـر و خطـر ، و أرشـد إلـى إنـذاره بتفضيـل
مـا تـمـيـز عـلـى مـا كـلـف مـن أوان التعبـد فيـصـل بالعقـل إلـى
علمـه و استعـلامـه إلـى فهمـه و استفهـامـه فيصيـر مهيئـاً
لـقـبـول مـا كـلـف مـن التعـارف و معـانـاً علـى مـا تعبـد بـه
مـن الشـرائـع .. و هـذا لا يستقـر فـي النفـوس إلا بـرسـل مبلغيـن
عـن الله ثـوابـه فـي مـا أمـر و عقـابـه فـي مـا حضـر فـوجـب أن
يـوضـح فـي إثبـات النبـوات مـا ينتفـي عنـه ارتيـاب مغـرور و
شبهـة معـانـد) .

     بينـت هـذه المقـدمـة أن جـل اعتمـاد الـمـاوردي كـان علـى
الإستـدلال العقلـي فـي إثبـات النبـوات و بضمنهـا نبـوة محمد
صـلـى الله عليـه و سـلّـم ، و هـذا الأمـر راجـع إلى كـون
المعتـزلـة قـد أولـوا العقـل مـكـانـة مهمـة فـي محـاكمتهـم
للأفعـال و الحـوادث و العقـائـد التـي يجـب علـى المسلميـن
التعبـد بهـا ، و هـذا مـا أشـار إلـيـه أحـد الـبـاحـثـيـن
الـذيـن درسـوا هـذه الصلـة بالقـول : (كـانـت الـطـبـيـعـة
الـنـقـديـة التـي اتسـم بهـا فكـر المعتـزلـة منـذ تـأسيسـاتـه
الأولـى هـو السبـب المبـاشـر فـي انتهـاج هـذه الحـركـة الطـريـق
العقلـي ، فـإنـه بالـضـرورة السبـب الـذي دعـاه إلـى استنبـاط
الحجـج العقـلانيـة و المنطقيـة مـن خـلال قـراءتـهـم الفـاحصـة
لأوراق الفلسفـة اليـونـانيـة و بالقـدر نـفـسـه فإنـه لـم يـكـن
بـوسـع هـؤلاء أن يـقـفـوا عـلـى الحيـاد فـي معـركـة أثـارتهـا
القـوى المعـاديـة للإسـلام … إذ عمـدوا فـي هجـومهـم علـى
الإسـلام إلـى استـخـدام المنطـق و الفلسفـة سـلاحـاً فـي تثبيـت
ادعـائهـا ، فاستعـانـوا بمثـل مـا استعـان بـه الخصـوم فـي
اعتمـاد الأسلـوب الجـدلـي و الأداة المنطقيـة و صـيـاغـة لـغـة
تحليلـة لإبـراز مـا يكـمـن فـي الـديـن مـن القـوى و الفضـائـل)
(ثورة العقل لعبد الستار عز الدين محمود الراوي)
.

     و نتيجـة لانتهـاج المـاوردي طـريـقـة سـلـفـه الـقـاضـي عبـد
الجبـار فـي استعمـال العقـل بالإستـدلال عـلـى صحـة مـا أثـبـتـه
مـن دلائـل و ذلك بمنـاقشتـه للـروايـات التـي وصلـت إليـه عـن
دلائـل و أعـلام الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم ، ظهـر هنـالك
اتفـاق بالمنحـى عنـد هـذيـن المصنفيـن فـي كتـابتهمـا عـن دلائـل
و أعـلام نبـوة الـرسـول محمد صلـى الله عليـه و سلّـم ، و لكـن
باختـلاف فـي طـريقـة العـرض ، إذ لـم يقـع الـمـاوردي فـي
المـزالـق التـي أوقـع القـاضـي عبـد الجبـار نفسـه بهـا عنـدمـا
استطـرد فـي مصنفـه إلـى قضـايـا لا تمـت بصلـة إلـى دلائـل
النبـوة و الأمـور المتعلقـة بهـا .

     أوضـح الـمـاوردي مـنـحـاه فـي كتـابـة أعـلام النبـوة الـذي
طبقـه بصـرامـة شـديـدة بقـولـه : (و قـد جعلـت كتـابـي هـذا
مقصـوراً عـلـى مـا أفضـى و دل عليـه ليكـون علـى الحـق مـوضحـاً و
للسـرائـر مصلحـاً علـى صحـة النبـوة دليـلاً و شبـه المستـريـب
مـزيـلاً و جعلـت مـا تـضـمـنـه مـشـتـمـلاً علـى أمـريـن أحـدهمـا
مـا اختـص باثبـات النبـوة مـن أعـلامهـا و الثـانـي فيمـا يختلـف
مـن أقسـامهـا و أحكـامهـا ليكـون الجمـع بينهمـا أنفـى للشبهـة و
أبلـغ فـي الإبـانـة) .

     دلـت مـقـالـة الـمـاوردي آنـفـة الـذكـر إن جـهـوده قـد
انصبـت عـلـى إيـراد الأعـلام الـدالـة علـى نبـوة سيـدنـا محمد
صـلـى الله عليـه و سـلّـم ، مـن دون تحميلهـا فـوق طـاقتهـا مـن
إيـراد أخبـار تشتـت فكـر القـارىء و تبعـده عـن المـوضـوعيـة و
التـدرج فـي عـرض تلك الأعـلام ، و لأجـل هـذا المنحـى الـذي
انتهجـه الـمـاوردي كـان كـتـابـه هـذا إسهـامـاً جـاداً فـي تطـور
كتـابـة الأعـلام و الـدلائـل علـى نبـوة محمد صلـى الله عليـه و
سـلّـم فـي مصنفـات مستقلـة مـن جهـة و أثر هـذه المصنفـات فـي
تطـور كتـابـة السيـرة مـن جهـة أخـرى ، و ذلك بمـا طـرحـه مـن
محـاور لـم تـألفهـا المصـادر التـي سبقتـه فـي هـذا الجـانـب ، و
هـذه المحـاور هـي :

     1 . كـتـابـة مـدخـل تـوضيحـي للكتـاب و مـضـامينـه ، و هـذا
الأمـر قـد اختصـت بـه المصنفـات التـي تنـاولـت الأعـلام الـدالـة
علـى نـبـوة محمد صـلـى الله عـلـيـه و سـلّـم ، و التـي كتبـت فـي
عصـر المـاوردي ، إذ قـدم أبـو نعيـم الأصفهـانـي مـدخـلاً
تـوضيحيـاً افتتـح بـه كـتـابـه (دلائـل النبـوة) وضـح فيـه عمليـة
الإصطفـاء الإلـهـي للأنفـس التـي يـخـتـارهـا الله للـرسـالـة و
الـنـبـوة مـع الـتـعـريـف لمعنـى النبـوة و الـرسـالـة و الـوحـي
و الـعـنـاصـر المتممـة لهـا ، كذلك فـعـل البيهقـي الـشـيء
نـفـسـه عنـدمـا ابتـدأ كتـابـه (دلائـل النبـوة و معـرفـة أحـوال
صـاحـب الشـريعـة) بمقـدمـة أوضـح فيهـا طـريقـة عـرض الكتـاب و
طبيعـة الأخبـار التـي ذكـرهـا فيـه مـع سـرد لمبـاحـث الكتـاب و
أبـوابـه .

     اتفق المـاوردي فـي منحـاه مـع منحـى معـاصـريـه ، و لكنـه
اختلـف معهـم فـي المضمـون الـذي حـواه مـدخلـه لكتـابـه أعـلام
النبـوة ، إذ اتـسـم مدخلـه الـذي أسمـاه (مقـدمـة الأدلـة)
باستعـراض مسـائـل التـوحيـد و الأدلـة علـى إثبـات وجـود الله مـع
تبيـان دور العقـل فـي الـوصـول الـى الـعـلـم بـذلك ، و إفـهـام
المكلـف (الإنسـان) بـعـد وصـولـه إلـى إثبـات وجـود الله و
الإقتنـاع بـأن معـرفـة الـرسـل هـي جـزء مـن مـعـرفـة الله و
الأدلـة عـلـى وجـوده ، ثـم بعـد ذلك يـبـيـن دور المكلـف باتـبـاع
الـرسـول الـذي بعثـه الله إلـيـه فـي كـل مـا يـأمـره مـن أحكـام
، و ينتهـي بعـد ذلك إلـى إثبـات النبـوات السـابقـة و آراء
المسلميـن و غيـر المسلميـن فيهـا علـى اختـلاف نحلهـم و مللهـم ،
ثـم الإنتهـاء إلـى إثبـات نبـوة سيـدنـا محمد صلـى الله عليـه و
آلـه و سلّـم .

     بـيـن هـذا الـمـدخـل الـذي افـتـتـح الـمـاوردي بـه كـتـابـه
الطـريقـة التـي رسمهـا لنفسـه فـي عـرضـه المتـدرج و الـمـنـسـق
لمحـاور الكتـاب و مـضـامينـه ، إذ ابتـدأ بتـوضيـح المسـائـل
الأسـاس فـي العقيـدة الإسـلاميـة و هـي إثبـات وجـود الله ثـم
بعـد ذلك تقعيـد الأسـس الأولـى لفكـرة النبـوة و ارتبـاطهـا
الجـوهـري بـوجـود الله سبحـانـه و تعـالـى ، و البنـاء علـى هـذه
الأسـس فـي إثبـات النبـوات و ذلك بالأدلـة الـتـي تـؤكـد دعـوى
أصـحـابهـا فـي ذلك و لا سـيـمـا نبينـا محمد بـن عبـد الله صلـى
الله عليـه و سلّـم ، و هـذا مـا أوجـد تسلسـلاً منطقيـاً فـي عـرض
الأفكـار مـن دون إحـداث فـجـوة أو حـلـقـة مـفـقـودة تضطـر
القـارىء المبتـدىء الـى الإستعـانـة بمصنـف آخـر لكـي يـردم هـذه
الفجـوة ، فكـان هـذا الكتـاب مستقـلاً بطـرح أفكـاره مـن ألفهـا
إلـى يـائهـا .

     2 . الفصـل بـيـن الأعـلام التـي حصلـت فـي زمنـي الحـرب و
السلـم مـن حيـاة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم ، إذ يقـول فـي
خـاتـمـة كـتـابـه هـذا مـوضـحـاً ذلك : (فـهـذه جـمـلـة مـتـفـقـة
و قـاعـدة مستقـرة فـي تـرتـيـب رسـالاتـه و أحكـام شـريعتـه ،
فـأمـا أحكـام جـهـاده فـي حـروبـه و غـزواتـه ، فـسـنـذكـره فـي
كـتـاب نـفـرده فـي سـيـرتـه نـوضـح بـه مـواقـع أعـلامـه و
مـبـادىء أحـكـامـه ، و بالله تـعـالـى التـوفيـق) .

     شـاطـر المـاوردي فـي ذلك الفـريـابـي حيـن اقتصـر علـى ذكـر
جـانبيـن مـن الجـوانـب التـي تعـرضـت لهـا كتـب دلائـل الـنـبـوة
، و إن لـم يـتـبـع نهجـه فـي عـرضـهـا ، و هـذا مـا يشكـل سمـة
تضـاف إلـى دلائـل النبـوة و هـي تسليـط الضـوء علـى جـوانـب
مستقلـة مـن الأمـور التـي اتفقـت عليهـا المحـاور التـي حصلـت
فيهـا تلك الحـوادث و التـي عـدت دليـلاً مـن دلائـل النبـوة .

     3 . الـتـوفيـق بـيـن منحـى المتكلميـن القـائـم علـى
المحـاججـة و المنـاظـرة العقليـة و منـاهـج المحـدثيـن التـي
يـغـلـب عـلـيـهـا الـنـقـل ، و ذلك بـإيـراد الـروايـة المـوافقـة
للفكـرة أو البـاب الـذي يطـرحـونـه فـي مصنفـاتهـم
(منـاهـج العلمـاء فـي البحـث العلمـي لفـرانتـز روز نثـال)

، إذ أوضـح الـمـاوردي أسـلـوبـه الـقـائـم علـى المحـاججـة
بالعقـل و النقـل فـي إثبـات النبـوات و إعـلامهـا ، و ذلك بقـولـه
: (الكـلام فـي إثبـات النبـوات يتقـرر مـع المعتـرفيـن ببعثـة
الـرسـل إلا أن منكـريهـا يعمـون الجميـع بهـا و يـدفـعـون كـل
مـدع لـهـا و الـكـلام معهـم قـد قـدمنـاه فـي إثبـات النبـوات
علـى العمـوم .. و قـد قـدمنـا أقسـام المعجـزات فـإذا ظهـرت
إحـداهـن حجـت و دلـت علـى صحـة النبـوة و قـد ظهـر محمد صلـى الله
عليـه و سلّـم أكثـرهـا مـع مـا تقـدمهـا مـن إنـذار و ظهـر فـي
نبـوّة بهـا مـن آثـار ، و تحقـق بهـا مـن نبـوات فصـارت أعلـم
النبـوات إعجـازاً و أوضحهـا طـريقـاً و امتيـازاً) .

     دافـع المـاوردي عـن الـروايـات التـي أثبتهـا فـي كتـابـه
هـذا مـن حيـث إنهـا أخبـار آحـاد ، و ذلك عنـد رده علـى بعـض
الـتـسـاؤلات التـي تطـرح مـن جـراء ذلك ، إذ يجيـب فـي دفـاعـه
عـن مسلكـه هـذا ب : (فعنـدنـا جـوابـان أحـدهمـا أن رواة الآحـاد
قـد أضـافـوه إليـه فـي جـمـع كثيـر قـد شـاهـدوه و سمعـوا راويـه
فصـدقـوه و لـم يكـذبـوه ، و فـي الممتنـع إمسـاك العـدد الكبيـر
عـن رد الكـذب ، كمـا يمتنـع افتعـالهـم للـكـذب و لكـن جـار
اتفـاقهـم علـى الصـدق مـع الكثـرة و الإفتـراق و امتنـع اتفـاقهـم
عـن الكـذب ، فـلأن داوعـي الصـدق علـة متنـاصـرة و دواعـي الـكـذب
خـاصـة متنـافـرة ، و لـذلك كـان صـدق أكـذب النـاس أكـثـر مـن
كـذبـه لأنـه لا يجـد مـن يصـدق بـه أو يجـد مـن الكـذب مـن لا
يقبـل بـه .. و الـثـانـي أنـهـا أخـبـار وردت مـن طـرق شـتـى و
أمـور متغـايـرة فأمتنـع أن يـكـون جميعهـا كـذبـاً و إن كـان فـي
آحـادهـا مجـوز ، فصـار مجمـوعهـا مـن الـتـواتـر و مفتـرقهـا مـن
الآحـاد فصـار متـواتـر مجمـوعهـا حجـة و إن قصـر مفتـرق آحـادها
عـن الحجـة و إذا استقـر هـذا الأصـل فـي الأخبـار لـم يخـرج
المـروي مـن أعـلام الـرسـول عنهـا) .

     هـذه هـي الـمـحـاور التـي أضـفـاهـا الـمـاوردي فـي كـتـابـه
أعـلام النبـوة ، و مـع كـل ذلك لـم يـلاق هـذا الكتـاب الـذيـوع و
الإنـتـشـار و الـتـأثيـر فـي الـمـصـنـفـات الـتـي تـلـتـه مـن
حـيـث الإقـتـبـاس مـن نصـوصـه ، إذ لـم نجـد سـوى نقـول قليلـة
فـي بعـض المصنفـات ، و مع كـل ذلك فـإن هـذا لـم يـمـنـع بـعـض
العلمـاء مـن أن يصفـوه بعبـارات الثنـاء ، إذ أطـراه طـاش كبـرى
زاده و أثنـى عليـه و عـده مـن الكتـب المهمـة فـي إثـبـات أمـارات
الـنـبـوة (مفتـاح السعـادة و مصبـاح السيـادة
في مـوضـوعـات العلـوم لطـاش كبـرى زاده)
، و فـعـل الـشـيء نـفـسـه حـاجـي خـلـيـفـة حـيـن وصـف
هـذا الـكـتـاب بعـبـارات الإعجـاب (كشف الظنـون
عن أسامي الفنون لحاجي خليفة)
.

     فضـلاَ عـن ذلك فقـد إهـتـم بعـض الـبـاحـثـيـن و المحـدثيـن
بـه ، و عـدوه مـن أحـد أنفـع الكتـب و أحسنهـا فـي هـذا العلـم
(أعـلام و دلائـل النبـوة و إثبـاتـاتهـا) ، علـى الـرغـم مـن
كثـرتهـا .

     و ما ذلك إلا لطبيعـة الكتـاب القـائمـة علـى منـاقشـة
النصـوص بأسلـوب المتكلميـن الصعـب مـن حيـث سـلاسـة عبـاراتـه و
ألـفـاظـه ، فـضـلاً عـن أن الـطـروحـات الـتـي عـرضـهـا المـاوردي
فـي كتـابـه هـذا لـم يسـر أحـد علـى منـوالهـا مـن الـذيـن
تـأخـروا عنـه ، إذ اخـتـصـروا فـي عـرضـهـم دلائـل النـبـوة علـى
مجـرد جمعهـا مـن دون إعطـاء إيضـاحـات مسبقـة للغـايـة مـن عـرض
هـذه الأعـلام و منـاقشتهـا و تـأسيـس الأحـكـام عليهـا كمـا فعـل
المـاوردي بـل كـانـت مجـرد استقصـاء للـروايـات التـي تحـدثـت عـن
دلائـل نبـوة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم و أعـلامـه
(البداية و النهاية لإِسْمَاعِيلُ ابن كثير)
، و مـا ذلك إلا لإنتفـاء المسـوغ مـن تـكـرار مـا قيـل فـي ذلك
مـا دامـت القنـاعـة فـي النبـوة قـد تـولـدت و لـم تظهـر عنـد
المتـأخـريـن مشكلـة مثـل التـي ظهـرت فـي القـرون التـي سبقتهـم .

     و مـن ثـم كـان هـذا الـكـتـاب مـن آخـر الكتـب التـي
استعــرضـت دلائـل و أعـلام نبـوة الـرسـول مقـرونـة بمنـاقشـات
حـاميـة للطـروحـات المضـادة مـن قبـل المنكـريـن للنبـوات تـارة ،
و الـرافضيـن لنبـوة محمد صلـى الله عليـه و سلّـم تـارة أخـرى .

4 . دلائـل النبـوة لأبي نعيـم
الأصفهـانـي (ت 430 هـ) :

     هـو أحـمـد بـن عـبـد الله بـن أحـمـد بـن إسـحـاق بـن مـوسـى
الـمـهـرانـي ولـد سنـة (336 هـ) باصفهـان ، و بـرع منـذ نـعـومـة
أظـفـاره فـي حـفـظ الـحـديـث و سـيـرة السلـف ، إذ خصـص لـهـذيـن
الأمـريـن جـل مصنفـاتـه التـي تضمنـت كتبـاً فـي التـراجـم و
الطبقـات و الحـديـث (وفيـات الأعيـان و أنباء
أبناء الزمان لقاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان – البداية و
النهاية لإِسْمَاعِيلُ ابن كثير – طبقات الشافعية الكبرى لتاج
الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي)
.

     صـنـف أبـو نـعـيـم كـتـابـه هـذا حـيـن سـألـه أحـد
تـلامـيـذه بـذكـر مجمـوع مـا وصـل إلـيـه مـن الـروايـات التـي
تـحـدثـت عـن مـعـجـزات الـرسـول صلـى الله عـلـيـه و سـلّـم و
دلائـل نبـوتـه ، و هـذا مـا أشـارت إليـه مقـدمتـه التـي يقـول
فيهـا : (أمـا بعـد فقـد سـألتـم عمـر الله بالبصـائـر الجميلـة
طـويـاتكـم .. جمتع المنتشـر مـن الـروايـات فـي النبـوة و
الـدلائـل و المعجـزات و الحقـائـق) .

     دلـت هـذه الـمـقـدمـة عـلـى أن المصنفـات الـتـي سبقـت مصنـف
أبـي نعيـم هـذا لـم تكـن ملبيـة لـرغبـات النـاس فـي الـوقـوف
عـلـى مـعـظـم إن لـم نـقـل جـمـيـع الـدلائـل و المعجـزات الـتـي
ظهـرت مـن رسـول الله صلـى الله عليـه و سلّـم فـأرادوا إشبـاع
نهمهـم فـي هـذا الـجـانـب فـطـلـبـوا مـن أبـي نـعـيـم لـمـا
عـرفـوا فيـه مـن العلـم و الفضـل أن يصنـف لهـم كتـابـاً يجمـع
لهـم مـا تنـاثـر مـن هـذه الـدلائـل و الـمـعـجـزات ، و صـنـف
لهـم كتـابـه هـذا مـع تـأكيـده أن مهمتـه تلك ليسـت بالسهلـة
اليسيـرة ، و هـذا مـا أوضحتـه مقـالتـه التـي مفـادهـا : (و
أعلمـوا أن معجـزات المصطفـى صلـى الله عليـه و سلّـم أكثـر مـن أن
يحصـرهـا عـدد و أشهـر مـن أن يحصـرهـا سنـد . و قصـدنـا جمـع مـا
نحـن بسبيلـه … مـن جمـع المنتشـر مـن الآبـار و الصحيـح و
المشهـور مـن مـروي الأخبـار) .

     فـلـو وجـد مصنـف حـوى هـذه الأمـور قـبـل مصنـف أبـي نعيـم
لمـا طـرح عليـه هـذا التسـاؤل ، و هنـا يمكـن سـر نجـاح هـذا
الكتـاب و اشتهـاره ، أن هـذا المنحـى فـي جمـع تلك المعجـزات قـد
صـاحبهـا تطـور ملمـوس فـي كتـابتهـا ضمـن مصنفـات السيـرة ، إذ
تمثـل هـذا التطـور بمسـائـل عـديـدة هـي :

     1 . فسحـه المجـال لـدخـول بعـض الـروايـات التـي لـم نجـد
لهـا أصـولاً عنـد مـن سبقـه مـن العلمـاء الـذيـن اهتمـوا بـهـذه
الأمـور و أوردوهـا فـي كتبهـم ، فـمـن الـروايـات الـتـي وجـدت
فـي هـذا الكتـاب و لـم تـوجـد عنـد غيـره ، روايـة الصـور التـي
وجـدت علـى ثيـاب جـبـلـة بـن الأيهـم الغسـانـي جـد الغسـاسنـة و
فيهـا صـور كـل نبـي مـن آدم عليـه السـلام إلـى محمد صلـى الله
عليـه و سلّـم ، كذلك إيـراده روايـة تضمنـت محـاورة جـرت بيـن
الله سبحـانـه و تعـالـى و نبيـه مـوسـى عليـه السـلام يطلـب
الأخيـر فيهـا مـن الله أن يجعلـه مـن أمـة محمد صلـى الله عليـه و
سلّـم ، نـال عملـه هـذا انتقـاداً مـن قبـل البيهقـي الـذي وصـف
الكتـب التـي سبقتـه و المتـأخـرة منهـا بخـاصـة ، و التـي احتمـل
محقـق كتـاب الـدلائـل أن هـذا النعـت يعـود علـى كتـاب أبـي نعيـم
، إذ يقـول البيهقـي واصفـاً ذلك بالقـول : (و قـد صنـف جمـاعـة
مـن المتـأخـريـن فـي المعجـزات و غيـرهـا كـتـبـاً و أوردوا
فـيـهـا أخبـاراً كثيـرة مـن غيـر تمييـز منهـم صحيحهـا مـن
سقيمهـا و لا مشهـورهـا مـن غـريبهـا و لا مـرويهـا مـن مـوضـوعهـا
حتـى أنـزلهـا مـن حـسـنـت نـيـتـه فـي قـبـول الأخـبـار منـزلـة
واحـدة فـي القبـول) (دلائل النبـوة و معـرفة
أحوال صاحب الشريعة لأحمد بـن الحسيـن البيهقـي)
، مـع
الـعلـم أن البيهقـي هـو الآخـر قـد وقـع فـي المطـب نفسـه ، إذ
أورد هـو الآخـر روايـات لـم تعـرف فـي المصـادر التـي سبقتـه أو
التـي كـانـت متـداولـة علـى ألسـن العلمـاء .

     أوجـد هـذا الأمـر حـافـزاً لـدى بعـض المتـأخـريـن علـى
إثبـات بعـض الـروايـات التـي شـاكلـت هـي الأخـرى الـروايـات
التـي أوردهـا أبـو نعيـم فـي كتـابـه هـذا .

     و مـع كـل ذلك تبقـى هـذه الأمـور مـسـائـل ظنيـة إذ أوضـح
قطـب الـديـن الـراونـدي (ت 573 هـ) هـذا الخـلاف الحـاصـل مـن
تعـارض وجـهـات الـنـظـر فـي بـعـض الـروايـات الـتـي تـحـدثـت عـن
الـمـعـجـزات الـتـي حـصـلـت مـن الـرسـول صـلـى الله عـلـيـه و
سـلّـم بالقـول : (إعلـم أن معجـزاتـه علـى أقـسـام منهـا مـن
انتشـر نقلـه و ثبـت وجـوده عـامـاً فـي كـل مكـان و زمـان مـن
حيـن ظهـوره كالقـرآن الـذي نتلـوه .. و منهـا مـا رواه المسلمـون
و أجـمـعـوا عـلـى نقلـه و كـان اختصـاصهـم بنقلـه لأنهـم كـانـوا
هـم المشـاهـديـن لـه و ظهـرت بيـن أيـديهـم فـي سفـر كـانـوا هـم
الـمـصـالـحـبيـن لـه فـي حضـرا أم فـي حضـر لـم يحضـره غيـرهـم
فلذلك انفـردوا بنقلهـا و هـم الجمـاعـات الكثيـرة التـي لا يجـوز
علـى مثلهـا نـقـل الـكـذب بـمـا لا أصـل لـه ، و الـثـالـث مـن
هـذه الأقـسـام مـا شـاهـده بعـض المسلميـن فنقلـوه إلـى حضـرة
جمـاعتهـم و كـان المعصـوم وراءهـم فـلـم يـوجـد مـنـهـم إنـكـار
لـذلك يـسـتـدلـوا بـتـركـهـم النكيـرة عليهـم عـلـى صـدقـهـم
لأنهـم علـى قـربهـم لا يجـوز لهـم السكـوت علـى بـاطـل و مـنـكـر
يسمعـونـه فـلا ينكـرونـه .. و منهـا مـا ظـهـر فـي وقـتـه قبـل
مبعثـه تـأسيسـاً لأمـوره و منهـا مـا ظهـر علـى أيـدي سـرايـاه
فـي البلـدان البعيـدة إبـانـة لتصـديقهـم إيـاه فـي ادعـائـه
النبـوة لأنهـم ممـن لا يظهـر عنهـم المعجـزات إذ لـم يكـونـوا مـن
أوصيـائـه فيعلـم بـذلك تصـديقـه بـدعـواه)
(الخرائج و الجرائح لسعيد بن هبة الله الراوندي)
.

     2 . المفـاضلـة بيـن العـديـد مـن الـروايـات و الأحـاديـث
التـي وردت فـي هـذا الكتـاب و نقـدهـا و التعليـق عليهـا ، فـمـن
ذلك مـا ذكـره حـول أحـد الـدلائـل الـتـي أكـدت نـبـوة محمد صـلـى
الله عليـه و سلّـم ، و المتضمنـة وجـود إسـم الـرسـول محمد صلـى
الله عليـه و سلّـم و إسـم أمتـه فـي الكتـب المقـدسـة (التـوراة و
الإنجيـل) ، إذ يعلـق علـى إحـدى الـروايـات التـي أورد هـذه
الـدلالـة بالقـول : (و هـذا الحـديـث مـن غـرائـب حـديـث سـهـيـل
، لا أعـلـم أحـداً رواه مـرفـوعـاً إلا مـن هـذا الـوجـه) ، و
يضيـف فـي مكـان آخـر حـول الـروايـات التـي عـرضـت قصـة أصحـاب
الـفـيـل و إرسـال عـبـد المطلـب لابنـه عبـد الله إلـى أبـرهـه
مـا مفـاده : (روى قصـة أصحـاب الفيـل مـن وجـوه و سيـاق عثمـان
بـن المغيـرة أتمهـا و أحـسـنـهـا شـرحـاً و ذكـر أن عـبـد المطلـب
بعـث بابنـه عبـد الله ، فهـو وهـم بعـض النقلـة لأن الـزهـري ذكـر
أن عبـد الله بـن عبـد المطلـب كـان مـوتـه عـام الفيـل ، و أن
الحـارث بـن عبـد المطلـب كـان أكبـر ولـد عبـد المطلـب و كـان هـو
الـذي بعثـه علـى فـرسـه لينظـر مـالقـي القـوم) .

     و هـذه الـنـقـطـة الـتـي سجلـت لأبـي نعيـم تخفـف مـن حـدة و
قطعيـة القـول الـذي أطلقـه البيهقـي فـي نعتـه للكتـب التـي
سبقتـه مـن أنهـا لـم تميـز بتـاتـاً بيـن الـروايـات فأخـذتهـا
بمنـزلـة واحـدة فـي القبـول .

     3 . إدخـال الـنـصـوص الشعـريـة التـي تتضمـن عـرضـاً
لـدلائـل نبـوة الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم ، و هـذا مـا
يـدل علـى أن إدخـالـه لهـذه الأشعـار ضمـن كتـابـه هـذا لـم يكـن
مـن دون قـصـد حيـث إنهـا قـد وردت فـي الـروايـة التـي وصلـت إلـى
مسـامعـه و أنظـاره ، بـل كـان وراء إدخـالـه لـهـا غـايـة لأنـهـا
تـضـمـنـت فـي أبيـاتهـا ذكـراً للـدلائـل التـي عـرضتهـا
الـروايـة ، فمـن ذلك ذكـره للبشـائـر التـي سبقـت ظهـوره صلـى
الله عليـه و سلّـم مشفـوعـة بقصيـدة لأحـد الشعـراء يقـول فيهـا :

                  نهار و ليل كـلا آدب بحـادث
                  سـواء عليهـا ليلهـا و نهـارهـا
                  يود بأن بالأحـداث حيث تأدباً
                  و بالنعـم الضافـي علينا ستـورهـا
                  عـلـى غـفـلـة يـأتـي الـنـبـي محمـد
                  فيخبـر أخبـاراً صـدوقاً خيـرهـا

     إن هـذه الأشـعـار الـتـي أوردهـا أبـو نعيـم فـي كـتـابـه
هـذا لـم يبيـن مـدى صحـة نسبتهـا إلـى قـائليهـا أو مـدى دقـة
أوزانهـا بـل نقلهـا كـمـا وصلـت إليـه ، إذا مـا علمنـا أن هنـالك
شعـراً منحـولاً كثيـراً فـي هـذا الجـانـب مـن سيـرة الـرسـول
صلـى الله عليـه و سلّـم أضفتـه الطبيعـة البشـريـة الجـامحـة نحـو
التهـويـل و المبـالغـة .

     4 . الـمـقـارنـة بيـن المعجـزات التـي ظهـرت مـن الأنبيـاء و
مـا ظهـر مـن الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم من معجـزات
ممـاثلـة لجميـع المعجـزات التـي ظهـرت مـن الأنبيـاء الـذيـن
سبقـوه .

     هـذه هـي الـجـوانـب الـتـي أضـفـاهـا أبـو نعيـم علـى
كتـابـة دلائـل النبـوة مـن جهـة و كتـابـة السيـرة النبـويـة مـن
جهـة أخـرى ، لأن هـذا الكتـاب قـد أستـوعـب معظـم المصنفـات التـي
سبقتـه ، ليـأتـي البيهقـي ليكمـل مـا سبقـه أبـو نعيـم إليـه .

     لـم تـنـطـفـىء جـذور التصنيـف فـي دلائـل نـبـوة الـرسـول
صـلـى الله عليـه و سـلّـم بعـد هـذيـن الكتـابيـن بـل إستمـر
العلمـاء بتصنيـف العـديـد مـن الـكـتـب فـي هـذا الجـانـب ، و إن
لـم تكـن بمستـوى الكتـب التـي سبقتهـا ، إذ عـدد لنـا أحـد فهـارس
الكتـب التـي عنـت بجمـع أسمـاء المصنفـات التـي كتبـت فـي سيـرة
الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم هـذه المصنفـات متع تبيـان
أمـاكـن وجـود بعضهـا و التـي لا زالـت مخطـوطـة و لـم تـر النـور
حتـى الآن ، إذ دلـت هـذه المصنفـات علـى استمـرار و ديمـومـة
التصنيـف فـي دلائـل النبـوة .

     قـرن بعـض المصنفيـن فـي دلائـل نبـوة الـرسـول صلـى الله
عليـه و سلّـم المعجـزات التـي ظهـرت منـه ، بالكـرامـات التـي
ظـهـرت مـن الائـمـة عليهـم الـسـلام ، و أسـبـق مـن نهـج هـذا
النهـج مـن العلمـاء قطـب الـديـن الـراونـدي إذ أردف سـرده
لمعجـزات الـرسـول صلـى الله عليـه و سـلّـم بسـرد كـرامـات
الائمـة عليهـم السـلام (الخـرائـج و الجـرائـح) ، و هـذا مـا جعـل
طـريقتـه تلك منهـاجـاً لبعـض المتـأخـريـن عنـه فـي ايـراد
كـرامـات الائـمـة عـلـيـهـم السـلام مـسـبـوقـة بعـرض لمعجـزات
الـرسـول صلـى الله عليـه و سلّـم (الصراط
المستقيم إلى مستحقي التقديم للدين أبي محمد علي بن يونس العاملي
النباطي – إثبات الهداة بالنصوص و المعجزات لمحمد بن الحسن الحر
العاملي)
.

     هـذه هـي الإسـهـامـات التـي أظهـرتهـا كتـب أعـلام و دلائـل
النبـوة فـي الهيكـل العـام لسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه و
سلّـم و التـي كـانـت حلقـة مـن حلقـات التطـور فـي كتـابـة
السيـرة النبـويـة .

عن المدير