الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الثاني: تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة وتأريخها
الفصل الثاني: كتابة السيرة الشاملة والمستقلة وتطورها
المبحث الثالث: السيرة النبوية المدمجة ضمن المصنفات التأريخية
المطلب الثاني: المناحي التطورية لكتابة السيرة النبوية ضمن كتب الطبقات والتراجم
الفرع الأول: مدلول مصطلحي الطبقات والتراجم وتاريخ التأليف فيهما
قبـل البـدء بالـحـديـث عـن هـذا التطـور فـي كتـابـة السيـرة النبـويـة، وذلك بإدخـالـهـا فـي كـتـب الطبقـات والـتـراجـم، نـرى مـن الضـروري التعـرض إلـى مـعـرفـة مـدلـولـي الطبقـات والتـراجـم، وذلك بإعطـاء لمحـة مـوجـزة عـن معـانيهمـا ونشـأة الكتـابـة فيهمـا والمـؤثـرات التـي أثـرت فـي ظـهـورهـمـا.
دل مصطلـح الطبقـة علـى معـان عـدة، والـذي يهمنـا منهـا هـو مـا دل علـى أن الطبقـة هـي الجمـاعـة مـن النـاس الذيـن يعـدلـون جـمـاعـة مثلهـم (لسـان العـرب لمحمـد ابـن منظـور – تَـاج العَـرُوس مـن جَـوَاهِر القَـامُـوس للعـلامـة المـرتـضـى الـزبيـدي).
تنـاول أحـد البـاحثيـن هـذا المـدلـول مـن حـيـث نـشـأتـه وتـطـوره واستعمـالاتـه فـي المصنفـات التـي تـرجمـت لأعـلام المسلميـن، وبـحـث آخـر اسـتـعـمـالات هـذا الـمـدلـول ومـدى عـمـق جـذوره عنـد المسلميـن فخـرج بنتيجـة مفـادهـا: (وتقسيـم الطبقـات إسـلامـيـاً أصـيـل فـقـد يبـدو أنـه أقـدم تقسيـم زمنـي وجـد فـي التفكيـر التـأريخـي الإسـلامـي وليـس لـه أيـة عـلاقـة بالأصـل بطـريقـة التـرتيـب تبعـاً للسنيـن التـي كـانـت مـألـوفـة فـي تـقـاليـد التـراجـم الأغـريقيـة … إن تقسيـم الطبقـات هـو نتيجـة طبيعيـة لفكـرة صـحـابـة الـرسـول، والتـي تطـورت فـي أوائـل القـرن الثـانـي الهجـري للإرتبـاط مـع نقـد علـم الحـديـث للإسنـاد … ومـمـا يـؤيـد الصلـة بيـن تقسيـم الطبقـات وعـلـم الحـديث هـو اقتصـار استعمـالـهـا عـلـى التـراجـم، فـقـد استعمـل تـرتيـب الطبقـات فـي أول الأمـر … ثـم أصبـح بالإمكـان استعمـالهـا فـي تصنيـف أنـواع الـرجـال خـاصـة الـعـلـمـاء ثـم استعملـت عـلـى مـر الـزمـن بـشـكـل غـيـر مـلائـم بتصنيـف الأحـداث) (علـم التـأريـخ عنـد المسلميـن لفـرانتـز روزنثـال).
مـن هـذه النتيجـة التـي تـوصـل إليهـا روزنـثـال نـجـد أن مصطلـح الطبقـة قـد مـر بـمـراحـل عـدة مـن الإستعمـال فـي المصنفـات التـي عـرضـت تـراجـم الصحـابـة والـرواة والمحـدثيـن وغـيـرهـم مـن الأعـلام. أمـا لفظـة التـراجـم فهـي كلمـة معـربـة دخيلـة وتأريـخ دخـولهـا إلـى الإستعمـال فـي كتـب التـراجـم فيـرجـح أنـه جـرى فـي أوائـل القـرن السـابـع الهجـري، فـي حيـن أنهـم كانـوا يستعملـون لفظـة التـأريـخ فـي عـنـوانـات كـتـبـهـم بـدلاً مـن التـراجـم وذلك فـي القـرون الأولـى (دراسـات فـي كتـب التـراجم والسيـر لهـانـي العمـد).
وفـن التـراجـم هـو الـذي يتنـاول التعـريـف بحيـاة رجـل أو أكثـر، وهـذا الفـن علـى نـوعيـن: أولهمـا ذاتـي وهـو الـذي يتنـاول فيـه الكـاتـب تـأريـخ حيـاتـه، وثـانيهمـا مـا يعـرف فيـه كـاتـب أحـداً غيـره. وفـن التـراجـم قـديـم عـنـد كثيـر مـن الأمـم، وقـد أزدهـر ازدهـاراً عظيمـاً عنـد المسلميـن منـذ العصـور الإسـلاميـة الأولـى، وكـانـت سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم مـن أوائـل مـا عـنـي بـه الـمـؤرخـون الـمـسـلـمـون مـنـذ نـهـايـة الـقـرن الـهـجـري الأول، وقـد ظـهـرت لـديـهـم كـتـب فـي الـتـراجـم تعـرف بالآخـريـن (تطـور الفكـر العلمـي عنـد المسلميـن لمحمـد الصـادق عفيفـي، وهـي الكتـب التـي تـعـرض حيـاة الأشـخـاص كالـرواة والمحـدثيـن وغيـرهـم علـى وفـق تسلسـل أبجـدي (المـدخـل إلـى التـاريـخ لنـور الـديـن حـاطـوم).
ونلمـس عـنـد أحـد البـاحثيـن إيـضـاحـاً لمـا يتـداخـل بيـن هـذيـن المصطلحيـن مـن معنـى مـع إعطـائـه مقيـاسـاً للتفـرقـة بيـن كـتـب الطبقـات والتـراجـم، إذ يقـول: (وليـس هنـاك فـروق بيـن كـتـب الطبقـات وكـتـب التـراجـم عمـومـاً سـوى التـرتـيـب، فبينمـا الأولـى رتبـت تـرتيـبـاً زمـنـيـاً طبقـة فطبقـة، نجـد أن كـتـب التـراجـم رتـبـت حـسـب الألفبـاء فـي الأغـلـب الأعـم) (مظـاهـر تـأثيـر علـم الحـديث فـي علـم التـأريـخ عنـد المسلميـن لمعـروف بشـار عـواد).
كـان وراء هـذا الإتجـاه فـي الـكـتـابـة عنـد الـمـسـلـمـيـن (كتـابـة الطبقـات والتـراجـم) عـامـلان أسـاسـيـان هـمـا:
1 . كتـابـة السيـرة و المغـازي النبـويـة: إذ أدى الإهتمـام بهمـا إلـى ظهـور الحـاجـة إلـى جـمـع المعـلـومـات عـن مـن يـرد ذكـره مـن صحـابـة الـرسـول صـلـى الله عليـه وسـلّـم أثـنـاء عـرض سيـرتـه الشـريفـة، ومـتـابعـة حـيـاة هـؤلاء الـصـحـابـة رضـي الله عنهـم، ودورهـم فـي أحـداث عـصـرهـم وإسـهـامـاتهـم الـمـعـرفيـة والـفـكـريـة فـي نقـل الـسـنـة ومبـادئ الإسـلام وتعـاليمـه للجيـل الـذي تـلاهـم، ومـن ثـم تصنيفهـم علـى وفـق أسبقيـات مـعـيـنـة كالـسـبـق إلـى الإسـلام، أو درجـة الـقـرابـة مـن الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم، أو بحسـب دخـولهـم البـلـدان واسـتـيـطـانـهـم فـيـهـا وغـيـر ذلك مـمـا يـجـمـع الأشـخـاص فـي صـفـة مـعـيـنـة مشتـركـة تصلـح أداة فـي التقسيـم (المغازي الأولـى ومـؤلفـوها ليـوسـف هـوروفـتـس).
2 . تطـور و نـمـو عـلـم الـحـديـث: إذ بمجـرد أن مـرت الـقـرون علـى الإسـلام متمثلـة بعصـر الـرسـالـة والعصـر الـراشـدي والأمـوي والعبـاسـي ومـا رافـق هـذه العصـور مـن حـوادث وأمـور وفـرق ومـذاهـب واتـجـاهـات فـكـريـة، أدت هـذه الأمـور مجتمعـة إلـى ظهـور حـركـة الـوضـع فـي الـحـديـث الـنـبـوي فـضـلاً عـن أن بـواعـث البحـث والتمحيـص فـي مسـائـل التفسيـر والحـديـث والنحـو هـي التـي حـدت بالـعـلـمـاء عـلـى تـدويـن سـيـر الـرواة والنـظـر فـي أسـانيـدهـم وتـراجمهـم وأحـوالهـم حتـى أصبـح مـن شـروط الإجتهـاد فـي الفقـه والتفسيـر معـرفـة الأخـبـار بمتـونهـا وأسـانـيـدهـا والإحـاطـة بأحـوال النقلـة والتحقـق مـن سنـوات ولادتهـم ووفـاتهـم واعتمـاد بعضهـم علـى بـعـض فـي الـروايـة، ومـن ثـم معـرفـة مـدى صـدقهـم والطعـن الـذي وجـه إليهـم، الأمـر الـذي أدى إلـى ظهـور علـم الجـرح والتعـديـل الـذي اختـص بالبحـث عـن الـرواة مـن حـيـث مـا ورد مـن شـأنـهـم بـمـا يشينهـم أو يمـدحهـم أو يـزكيهـم فضـلاً عـن ذكـر نمـاذج مـن مـرويـاتهـم، هـذه الأسبـاب مجتمعـة جـعـلـت العلمـاء يقسمـون رواة كـل فـن إلـى طبقـات، فنجـد مـن ذلك التـراجـم للـعـلـمـاء والأدبـاء والفقهـاء والـنـحـاة والمفسـريـن والصـوفيـة وغيـرهـم (تطـور الفكـر العلمـي عنـد المسلميـن لمحمـد الصـادق عفيفـي).
هـذه لـمـحـة بسيطـة ومـوجـزة عـن العـوامـل والمـؤثـرات التـي أدت إلـى ظـهـور هـذه الـمـصـنـفـات فـي التـراث الفكـري الـعـربـي الإسـلامـي والـتـي بينت لـنـا الإتـسـاع والتطـور الـذي أحـدثـه المسلمـون فـي مجـال الكتـابـة العلميـة المنهجيـة ذات البعـد الحضـاري العميـق للإسـلام ولـرجالاتـه.
كـانـت هـذه المصنفـات ذات تـنـوع فـي طـريـقـة العـرض، ولأجـل هـذا التنـوع أفـردنـا كـل قسـم منهـا علـى حـدة للتـركيـز فـي هـذه الفكـرة وعـدم التشتـت فـي إعطـاء النتـائـج المتمخضـة عـن دراسـة هـذه المصنفـات والآراء التـي قيلـت فيهـا.