الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الثاني: تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة وتأريخها
الفصل الثاني: كتابة السيرة الشاملة والمستقلة وتطورها
المبحث الثالث: السيرة النبوية المدمجة ضمن المصنفات التأريخية
المطلب الأول: السيرة النبوية المدمجة ضمن كتب التأريخ العام
الفرع الثاني: المصنفات التي وصلت إلينا في التأريخ العام
6 . المنتظم في أخبار الملوك والأمم لعبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 هـ) :
أسهـم ابـن الجـوزي فـي تطـور كتـابـة السيـرة النبـويـة ضمـن كـتـب التـأريـخ العـام مـع اسهـامـه السـابـق فـي تطـورهـا ضمـن كتب السيـرة المستقلـة، إذ خصص فـي كتـابـه المنتظـم حيـزاً كبيـراً لسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم، وهـذا الحيـز الكبيـر قـد أطلـق لابـن الجـوزي العنـان بالتحـرك بحـريـة وتنسيـق أحـداث السيـرة وتـوابعهـا.
وقبـل البـدء بعـرض هـذه الإسهـامـات التـي أضـفـاهـا ابـن الجـوزي عـلـى كتـابـة السيـرة النبـويـة ضـمـن كـتـب التـأريـخ العـام يجب إعطـاء صـورة واضحـة عـن عنـاصـر الشبـه والإختـلاف، إن وجدت، فـي مـا عـرضـه ابـن الجـوزي فـي كـل مـن كتـابيـه (الـوفا بأحـوال المصطفـى) و (المنتظـم في أخبـار الملـوك والأمـم) عـن سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسـلّـم وأحـوالـه، وبعبـارة أدق عـقـد مقـارنـة بيـن منهجـي ابـن الـجـوزي فـي كـل مـن كتـابـيـه هـذيـن عـنـد ذكـره لسيـرة الـرسـول صـلـى الله عـلـيـه وسـلّـم فيهمـا، وذلك أن استعـراض هـذه العنـاصـر مـن الفـائـدة بمكـان، إذ إنهـا تعطينـا صـورة واضـحـة وشـامـلـة للمنهـج الـذي أتبعـه ابـن الجـوزي فـي كتـابـة السيـرة بـعـامـة، ممـا يـدل علـى أن السيـرة النبـويـة قـد وضعت فـي قـوالـب متعـددة ليسـت بالضـرورة تـقـع ضـمـن عنـوانـات أو اتجـاهـات واحـدة فـي الكتـابـة، كـأن تـكـون ضمـن التـأريـخ العـام، كمـا فعـل المسعـودي فـي كتـابيـه (مـروج الـذهـب) و (التنبيـه و الأشـراف)، أو تـكـون عـرضـاً لـجـوانـب وتـركـاً لأخـرى مـن السيـرة؛ عـلـى فـرض أن الـمـؤلـف قـد تـنـاولهـا فـي مصنف آخـر اختلف فـيـه المنحـى الـذي كتب فيـه بـدعـوى الإختصـار وعـدم التكـرار فـي إيـراد الحـوادث، وهـذا مـا مثلـه ابـن عبـد البـر فـي كتـابيـه (الإستيعـاب فـي معـرفـة الأصحـاب) و (الدرر فـي اختصـار المغـازي والسيـر)، اللـذيـن كـان الأول منهمـا فـي التـراجـم والطبقـات، والآخـر فـي كتب السيـرة والمغـازي المستقلـة، مـع العلـم أن هـذا الجـانب هـو سـمـة تـطـوريـة بـحـد ذاتـه فـي كـتـابـة السيـرة مـن حيـث تشعـب إيـرادهـا فـي كـتـب عـدة لمصنـف واحـد، وهـذا مـا ممثلـه ابـن الجـوزي بـحـذافـيـره حـيـن أورد سـيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم فـي أكثـر مـن مصنف مـن مصنفـاتـه (صفـة الصفـوة، المـدهـش، الحـدائـق فـي علـم الحـديث والـزهديـات، تلقيـح فهـوم أهـل الأثـر فـي عيـون التـواريـخ والسيـر)، وهـذه العنـاصـر هـي:
1. استعمـل ابـن الجـوزي المنهـج الحـولـي فـي كتـابـه (المنتظـم فـي أخبـار الملـوك والأمـم) عنـد عـرضـه لحيـاة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم مـن مـولـده إلـى وفـاتـه، أمـا فـي كتـابـه (الـوفـا بأحـوال المصطفـى) فقـد استعمـل المنهـج المـوضـوعـي، كمـا أشـارت إلـى ذلك أبـواب كتـابـه التـي عـرضهـا فـي مقـدمتـه.
كـانت طبيعـة هـذيـن الـكـتـابـيـن هـي السبب الـذي دعـا ابـن الجـوزي إلـى انتهـاج هـذيـن المنهجيـن المختلفيـن فـي كـل منهمـا، فالمنتظـم تـأريـخ مكتـوب علـى وفـق استعـراض الـحـوادث الـتـي حصلت علـى مـدار واسـع مـن الـزمن ابتـداء مـن بـدء الخليقـة وانتهـاء بحـوادث عصـر المـؤلف، أمـا الـوفـا فـهـو كتـاب قـد أعطـى ابـن الجـوزي فيـه بعـداً كبيـراً للجـوانب الـروحيـة والنفسيـة والحيـاتيـة لشخصيـة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم مـن مـولـده حتـى وفـاتـه، ولذلك أصبـح استعمـال المنهـج المـوضـوعي أمـراً لا مفـر منـه، وذلك لصعـوبـة إيجـاد تـوافـق بيـن هـذه الجـوانب والسنـوات التـي حصلت فيهـا أفعـال أو مـوقـف مـن الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم.
2 . أفـاض ابـن الـجـوزي فـي ذكـر الـنـصـوص الـشـعـريـة الـتـي قيلت فـي الـحـوادث مـن دون إهـمـال هـذه النصـوص أو التقليـل مـن أبيـاتهـا، أمـا كتـابـه (الوفا بأحوال المصطفى) فقـد خـلا تمـامـاً مـن أي نـص شعـري سـوى بعض الأراجيـز التـي تعـدّ علـى أصـابـع اليـد، بـل إن هـذه المـواطـن التـي أورد فيهـا بـعـض النصـوص الشعـريـة قـد أخـذ مـنـهـا مـحـل الـشـاهـد مـن القصيـدة مـن دون إيـراد أبـيـات أخـرى منها.
3 . استعمـال الإسـنـاد فـي إيـراد الـروايـات التـي أثبتهـا عـن سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم، مـع العلـم أن هـذا الـمـسـلـك فـي إيـراد الـروايـات لـم يتبعـه فـي كتـابـه الـوفـا الـذي أغفـل تمـامـاً ذكـر أي طـريـق مـن طـرق الإسنـاد، إذ بيـن سـبـب ذلك بـالقـول: (ولا أطـرق الأحـاديـث خـوفـاً علـى السـامـع مـن المـلالـة)، ولا أعـرف الـدافـع الـذي حـفـز علـى التنـاقـض فـي انـتـهـاج هـذيـن المسلكيـن، مـع العلـم أنـه قـد أشـار فـي كتـابـه الـوفـا إلـى المصـادر التـي نقـل منهـا معظـم مـرويـاتـه.
4 . تعليقـه علـى الـروايـات التـي استعـرضهـا فـي مـواطـن كثيـرة مـن ضـمـن قسـم السيـرة فـي كتـابـه المنتظم، أمـا كتـابـه الآخـر فقـد كـانـت آراؤه وانتقـاداتـه وتعقيبـاتـه علـى الـروايـات لـم تتعـد أصـابـع اليـد الـواحـدة، وذلك مـمـا حـدا محققـه عـلـى أن يـصـفـه بـالقـول: (يـنـدرج فـي هـذا الكتـاب تـحـت عنـوان الـنـقـل والأثـر فليـس مـن تحليـل ولا اسـتـدلال) (مقدمة التحقيق لكتاب الوفا بأحوال المصطفى لعبد الواحد مصطفى).
5 . الإكـثـار فـي إيـراد أسـمـاء المشتـركيـن فـي الحـوادث الكبـرى وذلك علـى وفـق التسلسـل الأبـجـدي للـحـروف، وإيـراد أسمـاء الأعـلام الـذيـن يتـوفـون فـي كـل سنـة مـن السنـوات التـي عـاشهـا الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم ولا سيمـا السنـوات التـي تـلـت هـجـرتـه إلـى المـدينـة، وهـذا مـا أغـنـى الكـتـاب وجـعـلـه زاخـراً بقـوائـم متعـددة للأعـلام. أمـا فـي كتـابـه الآخـر فكـانت أسمـاء الأعـلام المشتـركيـن فـي الحـوادث الـواردة فـي الكتـاب مـن النـدرة بمكـان إذ لا نجـد فـي الحـوادث التـي أوردهـا ابـن الجـوزي أسمـاء المشتـركيـن فيهـا أو الـذيـن حضـروهـا أو الـذيـن كـانـت لـهـم يـد فـي حـصـولـهـا.
هـذه هـي العنـاصـر التـي تـمـخـضـت عـنـهـا المقـارنـة التـي أجـرينـاهـا بيـن مـا كتبـه ابـن الجـوزي عـن سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم فـي كتـابيـه (المنتظـم فـي أخبـار الملـوك والأمـم) و (الـوفـا بـأحـوال المصطفـى)، والتـي تبيـن لنـا الإخـتـلاف الـجـذري والـعـمـيـق فـي الأسـالـيـب الـتـي إنـتـهـجـهـا ابـن الـجـوزي فـي كـتـابـيـه آنـفـي الـذكـر، مـع العلـم أننـا نستطيـع القـول بعـد إجـراء هـذه الـمـقـارنـة إن كـلاً مـن هـذيـن الكتـابيـن متمـم للآخـر مـن حيث عـرض سـيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم فـي كـل مـنـهـمـا؛ حيـث حـوى كـل واحـد مـنـهـمـا مـعـلـومـات لـم تـرد فـي الآخـر مـمـا يـجـعـل عـمـلـيـة الـدمـج بينهمـا أمـراً سهـل المنـال وذلك بجمعهمـا فـي مصنـف واحـد شمـولـي يكـون جـامعـاً للمعلـومـات التـي وردت مفـرقـة فـي الكتـابيـن.
أعطـى ابـن الجـوزي لكتـابـة السيـرة نقلـة نـوعيـة ضمـن كتب التـأريـخ العـام بخـاصـة، وكتب السيـرة بعـامـة، وذلك للإضـافـات التـي أكسبهـا لهـا فـي كتـابـه هـذا والتـي تمثلت ب:
1 . تقسيـم حـوادث السيـرة علـى ثـلاثـة أقسـام:
أ . مـرحلـة المـولـد.
ب . مـرحلـة المبعـث.
ج . مـرحلـة الـوفـاة.
وهـذا التقسيـم لـحـوادث الـسـيـرة عـدّه أحـد البـاحـثـيـن فـريـداً فـي بـابـه ولـم يـسـبـقـه أحـد فـي ذلك مـن المـؤرخيـن، بـل كـان هـو صـاحـب السبـق والـريـادة (منهج ابن الجوزي في دراسة السيرة لحسن عيسى الحكيم)، إذ عدّ ابن الجـوزي حـادثـة مـولـد الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم المحـور الـذي تـدور حـولـه بقيـة الحـوادث التـي تليهـا.
هـذا هـو المنحـى الـذي سلكـه ابـن الجـوزي فـي عـرضـه حـوادث السيـرة، مـع العلـم أن منـحـاه هـذا قـد سـبـقـه فيـه الـمـسـعـودي ولكـن بـصـورة مختلفـة عـن التـي عـرضهـا ابـن الجـوزي، إذ قـسـم المسعـودي حـوادث السيـرة إلى تقسيـم ابـن الـجـوزي نفسـه ولكـن بإطـلاق لفـظ جـوامـع المـولـد أو جـوامـع الهجـرة … الخ مـن الحـوادث (مـروج الـذهـب ومعـادن الجـوهـر لأبـي الحسـن علـي بـن الحسيـن المسعـودي)، ولـكـن يبقـى الـمـنـحـى الـذي سلكـه ابـن الجـوزي أكـثـر اتـزانـاً وشمـوليـة مـن المنحـى الـذي سـلـكـه المسعـودي فـي تقسيمـه لـمـراحـل الـسـيـرة الـذي أمتـاز تقسيمـه بالعشـوائيـة والإضطـراب وعـدم التنـاسـق فـي عـرض الحـوادث مـن حيث أسبقيتهـا الـزمنيـة وتـداخـل بعـض الحـوادث ببعضهـا، وذلك عنـد استعـراضنـا لإسهـامـات المسعـودي فـي تطـور كتـابة السيـرة النبـوية فـي كتـب التـأريـخ العـام ضـمـن كتـابـه (مـروج الـذهـب ومـعـادن الـجـوهـر).
2 . الإهـتـمـام بإيـراد أسمـاء الأعـلام الـذيـن يـتـوفـون فـي كـل سـنـة مـن سـنـوات الهجـرة، وهـذه ظـاهـرة لـم نلمسهـا فـي أي كـتـاب مـن الكتـب التـي سبقـت ابـن الجـوزي عنـد استعـراضهـا لسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم ضمـن كتب التـأريـخ العـام، وهـذا مـا يبيـن حصـول امتـزاج بيـن كتب التـراجـم وكتب التـأريـخ العـام فـي مـصـنـف ابـن الجـوزي هـذا.
سـار علـى هـذا المنـوال كثيـر مـن المـؤرخـيـن الـذيـن أتـوا بعـد ابـن الـجـوزي، إذ اسـتـحـسـنـوا عملـه هـذا فـي ذكـر أسـمـاء الأعـلام الـذيـن يـتـوفـون فـي كـل سـنـة مـن الـسـنـوات التـي تـعـرضهـا كتبهـم (مـرآة الـزمـان فـي وفيـات الأعيـان ليـوسـف بـن قـزاوغـلـي، سبـط ابـن الجـوزي).
3 . كتـب ابـن الجـوزي قـوائـم بأسـمـاء الـمـشـاركيـن فـي الـحـوادث علـى وفق التسلسـل الأبجـدي، إلا فـي حـالـة واحـدة وهـي أسمـاء المشـاركيـن فـي معـركـة بـدر مـن الطـرفيـن، إذ كتبـه علـى المنحـى القـديـم المتمثـل فـي المصنفـات التـي عـرضـت أسمـاء هـؤلاء علـى وفـق انتمـاءاتـهـم القبليـة ولـيـس عـلـى وفـق الحـروف الأبجـديـة لأسمـائهـم (السيـرة النبـويـة لعبـد الملـك بـن هـشـام).
ويعـدّ هـذا الأمـر تقليصـاً للمـوروث القبلـي، أو الطـابـع الإفتخـاري للقبـائـل حيـن عـرض أسمـاء الـمـنـتـسـبيـن إلـى القبـائل مـن المشـاركيـن فـي حـوادث السيـرة النبـويـة ولاسيمـا الـمـشـاركـون إلـى جـانـب الـرسـول الأكـرم، وإن ابـن الـجـوزي بقيـامـه بـهـذا المنحـى أراد سلـخ هـذا الطـابـع المـوروث عنـد القبـائـل عـن المصنفيـن الـذيـن عـرضـوا أسمـاء أعـلامهـا.
هـذه هـي الـمـمـيـزات الـتـي أضـفـاها ابـن الـجـوزي عـلـى كـتـابـة السـيـرة والـتـي جعلتـه أحـد الـمـؤرخـيـن الـذيـن أسهمـوا فـي تطـور كتـابـة السيـرة النبـويـة؛ وقـد اختـزل ابـن الـجـوزي هـذا الجهـد الـذي بـذلـه فـي كتـابـه (المنتظـم فـي تـأريـخ الملـوك والأمـم) بمصنف صغيـر أسمـاه (شـذور العقـود فـي تـأريـخ العقـود) افتتحـه قائـلاً: (وإنـي لمـا جمعـت كتـابـي الجـامـع لنكت التـواريـخ المسمـى ب (المنتظـم فـي تـأريـخ الملـوك والأمـم) رأيتـه قـد طـال، مـع اجتهـادي فـي اختصـاره فـآثـرت أن أجتـنـي فـي هـذا الكتـاب مـن أعيـان عيـونـه وأجتبـي كـلـف التنقـي مـن أفنـان فنـونـه مـا يكـون فـي المثـل كـواسطـة العقـد وبـيـت القصيـد والله المـوفـق).
وجـعـل ابـن الـجـوزي فـي مـخـتـصـره هـذا الـسـيـرة الـنـبـويـة فـي صفحـات قليلـة، وقـد اتـبـع فيـه الأسلـوب نفسـه الـذي اتبعـه فـي مفصلـه (المنتظـم فـي تـأريـخ الملـوك والأمـم) إذ قسـم السيـرة علـى ثـلاث مـراحـل، ولـم ينـس التعـرض إلـى مـن تـوفـي فـي هـذه الـسـنـوات مـن الأعـلام وإن لـم يـسـتـعـرض جميـع مـن ذكـرهـم فـي المنتظـم؛ وحـذف سـلاسـل الإسـنـاد وقـوائـم أسمـاء المشـاركيـن فـي الحـوادث أيـضـاً.
إن هـذه القـدرة علـى ضغـط الصفحـات الـواسعـة الـتـي شغلتهـا سيـرة الـرسـول الأكـرم صـلـى الله عـلـيـه وسـلّـم فـي كتـاب المنتظـم إلـى صفحـات لـم تتعـد أصـابـع اليـد الـواحـدة تبيـن لنـا قـدرة ابتن الجـوزي الـفـائـقـة عـلـى الإخـتـزال، وهـذا الأمـر راجـع إلـى تجـاربـه المتكـررة فـي تـدويـن سيـرة الـرسـول صـلـى الله عـلـيـه وسـلّـم فـي مصنفـاتـه المتعـددة.
إن هـذا المنحـى مـن قبـل مصنفـي التـأريـخ العـام فـي اختصـار معظـم مصنفـاتهـم الكبيـرة بمصنفـات أصغـر مـنـهـا لـه مـا يعللـه إذ يشيـر أحـد البـاحثيـن إلـى: (أن حـاجـة الأمـراء والعلمـاء إلـى معلـومـات سـريعـة يضـيـق وقتهـم عـن أوسـع منـهـا وتـقـل حـاجتهـم إلـى أكثـر منهـا ثـم ظهـور المختصـرات فـي العلـوم الأخـرى ثـم داعـي الهـرب والتخلـص مـن نسـخ الـمـجـلـدات الـواسـعـة والـصعـوبـة العمليـة فـي اقتنـاء وفـي نقـل المجلـدات الضخمـة التـي هـي فـي الـوقـت نفسـه غـاليـة الثمـن وقلمـا يهتـم بهـا إلا المتخصصـون الهـواة، كـل ذلـك أوجـد المختصـرات فـي الـتـواريـخ الـعـامـة أو للـتـأريـخ الإسـلامـي) (التـأريـخ الـعـربـي والمـؤرخـون لمصطفـى شـاكـر).
7 . خـاتـمـة:
هـذه هـي المصنفـات التـي وصلت إلينـا، والتـي لمسنـا فيهـا تجـديـداً وتطـوراً فـي كـتـابـة السيـرة النبـويـة ضـمـن كـتـب التـأريـخ العـام، علمـاً أن هـنـاك مصنفـات أخـرى قـد كـتـبـت فـي هـذا الجـانب، ولكنهـا كـانت تقليـديـة وغيـر ذات تجـديـد أو تـطـويـر فـي جـانب مـن الجـوانـب، وإن كـانت بعـض المصنفـات التـي تـم عـرضـهـا قـد سـارت علـى نـمـط سـابقـاتـهـا، ولكننـا لمسنـا فـيـهـا أسلـوبـاً أكثـر تطـوراً مـن سـابقـاتهـا؛ مـع تـأكيـد ظـاهـرة مهمـة هـي أن هـذه الجـوانب التـي لمسنـاهـا بـدأت تـأخـذ بـالتضـاؤل شيئـاً فشيئـاً كلمـا ابتعـدنا عـن المصنفـات الأقـدم ولا سيمـا بعـد مـنتـصـف القـرن الـرابـع الهجـري حيث أن الكتب التـي عـرضت سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم ضمـن كتـب التـأريـخ العـام قـد شخصنـا فيهـا هـذا التضـاؤل، وذلك لأن المصنفيـن الـذيـن سبقـوهـم قـد استتـرفـوا الإمكـانيـات والمناهـج التـي وظفـت للكتـابـة فـي هـذا المسعـى؛ لـذا نـرى أن المتـأخـرين قـد وجـدوا الأوائـل لـم يـتـركـوا لـهـم شـيـئـاً يـقـولـونـه فـي هـذا الأمـر.
أمـا بالنسبـة إلـى مصنفـات التـأريـخ العـام التـي وصلت إلينـا والتـي لمسنـا فيهـا جـانب التكـرار والتقـليـد ومتـابعـة أنمـاط وأسـالـيـب المصنفـات التـي سبقتهـا فهـي:
1 . التأريخ العظيمي لأبي عبد الله محمد بن علي التنوخي:
خصـص العظيمـي قسمـاً مـن كتـابـه هـذا للـحـديث عـن سيـرة الـرسـول صـلـى الله عليـه وسـلّـم بـاختصـار وإيـجـاز، وهـذه السـيـرة وجـدنـاهـا تطـابـق فـي منحـاهـا العـام مـا كتبـه اليعقـوبـي عـن السيـرة فـي كتـابـه التـأريـخ حيـن أورد الطـوالـع الفلكيـة فـي الحـوادث الكبـرى والمـهـمـة فـي سـيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم مثـل حـادثـة المـولـد والمبعـث والهجـرة، ولـم يقتصـر العظيمـي عـلـى الإقـتـداء باليعقـوبـي فـقـط بـل اقـتـدى أيضـاً بالمسعـودي وابـن عـبـد الـبـر حيـن أورد ثبتـاً بـأسـمـاء المصـادر التـي اقتبـس مـنـهـا نـصـوصـه والـرواة الـذيـن اعتمـد عليهـم فـي روايـاتـهـم، أمـا المنـاحـي الأخـرى فـي إيـراد روايـات السيـرة فـقـد أتفـق فـيـهـا مـع مـسـلك مـعـظـم كـتـب التـأريـخ العـام فـي عـرض الـروايـات.
2 . الكامل فـي التأريـخ لأبي الحسن علي بـن أبي الكرم المعروف بابن الأثير الجزري (ت 630 هـ) :
كـتـب ابـن الأثيـر هـذا الكتـاب معتمـداً فـيـه عـلـى مـا كـتـبـه الـطـبـري فـي كـتـابـه التـأريـخ، وذلـك مـن بـدايـتـه إلـى حـوادث السنـة (302 هـ) (الكـامـل فـي التـأريـخ) ، إذ يبيـن هـذا الأمـر فـي مقـدمتـه التـي افتتـح بهـا كـتـابـه هـذا والـتـي مـفـادهـا: (إنـنـي قـد جـمـعـت فـي كتـابـي هـذا مـا يجتمـع فـي كتـاب واحـد … فـأبتـدأت بالتـأريـخ الكبيـر الـذي صنفـه الإمـام أبـو جعفـر الـطـبـري إذ هـو الـمـعـول عنـد الكـافـة عليـه والمـرجـوع عنـد الإختـلاف إليـه فأخـذت مـا فيـه مـن جميـع تـراجمـه ولـم أخـل بتـرجمـة واحـدة منهـا).
ومـن إجـراء الـمـقـارنـة بـيـن مـا كـتـبـه الطبـري عـن سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم (تـاريـخ الـرسـل والملـوك)، ومـا كتبـه ابـن الأثيـر فـي ذلك (الكـامـل فـي التـأريـخ)، سنجـد أن الأخيـر قـد حـذا حـذو الأول بـاستعـراضـه سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم، بـاستثنـاء اقتصـاره فـي الحـديـث علـى رفـع الـروايـات المتنـاظـرة فـي المعنـى والفحـوى كمـا أشـار إلـى ذلك فـي مقـدمة كتابه هـذا، وكـتـابـتـه الـحـوادث بـتـسـلـسـل وعـدم قـطـع الـحـادثـة لإسـتـمـرار حـصـولهـا فـي سـنـة ثـانيـة كمـا فعـل الطبـري فـي ذلك.
وفـي خـتـام عـرضـنـا لـهـذا الـكـتـاب يـتـبـيـن لـنـا أنـه كـان أشـبـه بـصـورة مـخـتـزلـة لـكـتـاب (تـأريـخ الـرسـل والملـوك للطبـري، وبـه نـنـتـهـي مـن عـرض المنـاحـي الـتـطـوريـة لكتـابـة السيـرة النبـويـة ضمـن كتـاب التـأريـخ العـام.