الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الأول: دراسة السيرة النبوية الشريفة ومزاياها وأهدافها
الفصـل الأول: التـأليـف الإنتقـائـي والعشـوائـي للسيـرة
المبحـث الثـانـي: التـأليـف فـي السيـرة عنـد التـابعيـن وتـابعيهـم
المطلـب الأول: رجـال الطبقـة الثـالثـة مـن كتَّـاب المغـازي والسيـر
الفرع الثالث: محمد بـن عمـر الـواقـدي :
هو محمد بن عمـر بن واقـد ، المشهـور بلقبه الواقـدي ، و هـو
مولى من الموالي ، قيل مولى بني هاشم ، و قيل مولى بني سهم بن أسلم
.
يعتبـر الواقـدي عند العلماء الثاني بعد ابن إسحاق في سعة
العلم بالمغازي و السير (ضحى الإسلام لأحمد
أمين) . و كان معاصره مـع صغـر سنه عنه ، فقد ولد الواقدي
بالمدينة المنورة سنة 130 هـ ، و توفي سنة 207 هـ و قيل سنة 209 هـ
ببغـداد ، و دفـن فـي مقابر الخيـزران ، حسب روايـة تلميـذه محمد
بـن سعـد ، و قـد لقي كثيراً من الشيـوخ و أخذ عنهم العلم و روى
عنهم مثـل معمر بن راشد ، و الإمام المشهور مالك بن أنس و سفيان
الثوري ، و من أشهر شيوخه في السير و المغازي و التاريخ أبو معشر
السنـدي ، الذي وصفـه الإمـام أحمد بـن حنبـل بأنه كـان بصيـراً
بالمغـازي (ضحى الإسلام لأحمد أمين) . و
قـد ألف فيها كتابـاً ذكـره ابـن النـديـم فـي الفهـرست ، اقتبس
منـه ابـن سعـد فـي كتابـه الطبقات الكبرى في الجزء الخاص بالسيرة
النبوية وكذلك الطبري . و قد استفاد الواقـدي كثيـراً من علم أبـي
معشـر خاصة في المغازي و التاريخ عندما تتلمذ عليه و هو في المدينة
(ضحى الإسلام لأحمد أمين) . عنـي الواقدي بالمغازي و السير
بخاصة ، و التاريخ الإسلامي بعامة ، و كان لا يعرف كثيراً من أمور
الجاهلية .
و قد كانت كتبه عمدة للمـؤرخين من بعـده ، و نقلـوا منها و
اقتبسوا ، و للواقدي كتاب التاريخ الكبير ، مرتب علـى السنيـن ،
اقتبـس منـه الطبـري فـي تـاريخـه كثيـراً ، و كتـاب الطبقـات ،
ذكـر فيـه الصحـابـة و التـابعيـن حسب طبقـاتهـم ، و يـظـن أن
كـاتبـه ابـن سعـد قـد تـأثـر بـه فـي طبقـاتـه ، و لـم يبق لنـا
مـن كتبه إلا كتـاب المغـازي و كـان مـن أكبـر المصـادر التـي
اعتمـد عليهـا الطبـري فـي تـاريخـه .
و قد اتصل الواقدي بالخلفاء العباسييـن ، بدءاً من هارون
الرشيد عن طريق علمه و سعة معلوماته عن الغزوات و مشـاهد رسـول
الله صلّى الله عليـه و سلـم ، فقد روي أن أميـر المؤمنيـن هارون
الرشيـد لما حجّ في أول سنة من خلافته سنة 170 هـ ، قال ليحيى بن
خالد البرمكـي : (ارتد لي رجـلاً عارفـاً بالمدينـة و المشـاهـد ،
و كيف كان نـزول جبـريـل عليه السّلام على النبي صلّى الله عليه و
سلم . و من أي وجه كان يأتيه ، و قبور الشهـداء . فسـأل يحيى بن
خالد عن العالم الذي تتوفر فيه تلك الصفات التي طلبها الخليفة
فدلـه الناس على الواقـدي ، و ذلك حسب قـولـه هـو ، فقـد قال :
(كلهم دلّه عليّ ، فبعث إليّ فأتيتـه ، و ذلك بعـد العصـر ، فقـال
لـي : يـا شيـخ ؛ إن أميـر المـؤمنيـن أعـزه الله يـريـد أن
تـصـلـي العـشـاء الآخرة فـي المسجـد ، و تمضـي معنـا إلـى هـذه
المشـاهـد ، فتـوقفنـا عليهـا ففعلـت ، و لـم أدع مـوضعـاً مـن
المـواضـع ، و لا مشهـداً مـن المشـاهد إلا مررت بهما عليه) ، و
منحاه مـالاً كثيراً و طلب إليه يحيى بن خالد البرمكـي الذي كانت
كلمته نافذة في الدولـة العباسيـة كلهـا في ذلك الوقت ، أن يصيـر
إليه في العـراق ، ففعل ، و توطـدت صلته به و أغدق عليه كثيراً من
الأموال و أخلص هو في حبه للبـرامكـة ، حتى أنه بعد نكبتهم
المشهـورة سنة 187 هـ كان كثيـر التـرحم علـى يحيـى بـن خالـد
كلمـا ذكـر اسمـه .
و رغـم صلة الواقـدي القويـة بالبـرامكـة إلا أن مكانته في
بـلاط خلفاء بني العبـاس ظلت كما هي و لم ينله ضرر بسبب تلك الصلـة
بعد نكبتهـم ، بـل ازدادت مكانتـه و ثقة الخلفـاء فيه إلى الحـد
الذي جعل المأمون يوليه القضاء في عسكر المهدي و هي المحلة
المعروفة بالرصـافـة فـي شـرق بغـداد . و كـان المأمـون كثيـر
الإكـرام لـه ، و يـداوم على رعايتـه ، و ظـل في منصب القضاء حتى
وفاته سنة 207 هـ على أرجح الأقوال .
و قـد نبغ الواقـدي في علـم المغـازي و السيـر و التاريخ
الإسـلامي بصفـة عامة ، قال عنه البغدادي : (و هو ممن طبق شـرق
الأرض و غربها ذكـره ، و لم يخف على أحد عـرف أخبار الناس أثـره ،
و سـارت الركبان بكتبه في فنون العلم ؛ من المغازي و السير و
الطبقات ، و أخبـار النبـي صلى الله عليه و سلم ، و الأحـداث التي
كانت في وقته و بعد وفاتـه صلى الله عليه و سلم ، و كتب الفقـه ، و
اختـلاف الناس في الحديث و غير ذلك) (تاريخ
بغداد للخطيب البغدادي) . و حـدث هـو عـن نفسـه فقال : (ما
أدركت رجـلاً من أبناء الصحابـة و أبنـاء الشهـداء و لا مـولـى
لهـم إلا سألتـه ، هل سمعت أحداً من أهلك يخبـرك عن مشهده و أين
قتل ؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه ، و لقد مضيت إلى
المـريسيـع فنظـرت إليهـا ، و مـا علمت غـزاة إلا مضيت إلـى
المـوضـع حتى أعاينـه) (تـاريـخ بغـداد للخطيب
البغـدادي)
.
و كان الواقـدي غزيـر الإنتـاج كثيـر التأليف حتى عد له ابن
النديـم ما يقرب من أربعين كتاباً معظمها في المغازي و السيـر و
الـتـاريـخ (تـاريـخ الفتـوح بصفـة خـاصـة) و قـال ابـن الـنـديـم
: (خـلـف الـواقـدي بـعـد وفـاتـه سـتـمـائـة قـمـطـر كـتـبـاً ،
كـل قـمـطـر مـنـها حمـل رجليـن ، و كـان له غلامـان مملوكـان ،
يكتبان الليل و النهار ، و قبل ذلك بيع له كتب بألفي دينار)
(الفهرست لابن النديم) .
و كانت كتب الواقـدي مصـدراً أصيـلاً لكـل المـؤرخيـن الذيـن
جـاءوا بعده فما من مـؤرخ إلا و اقتبس مـن كتبـه ، مثـل اقتباسـات
الطبـري مـن كتـاب التاريـخ الكبيـر . و لكنـه لسـوء الحـظ ضاعـت
معظـم هـذه الثـروة العلميـة التـي خلفهـا الـواقـدي و لـم يبـق
مـن كتبه إلا عـدد قليل ، منهـا كتاب فتـوح الشـام ، و كتابه في
السيـرة النبويـة و قـد أسمـاه (المغـازي) ، و قـد قـام بتحقيق هذا
الكتاب المستشـرق مارسـدن جـونـس ، و نشـره في ثلاثـة مجلـدات .
فهـو مصـدر أسـاس في السيـرة النبـويـة ، و قـد تحدث الـواقـدي فـي
كتابه هذا عن غزوات الـرسـول و سـراياه ، حيث ذكـر تاريـخ معظـم
الغـزوات و السرايا ، و اسـم قـائـدهـا ، و الـوجهـة التي ذهبت
إليهـا ، و ذكر ذلك بقوله في كتـابـه : (فكـانت مغازي النبـي صلى
الله عليـه و سلم التـي غــزاها بنفسه سبعـاً و عشـرين غزوة ، و
قاتل في تسع ثم ساقها ، و كانت السرايا سبعـاً و أربعيـن سـريـة) ،
و قد ذكـر فـي أول مـؤلفـه هـذا شيـوخـه الـذيـن أخـذ عنهـم علـم
المغـازي فـأوصلهـم إلـى خمسـة و عشـريـن شيخـاً ، و معظمهـم مـن
أهـل المدينـة .
أمـا منهجـه في كتـابه ، فإنـه (يذكـر أحيـانـاً الأسانيـد
مجمـوعـة فـي أول كـل غـزوة أو سرية ، و أحياناً لا يذكرها
اعتمـاداً على ما ذكره في أول الكتاب ، و يكتفي بقوله : قالوا)
(منهج كتابة التاريخ الإسلامي لمحمد بن صامل السلمي) ، و من
منهجـه أيضاً عنايته و اهتمامه (بالضبط التاريخي للوقائع و
الغـزوات ، كما أنه يعتني بذكر الرجـال الذين لهم إسهامات معينة في
الغزوة من إنفاق و بذل ، أو مشورة و رأي ، أو موقف بطولي ، و يذكر
الأسرى ، و الشهداء من المسلمين ، و القتلى من الكفار .
و مغـازي الواقـدي أكثـر إخبـاراً عن سيـرة النبـي صلى الله
عليه و سلم في المدينـة ، و هو أميل في أخباره إلى الفقه و الحديث
مـن ابـن إسحـاق ، و هـو أحياناً يرجـع إلى مادة علميـة مكتوبـة
فـي صحف رآها و اعتمد عليها . فقد قال تلميـذه و كاتبه ابن سعـد :
(قال الواقـدي حدثنـي عبـد الله بن جعفـر الزهـري قـال : وجـدت في
كتاب أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور …) و قال محمد بن عمر
الواقدي نسخت كتاب أهل أذرح فإذا فيه .. إلخ . و يمتـاز عمـن سبقـه
بالدقـة فـي تعييـن تاريخ الحوادث (ضحى الإسلام
لأحمد أمين) . و مـن المـآخذ التـي أخـذها العلمـاء علـى
الواقـدي أن صلتـه بالخلفـاء العباسييـن قد أثرت في أمانته العلمية
، فأعرض عن ذكر الأحداث التي تغضبهم ، أو لا يرضون عنها ، و مـن
أمثلة ذلك حـذف اسـم العبـاس بـن عبـد المطلب عـم النبي صلى الله
عليه و سلم من جملة أسماء الذين شاركوا في معركة بدر من مشركي مكة
، و وقعوا أسرى في يد المسلمين .
و قـد اختلف علمـاء الحـديث حـول الواقـدي اختـلافـاً كبيـراً
، بين معدِّل له و بين مجرِّح ، و قد حكى الخطيب البغدادي أقوالهم
على اختلافها (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي)
، و يـروى أنـه اختلط (أصابته غفلة و نسيـان و سـوء حفظ) في آخـر
عمـره ، قال فيه علي بن محمد المدينـي : (عند الواقدي عشرون ألف
حديث لم يسمع بها) . و قال عنه يحيى بن معين : (أغرب الواقدي على
رسول الله صلـى الله عليه و سلم عشـرين ألف حديث ، و قـال فيه
البخـاري : (منكر الحديث) و قال ابن كثير : (الواقدي عنده زيادات
حسنة ، و تاريخ محرر غالبـاً ؛ فإنه مـن أئمة هذا الشأن الكبار ، و
هو صدوق في نفسه مكثار) (البداية و النهاية لإبن
كثير) ، و قـال عنـه ابـن سيـد النـاس : (إن سعـة العلـم
مظنـة لكثـرة الإغـراب ، و كثـرة الإغـراب مظنـة للتهمـة ، و
الواقـدي غير مدفوع عن سعة العلم ، فكثرت غرائبه)
(عيون الأثـر في فنون المغازي و الشمائل و السير لأبو الفتح محمد
ابن سيد الناس) ، و لكنه لا أحد يطعن في سعـة علمـه
بالمغـازي ، فقد قـال فيـه الإمـام أحمـد بن حنبـل : (إنه بصير
بالمغازي) على حين قـال فيه أيضـاً : (الواقدي يركب الأسانيد) (أي
يضع للمرويات أسانيـد قويـة بـدل الضعيفة) و قال عنه الذهبي : (و
جمع فأوعى و خَلَطَ الغَثَّ بالسَّمين ، والخرز بالدر الثمين ،
فاطَّـرحوه لذلك ، و مـع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي و أيام
الصحابة و أخبارهم) و قال أيضاً : (و قد تقـرر أن الواقـدي ضعيف ،
يحتاج إليه في الغزوات ، و التاريخ ، و نـورد آثاره مـن غير
احتجـاج ، أما في الفـرائض فلا ينبغي أن يذكر ، فهذه الكتب الستة ،
و مسنـد أحمد ، و عامـة من جمع في الأحكام ، نراهم يترخصون في
إخراج أحاديث أناس ضعفاء ، بل و متـروكين ، و مـع هـذا لا يخرجون
لمحمد بن عمر شيئا ، مع أن وزنه عندي أنه مع ضعفه يكتب حديثه ، و
يـروى ، لأني لا أتهمـه بالـوضـع ، و قـول مـن أهـدره فـيـه
مجـازفـة مـن بعض الـوجـوه ، كمـا أنـه لا عبـرة بتـوثيق مـن وثقـه
، كيـزيـد ، و أبـي عبيـد ، و الصـاغـانـي ، و الحـربي ، و معن ، و
تمام عشرة محدثين ، إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة
وأن حديثه في عداد الواهي) (سير أعلام النبلاء
للذهبي) ؛ أما الإمـام مالك بن أنـس فكان يثق في رواياته ،
و كذلك كان يثق في الواقدي من فقهاء الحنفية : محمد بن الحسـن
الشيباني ، بل لقبه بأمير المؤمنيـن في الحديث ، و ذلك قبل أن يصبح
هذا اللقب مقصوراً على الإمام البخاري فيما بعد . و وثق به من
فقهاء الشافعية القاسم بن سلام .
و الظاهـر أن مطـاعـن المحدثيـن عليـه كمطـاعنهـم علـى غيـره
مـن كتـاب المغـازي و السيـر ؛ لاختـلاف المنهـج بيـن الطائفتين .
فهو لم يكن يتقيـد بمـذهبهـم مـن ناحتيـن :
الأولـى : أنـه كـان يأخـذ مـن الصحف ، و يعتمـد علـى الكتب ،
و ثقات المحدثيـن كانـوا يكـرهـون تلك الطريقـة أشـد الكراهيـة ، و
يـرون أنـه لا يصح للمحـدث أن يحـدث بحـديث إلا إذا كـان قـد سمعـه
بأذنـه ممـن روى عنـه .
الثانيـة : أنـه كـان يجمـع الأسانيـد المختلفـة و يجـيء
بالمتـن واحـداً ، مـع أن جـزءاً مـن المتـن لبعض الـرواة ، و
جـزءاً آخر لرواة آخرين ، و كان المحدثون يعدون هذا عيبـاً ، و قـد
عابـوا ذلك على الزهـري و تلميـذه ابـن إسحـاق مـن قبـل .
و كان عـذر الواقـدي لاستعمالـه تلك الطريقـة ، أنه لو أفرد
كل حديث بسنده لطال الأمر جدًّا ، فقد روي أنه لما طالبه تلاميـذه
بإفراد كل حديث بسنده ، أراد أن يبرهن لهم على سلامة منهجه ،
فجاءهم بالأحاديث الخاصة بغـزوة أحد باتباع إفـراد كل حديث بسنده
فاستكثـروا ذلك ؛ و قالوا : ردنا إلى الأمر الأول
(تاريخ بغداد للخطيب البغدادي و ضحى الإسلام لأحمد أمين) .
و الخـلاصـة ، أنـه مهمـا كـان مـن أمـر اختـلاف العلمـاء
حـول الواقـدي ، و الناس لا يختلفـون عـادة إلا على الأشيـاء
الكبيـرة ، فقـد كـان واسـع العلـم بالمغـازي و السيـر ، كمـا كـان
عالمـاً بالفقه و الحديث و التفسيـر ، و كان من أكبر المصادر التي
عول عليها و اعتمـدها كبـار المؤرخيـن ، خاصـة الطبـري . و قـد سبق
أن ابـن النديـم عدّ للواقدي ما يقرب من أربعين كتاباً في مختلف
العلوم الإسلامية ، أشهرها في السير و المغازي ، و الفتوح ، كفتوح
الشام ، و فتوح العراق .