مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة وتأريخها
الفصل الثاني : كتابة السيرة الشاملة والمستقلة و تطورها :
المبحث الثالث : السيرة النبوية المدمجة ضمن المصنفات التأريخية :
المطلب الأول : السيرة النبوية المدمجة ضمن كتب التأريخ العام :
الفرع الثاني : المصنفات التي وصلت إلينا في التأريخ العام :
أهم المصنفات التي وصلت إلينا في التأريخ العام هي :
1. كتاب التأريخ لخليفة بن خياط العصفري (ت 240 هـ) :
ولـد هـذا المـؤرخ و نشـأ فـي البصـرة مـن بيت علـم و تتلمـذ
على العديـد مـن علماء عصـره و نـال مكـانة سـاميـة فـي نـفـوس
الـعـلـمـاء و الـنـاس و أصـبـح محـل ثقتهـم ، إذ تضلـع فـي
الحـديث و بـرع فـي التـواريـخ و أيـام النـاس و أنسـابهـم ، و
لأجـل ذلك كـانت مصنفـاتـه مـحـل تقـديـر و إعـجـاب مـن اطلـع
عليهـا (وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزمان
لشمس الدين ابن خلكان – تذكرة الحفـاظ لشمس الدين بن عثمان الذهبي
– تهذيب التهذيب لشهاب الدين بن حجر العسقلاني) .
صنف ابـن خيـاط كتـابـاً فـي التـأريخ العـام عـدّه بعض
البـاحثين من أقـدم الكتب التـي وصلت إلينا فـي هذا الجانب
(مقدمة تحقيق كتاب التأريخ لإبن خياط لصالح
العلي) .
خصص ابـن خيـاط فـي كتـابه هـذا حيزاً كبيراً لسيرة الرسول
صلى الله عليه و سلّم و أحواله مقارنة بحجم الكتاب البسيط و
أوراقـه اليسيـرة التي تحدثت عن الحـوادث التي تلت السيـرة إلـى
عصـر المـؤلف .
أسهمت هـذه السيرة التي حواها هذا الكتاب في تطور كتابة
السيـرة النبـوية ضمن كتب التأريخ العام و باقي المصنفات التـي
خصصت للسيـرة سـواء أكانت مستقلة أم مدمجة و هـذه الجـوانب هـي :
1 . عـدّ سيـرة الـرسـول صلى الله عليه و سلّم البداية التي
افتتح بها كتابه ، إذ لم يسلط الضوء على الحقبة التأريخية التي
شبقت عصـر الـرسـالـة المتمثلـة بتـأريـخ الأنبيـاء و أخبار
الأقـوام البائـدة و أيام العرب و أنساب قبائلهم ، كما فعلت
المصادر التي شاطرته المنحى و الموضوع .
و هـذا المنحى مـن قبل ابـن خيـاط يثيـر الإستغـراب و التساؤل
عـن السبب الـذي أدى بـه إلـى إغفـال هـذه الأمـور ؛ إذا ما علمنـا
أن الـمـصـادر التـي تـرجمت حيـاتـه ذكـرت تضلعـه الـواسـع فـي
أيـام النـاس و أنسـابهـم ، و قـد انبـرى أحـد البـاحثيـن لتبيـان
وجهـة نـظـره حـول السبب الـذي مـن أجلـه عـزف ابـن خيـاط عـن ذكـر
الحقب التـأريخيـة التي سبقت عصـر الـرسـالـة ؛ إذ أشـار إلـى أن
ابـن خيـاط كان مـدركـاً للـهـدف الـذي أراد منـه كتـابـة تأريخـه
، و ذلك بجعلـه البـدء بسيـرة رسـول الله صلـى الله عليـه و سلّـم
بـدايـة التـأريـخ العـربـي أو مـن تـأريـخ هجـرتـه صلـى الله
عليـه و سلّـم إلـى المـدينـة (إسهامات مـؤرخـي
البصـرة في الكتـابة التأريخية لنـاجي عبد الجبـار)
.
2 . إتباع المنهج الحولـي فـي إيـراد حـوادث السيـرة ، و ذلك
حيـن أورد تلك الحـوادث بحسب أسبقيتها التأريخيـة ، و لكن هـذا
المنهـج قـد علقـه جـانبـاً عنـد حـديثـه عـن عمـر الـرسـول صلى
الله عليـه و سلّـم الشـريـف ، و عنـد حـديثـه أيضـاً عـن عمـالـه
و رسلـه و كتابـه ، و كـانت الغـايـة مـن تعليقه لهذا المنهج عنـد
ذكـره لهـذه المـواضيع هو أنها لا تصلح بالإيراد على وفق الحوليات
بطبيعتها المستقلة في العـرض .
لم يقتصـر فـي عـرضـه الحـوادث التـي حصلت فـي السنـوات التـي
شملت حـيـاة الـرسـول مـن هجـرتـه المبـاركـة إلـى المدينـة حتـى
وفـاتـه بـل تعـدى ذلك إلـى إيـراد بعـض الحـوادث التـي حصلت فـي
بـلاد فـارس و التـي حـدثت فـي سنـوات السيـرة نفسهـا .
و هذا مما يدل على أن ابـن خيـاط لـم يقتصـر بحـديثـه على
تأريخ المسلمين و الحـوادث التي جـرت في بـلاده بل خـرج مـن هـذه
الدائـرة إلى التعـرض لحـوادث حصلت في أقاليم مجـاورة فـي بـلاد
الإسـلام فـي تلك المـدة .
كان إتباع ابن خياط لهذا المنهج بهـذه الوتيـرة لكـل حـوادث
التأريخ الإسـلامي ابتـداء مـن سيـرة الرسـول و انتهاء بحـوادث
عصـره ، لـم يكن وليد الساعة بل هـو نتيجة لتجـارب مسبقة مـن هـذا
النمط بالكتابة التأريخيـة .
3 . إيراد أسماء بعض الأعـلام الذين ولـدوا أو تـوفـوا في بعض
السنـوات التي تعرض لحـوادثها ، و هذا الأمر يعد فاتحة لمـن أتى
بعـده مـن الذيـن اهتمـوا بإيـراد أسمـاء الوفيـات في حـوادث كل
سنة تعـرضـوا لذكـر حـوادثهـا .
4 . التوفيـق بيـن مـا إنتهجـه المحدثـون و الإخباريـون فـي
عـرض الحـوادث التأريخيـة ، و ذلك أنـه يسند الخبر إذا تعلق الأمـر
بحادثـة اختلفت فيها الروايات ، علمـاً أنه يستـرسل في ذكـر بعضها
مـن دون الإشـارة إلى مـن ذكـر هـذه الحادثة من الرواة و المصنفين
، إتكـالاً منـه على إيـراده مصـادره المكتـوبـة و المسمـوعة
أثنـاء حديثـه .
و هـذا التوفيـق بين هذيـن المنهجين نابـع مـن كونه محدثـاً
لـه مكانتـه بيـن المحدثيـن (تذكرة الحفـاظ لشمس
الدين بن عثمان الذهبـي) ، و مـؤرخاً لـه البـاع الطـويـل
فـي أيـام النـاس و أنسـابهـم (اللباب في تهذيب
الأنساب لابن الأثير) .
شكل هـذا المنحى الـذي نحـاه خليفـة بـن خيـاط و الذيـن
سـاروا علـى منـوالـه مـن معـاصـريـه مـرحلة انتقالية في الكتابة
التأريخيـة تمثلت بوضع الأسس و الثوابت الأولى لهـا ، و لا سيمـا
فـي طريقـة عـرض الخبـر التأريخي و الطـرائق التي يعرف بها الناس ،
و ذلك لعدم وجود مثل هذه الأمور على هذه الكيفية في المدونات
السابقة له .
5 . عـزف ابن خياط عن إيـراد معجـزات الرسـول صلى الله عليه و
سلّم ، و دلائل نبـوته أو التعـرض لها ضمن الحوادث التي حصلت فيها
و لم يقتصـر هـذا العـزوف على هـذا الجانب فقط بـل تعـداه إلى
إغفـال شمـائلـه و صفـاتـه التي اتصف بها صلى الله عليه و سلّم في
الحـوادث التي ذكـرها عـن عصـر الرسالة و أثـر شخصيـة الـرسـول
صلـى الله عليـه و سلّـم فيهـا ، علماً أن معاصـراً له و هـو ابن
سعد قد أشبع هذه الجوانب حديثاً حتى ألفت حيـزاً كبيـراً مـن القسم
الـذي خصصه لسيـرة الرسـول صلى الله عليه و سلّم في كتابه الطبقـات
الكبـرى .
و يبـدو أن سبب عـزوف ابن خياط عن تعـرضه لمعـاجـز الرسـول
صلى الله عليه و سلّم و دلائـل نبـوته و شمـائلـه نابـع من كـون
كتابه التأريخ يهتم بإيـراد حـوادث تأريخية على وفق سبقها الزمنـي
ابتـداء مـن هجـرة الرسـول إلى رحيله إلى الرفيـق الأعلى مـع
الإشـارة إلى أن هـذه الأمـور (دلائـل النبـوة و عـلاماتها و
الشمـائل و الأخـلاق) هـي أمـور معنـوية و التـوثيق التأريخي لها
على وفـق الحـوليات أمـر يحتـاج إلى وقفة لعـدم دقـة المعلـومـات
التي وصلت إلى المـؤلف عـن وقت حصـول المعجـزة أو دلائـل النبـوة
مـع بيان أن هذه الأمور قد حصل بعضها قبل الرسالة و هـو جانب قـد
اختصـر فيـه ابـن خيـاط .
فلـو أن ابـن خياط اشفع سيـرة الرسـول صلى الله عليه و سلّم
التـي أوردهـا فـي كتابـه بهـذه الأمـور لكـان مـن الحجـم و السعـة
مـا فـاق بـه حجمـه الحـالـي كثيـراً ، و لكـان هناك فارق و تباين
ظاهـر بين نسق الكتاب الذي تم اختـزال الحـوادث فيه و الحيز الذي
خصص للحـديث عـن سيـرة الرسـول صلى الله عليه و سلّم ، مـع العلم
أن ابـن خيـاط كـان يـرمي إلى ضغط و اختـزال المعلـومات التي
يثبتهـا في مصنفـاتـه ، و هـذا مـا أشـار إليه أحـد البـاحثيـن أن
خليفـة أراد تقديـم مصنف يشمـل استعـراضاً لحـوادث التأريخ
الإسلامي على وفق تتابع السنوات ابتداء من هجرة الرسول صلى الله
عليه و سلّم إلى المدينة حتى سنة تصنيفه الكتاب بأسلوب مبسط و
مختزل لتفاصيل الحوادث التي يعرضها فيه .
هـذه هـي الجـوانب التي اضفاها خليفة بـن خياط علـى كتابـه
السيـرة النبـوية ضمـن كتب التأريخ العـام .
و قبـل نهايـة الحـديث عـن دور ابن خيـاط في تطـور كتابـة
السيـرة ، تجب الإشـارة إلى أن المـؤرخين الذيـن كتبـوا عـن سيـرة
الـرسـول صلى الله عليه و سلّم بمختلف طـرائق كتـابتهـا قـد
أغفلـوا المعلـومـات التـي أوردهـا ابن خيـاط عـن السيـرة إذ لم
يعتمدوا عليه في كتبهم أو سـلاسـل إسناد الروايات التي تخص السيـرة
؛ و هـذا الأمـر راجـع إلى طبيعة الكتـاب في استعـراض الحـوادث
مـوجـزة و مقتضبة مـن جانب ، و اتكـالـه على سيـرة ابـن إسحـاق
حيـن يثبت معظـم حـوادث السيـرة مـن جـانب آخـر ؛ و هـذان الأمـران
قـد ولـدا عـزوفـاً عنـد مـن أتـى بعـد ابـن خيـاط مـن المـؤرخيـن
الـذيـن لـم يلمسـوا فـي كتـابـه إضـافـة نـوعيـة فـي حـوادث لـم
يكـن لـه فيها فضـل سـوى نقلهـا مـن كتـاب متـوافـر بيـن أيـديهـم
آنـذاك ، و بطـرائـق كثيـرة .