الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الثاني: تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة وتأريخها
الفصل الثاني: كتابة السيرة الشاملة والمستقلة وتطورها
المبحث الثالث: السيرة النبوية المدمجة ضمن المصنفات التأريخية
المطلب الأول: السيرة النبوية المدمجة ضمن كتب التأريخ العام:
الفرع الأول: مدخل:
أرسـى المسلمـون فـي مـطـلـع القـرن الثـالـث الهجـري الأسـس والثـوابـت الأولـى للكتـابـة التـأريخيـة المنسقـة والمـرتبـة الخـاضـعـة لمنهـج دقيـق (دراسات في حضارة الإسلام لجب هاملتون). كـانـت الـسـيـرة النبـويـة إحـدى الفقـرات التـي شملتهـا الكتـابـة التـأريخيـة، إذ تـشـعـبـت الـمـحـاور التـي دخلت فيهـا السيـرة النبـويـة ضـمـن المصنفـات التـي شملهـا هـذا التطـور، إذ لـم يقتصـر الـمـهـتـمـون بـكـتـابـة السيـرة علـى إفـراد مصنفـات مستقلـة لهـا فحسـب، بـل حـاولـوا إدخـالـهـا فـي مصنفـات أعـم وأشـمـل مـن جعلهـا فـي مصنـف مـسـتـقـل. يـشـعـر القـارئ لـهـذه المصنفـات بأن السيـرة النبـويـة تتسـم بالإنعـزاليـة والإجـتـزاء عـن بـاقـي الحـوادث التـأريـخـيـة سـواء التـي سبقتهـا أم التـي لـحـقـتـهـا هـذا مـن جـانـب، ومـن جـانـب آخـر حـاول بـعـض هـؤلاء المهتميـن بسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم جعلهـا القـدوة والمثـال لبـاقـي الشخصيـات التـي سـارت ضمـن فلكهـا فضـلاً عـن كـون هـذه الشخصيـة الأسـاس أو المنهـل الـذي نهلت منـه بـاقـي الشخصيـات وبنـت عليـه أسسهـا سـواء أكـانـوا خلفـاء أم علمـاء أسهمـوا فـي إكـمـال رسـالـة الإسـلام، فكـانت سيـرة الـرسـول صلى الله عليه وسلّم حـافـزاً للمصنفيـن الـذيـن كتبـوا فـي هـذه الجـوانـب (بحـث فـي نشـأة علـم التـأريـخ عنـد العـرب لعبـد العـزيـز الـدوري)، إن دل هـذا الأمـر عـلـى شـيء إنـمـا يـدل عـلـى عـدّ حـيـاة الرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم مـرحلـة انتقـاليـة أو حقبـة حضـاريـة وّلـدت نـوعـاً مـن الشعـور الجمـاعـي لـدى المسلميـن بعـامـة، والعـرب بخـاصـة إلـى عـد أنفسهـم أمـة واحـدة لهـا تـأريـخ مـشـتـرك، فضـلاً عـن عـدّ مـرحلـة الـدعـوة الإسلاميـة النقلـة النـوعيـة لهـم بعـد مـا كـانـوا قبـل ذلك أقـوامـاً وقبـائـل شتـى ينتمـي كـل فـرد منهـم بـولائـه إلـى قـومـه وقبيلتـه (التـأريـخ العـربـي ومصـادره لأميـن المـدنـي).
ولأجـل هـذا كلـه تنـوعـت الإتـجـاهـات الـتـي أدخـل الـمـؤرخـون فـيـهـا سـيـرة الـرسـول صـلـى الله عـلـيـه وسلّـم ضـمـن مصنفـاتهـم، فـضـلاً عـن جـعـلـهـا ضـرورة لازمـة عـنـد معظمهـم، وهـذا يـعـدّ تطـوراً مـلـحـوظـاً وجـوهـريـاً فـي كتـابـة السيـرة، ولـم يقتصـر هـذا الأمـر عـلـى ذلك فحـسـب، بـل تـعـداه إلـى الإسـهـام فـي تـطـور كـتـابـة الـسـيـرة ضـمـن هـذه المصنفـات وتـأثـيـرهـا فـي بـاقـي المصنفـات الأخـرى الـمـخـالفـة لـهـا فـي الأسـلـوب والمنهـج وطـريـقـة العـرض، حـيـث تطـورت كتـابـة السيـرة لأجـل ذلك تطـوريـن: تطـور أفقـي شمـل إدخـال الـسـيـرة ضـمـن مصنفـات جـامـعـة وغيـر مقتصـرة على جـانب واحـد، وتطـور عمـودي باستعمـال المنـاهـج والمنـاحـي التـي اتبعهـا المـؤرخـون فـي هـذه المصنفـات، وجـعـل سـيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم ضمـن المحـاور التـي شملتهـا تلك المنـاهـج والمنـاحـي.
تشمـل كـتـب السيـرة النبـويـة المـدمجـة ضمـن كـتـب التـأريـخ العـام المصنفـات التـي تعنـى بـتـأريـخ العـرب وغـيـر العـرب مـن الأمـم والشعـوب والتـي يصـح أن يطلق عليهـا (كتب تأريخ العالم)، وذلك لأنهـا تتنـاول فـي بـداية حديثهـا أخبـار الخليقـة والأنـبـيـاء والأمـم السـالـفـة، ثـم الإنـعـطـاف بعـد ذلـك بالحـديـث عـن أحـوال العـرب والـدول الـمـجـاورة لـهـم قبيـل الإسـلام، جـاعلـة هـذه المصنفـات حـديثهـا هـذا عـن أحـوال هـذه الأقـوام والـشـعـوب مـقـدمـة لـتـأريـخ الإسـلام، إذ تنعطـف بعـد ذلك للحـديث عـن أحـوال الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم وبـدء الـدعـوة الإسـلاميـة ومـا تبعهـا مـن حـوادث والإنتهـاء بالـحـديـث إلـى ذكـر حـادثـة هجـرة الـرسـول صلـى الله عليه وسلّـم إلـى المـديـنـة، عـادة تلـك الحـادثـة حـداً فـاصـلاً بـيـن حـقـبـتـيـن حضـاريتيـن، لتختـص تلك المصنفـات بعـد ذلك بالـحـديـث عـن الـحـولـيـات الإسـلامـيـة ومـا جـرى فيهـا مـن حـوادث.
وقـد اتخـذ كتـاب التـأريـخ العـام فـي تـوثيقهـم لحـوادث التـاريـخ الإسـلامـي منهجيـن:
الأول : مـنـهـج حـولـي يعتمـد عـلـى إيـراد حـوادث كـل سـنـة عـلـى حـدة وإن تجـزأ الحـدث الـمـتـداخـل بـيـن السنـوات.
الثاني : منهـج مـوضـوعـي يـعـتـمـد علـى إيـراد الـحـوادث متسلسلـة ولـكـن عـلـى وفـق الـمـوضـوعـات وليـس السنـوات، وذلك بجعلهـم المـوضـوع عنـوانـاً والسنـوات أو الحـوادث التـابعـة لـه متنـاً.
هـذه هـي اتجـاهـات كتـابـة التـأريـخ العـام، والمنـاهـج التـي كتـب فيـهـا عـنـد المـؤرخـيـن المسلميـن، إذ كـانـت وراء هـذا المنحـى الكتـابـي أسبـاب عـديـدة مـن بينهـا: نشـاط حـركـة التنقـل بيـن الأقـاليـم والأمـصـار الإسـلامـيـة، الأمـر الـذي أدى إلـى إنـعـاش الـفـكـرة العـالميـة، وتـوسـع دائـرة اهتمـام بعـض العلمـاء والمـؤرخيـن فلـم يقتصـر اهتمـامـهـم علـى دراسـة حـادثـة أو شـخـص أو عشيـرة أو مـدينـة بـل حـوت دراسـاتهتم العـالـم الإسـلامـي كلـه، ومـن البـديـهـي أن تـكـون هـذه النظـرة العـالميـة شـاملـة عنـد المهتميـن بـدراسـة الإسـلام وعلـومـه، نـظـراً لأنـه ديـن عـالـمـي بطبيعتـه وواسـع الإنتشـار بـواقـعـه، فأنتجـت عقليـة هـؤلاء المسلميـن تـلـك التـواريخ العـالميـة الأولـى (عـلـم التـأريـخ عنـد المسلميـن لفـرانتـز روز نثـال)، ووجـد بـاحـث آخـر بـعـد أن عـرض مـرحـلـة التغييـر الـجـذري فـي التصنيف عنـد العلمـاء المسلميـن فـي القـرن الثـالـث الهجـري، أنـه قـد حـدث فـي هـذا القـرن تطـور كبيـر فـي الكتـابـة التـأريخيـة حـيـث ظهـر المـؤرخـون الكبـار الـذيـن أفـادوا كثيـراً مـن كـتـب الأخبـار، فأعـادوا تنظيـم مـادتهـا وترتيبهـا فـي مصنفـات كبيـرة سميـت بكتـب التـأريـخ، وقـد تميـزت بشمـولهـا لأحـداث الـدولـة الإسـلاميـة مـن دون الإقتصـار علـى أقـاليـم بعينهـا كمـا تميـز معظمهـا باتبـاع نظـام الحـوليـات (التـأريـخ العـربـي و المـؤرخـون لمصطفـى شـاكـر).
يبيـن لنـا هـذا الكـلام الـواقـع الـذي فـرض علـى المـؤرخ الإسـلامـي بـأن يـأخـذ فـي نظـر الإعتبـار تسليـط الضـوء علـى أرجـاء المعمـورة التـي وصلـت إليهـا رايـة الإسـلام؛ ولكـن بـاحثـاً آخـر بيـن أن هـذه العمليـة (كتـابـة التـأريـخ العـالمـي) هـي وليـدة حـالـة سـابـقـة لـهـا أو متمخضـة عنهـا، إذ يقـول : (إن مجـرد فكـرة التنظيـم علـى السنيـن، ونقـل المـادة التـأريخيـة يتطلـب وجـود حـركـة تـرجـمـة أو عـلـى الأقـل تـوفـر مـجـال لـعـلـمـاء المسلميـن بالـظـفـر بمعـرفـة واسعـة بالكـتـب التـأريخيـة الأجنبيـة) (علـم التـأريـخ عنـد المسلميـن لفـرانتـز روز نثـال).
يعطينـا هـذا الـرأي الـسـبـب وراء تـأخـر ظـهـور مثـل هـذه الكتـب إلـى القـرن الثـالـث الهجـري لأن أول تـرجمـة منظمـة للمعـارف الإنسـانيـة مـن الأمـم الأخـرى قـد حصلـت فـي عـصـر المـأمـون (198 – 218 هـ) بعـد جهـود منفـردة كـانـت تتسـم بالتـذبـذب وعـدم الإنـتـظـام، واقـتـصـرت هـذه الـجـهـود علـى جـوانـب محـددة تبنـاهـا بعـض الخلفـاء الأمـوييـن ومـن ثـم العبـاسييـن وأولادهـم، ولكـن تـلـك الجهـود لـم تبلـغ الشـأن الـذي وصلتـه فـي عصـر المـأمـون (حركة الترجمة في المشرق الإسلامي لرشيد الجميلي).
بعـد هـذا العـرض المـوجـز عـن كتـابـة التـأريـخ العـام عنـد المـؤرخيـن المسلميـن والمنـاهـج المعمـول بهـا، نـرى أن هـذا النـوع مـن الكتـابـة التـأريخيـة قـد أعطـاه المسلمـون مـن الأهميـة شيئـاً كثيـراً؛ إذ تـوضـح لنـا الـفـهـارس التـي ذكـرت أسمـاء هـذه الكتـب سـواء أكـانـت مختصـرة أم مفصلـة أنهـا مـن الكثـرة بحيـث يتعـذر علينـا إيـرادهـا كلهـا (الإعـلان بالتـوبيـخ لمـن ذم التـاريـخ لشمـس الـديـن السخـاوي)، وذلـك لأن مـا طـبـع منهـا لا يغطـي هـذه القـوائـم كلهـا، وأمـا مـا بـقـي منهـا مخطـوطـاً فهـو مـن النـدرة بـمـكـان بـحـيـث لا نستطيـع الـوصـول إليـه ولا سيمـا فـي الظـروف الـراهنـة، وإن وصـل بعضهـا إلـى أيـدينـا فـلا يكـون بعـدد مـا فقـد مـن تـراثنـا الفكـري.
وجـدت السيـرة النبـوية فـي خضـم هـذه الكتـب مكـانـاً عظيمـاً لهـا، فكـانـت تشغـل فـي معظمهـا حيـزاً متبـاينـاً؛ فـتـارة تكـون مفصلـة وأخـرى مختصـرة وثـالـثـة متنـاسبـة طـرديـاً مـع حجـم الكتـاب الـذي دخلـت فيـه، فحيـن يكـون الكتـاب مختصـراً فمـن دون شـك تكـون السيـرة مقتضبـة ومـوجـزة والعكـس صحيـح أيضـاً.
وقبـل ذكـر بعض هـذه المصنفـات ودورهـا فـي كتـابـة السيـرة، نـؤكـد أن كـل مصنّـف مـن مصنفـي هـذه الكتـب قـد نحـا فـي مصنفـه منحـاً مغـايـراً لسـابقيـه، أو مشـابـهـاً لهـم فـي مكـان ومختلفـاً معهـم فـي مكـان آخـر. وأتخـذ منهجـاً مـوحـداً فـي عـرض حـوادثـه، لـذا فـإن كـل مـلاحـظـة نسجلهـا لـكـل مصنّـف مـن هـذه المصنفـات علـى أنهـا جـوانـب تطـوريـة بكتـابـة السيـرة ضمـن كتـب التـأريـخ العـام هـي مـلاحظـة تشمـل بـاقـي أقسـام الكتـاب؛ ولكـن الجانـب المهـم فـي المـوضـوع هـو التقـاط هـذه المـلاحـظـات التـي هـي جـوانـب تطـوريـة وتـوضيـح لتـأثـر بـاقـي مـصـنـفـات المـؤرخيـن سـواء أكـانـت كـتـب تـأريـخ عـام أم غيـرهـا بكـل مصنـف مـن المصنفـات التـي سبقتهـا عنـد عـرضهـم سيـرة الـرسـول الأكـرم صلـى الله عليـه وسلّـم كمـا سنـلاحـظ.