عـاصـم بـن عمـر بـن قتـادة بـن النعمـان الأنصـاري

الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الأول: دراسة السيرة النبوية الشريفة ومزاياها وأهدافها
الفصـل الأول: التـأليـف الإنتقـائـي والعشـوائـي للسيـرة
المبحـث الثـانـي: التـأليـف فـي السيـرة عنـد التـابعيـن وتـابعيهـم
المطلـب الثـانـي: رجـال الطبقـة الثـانيـة مـن كتـاب المغـازي والسيـر

3 – عـاصـم بـن عمـر بـن قتـادة بـن النعمـان الأنصـاري:

     هـو عـاصـم بـن عمـر بن قتـادة
بن النعمـان بن زيد بن عـامـر ، من بني ظفر من الأوس ، أبو عمر
المدني ، من أسرة مدنية عريقة من الأنصار ، كانت من السابقين
للإسلام ، و كان جَدُّه قتادةُ بن النعمان مـن صحـابة رسـول الله
صلى الله عليه و سلم و قد شهد بـدراً و أحـداً و المشـاهد ، و
أصيبت عينه يـوم أحـد ، فسقطت على وجنته ، فردها رسول الله صلّى
الله عليه و سلّم ، فعـادت أحسـن عينيـه و أحـدّهمـا ، فهـو من
طـلائـع المسلميـن في المـدينة ، و كـان والده عمرو بن قتادة من
رواة الحديث ، و لم يتقلد منصباً رسمياً ، و لم يكن من الموسرين
(السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام)
.

     و لـم نقف علـى سنـة ولادة عاصـم بـن عمـر ، الـذي نشأ في
المدينة و أخـذ عـن مشاهير علمائها من الصحابة مثل جـابـر بـن عبد
الله ، و محمود بن لبيد ، و جدته رُمَيثــَة و لها صحبة ، و أنس و
الحسن بن محمد بن الحنفية و علي بن الحسن و غيرهم .

     وثَّقَـهُ كثيـر مـن العلمـاء ، قـال ابـن سعـد : (كـان ثقـة
كثيـر الحـديث عـالماً) ، و ذكـره ابن حبان البستـي فـي الثقـات ،
و قال البـزاز : (ثقة مشهـور) ، و وثقـه أبـو زرعـة و ابـن معيـن
(تهذيب التهذيب لشهاب الدين أحمد بن حجـر
العسقـلانـي)
.

     روى ابـن إسحـاق عـن عـاصـم بـن عمـر بـن قتـادة الكثيـر من
الروايات المتعلقة بالسيرة النبوية ، فمن العهد المكـي ؛ نـذكـر
خبـراً عـن إنـذار يهـود بـرسـول الله ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْـهِ
وَ سَلَّـمَ‏ ، و قصة إسلام سلمان رضي الله تعالى عنه ، و خبرًا عن
عرض النبي ‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْـهِ وَ سَلَّـمَ ‏ نفسَـه على
العـرب فـي المـواسـم ، و قصتـه مـع سـويد بـن صامت ، و إسـلام
الأنصـار فـي العقبة الأولى ، و خبـراً عن بيعة العقبة الثانية ، و
كـلام العبـاس بـن عبـد المطلب رضـي الله تعـالـى عنـه فيهـا ، و
غـيـر ذلك .

     اعتمد عليه ابن إسحـاق كثيـراً ، ففي كتاب ابن إسحاق نصوص
كثيرة و مطولة عنه و روايات و أخبارًا تتعلق بالعهد النبوي من
السيـرة النبوية ، مثل خبرٍ عن نقابة النبي ‏صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ لبني النجار ، و أخبار تتعلق بأمر المنافقين
في المدينة ، و روايات تتعلق بمعـركة بدر الكبـرى ، و خبر عن نقض
بني قينقـاع للعهد مع النبي ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّـمَ
، و أخبار تتعلق بغزوة أحد ، و قائمة بمن استشهد فيهـا مـن
المسلميـن ، و مقتـل خبيب بـن عـدي ، و أخبار عن غزوة الخنـدق ، و
عن غزوة بني قريظة ، و ما يتعلق بغزوة بني لحيان ، و أخبار عن
غـزوة حنين ، و لقاء هوازن ، و عن غزوة تبوك ، و غير ذلك .

     و كذلك أخذ الواقدي عن عاصم بن عمر بن قتادة الكثيرَ من
الأخبار المتعلقة بالمغازي النبوية
(ينظر : المغازي للواقدي)
.

     روى عـاصـم عـن أبيه عن جـده ، و روى عنه من مشاهير العلماء
مثل زيد بن أسلم ، و من كتاب السيرة و المؤرخين محمد بن إسحـاق ، و
أبـو الأسـود يتيـم عـروة ، و يعقـوب بـن أبـي سلمة الماجشـون و
غيرهم ، و قد وفد على الخليفة عمر بن عبد العزيز بدمشق ، و كـان قد
احتاج إلى المال ، فطلب منه أن يجلس في مسجد دمشق فيحدث النـاس
بالمغـازي و مناقب الصحابة ، ففعل (ينظر : تهذيب
التهذيب : شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني)
.

     و يظهر أن سبب اختيـار الخليفة عمر بن عبد العزيز عاصمًا لهذه
المهمة ؛ هو كونه من أهل العلم بالمغازي ، فقد وصفـه ابـن سعد بذلك
، و قال : (كان راوية للعلم ، و له عِلم بالمغازي و السيرة … )
(ينظر : تهذيب التهذيب لشهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني)

.

     تبين لنا المعلـومة في النص السـابق أن عاصمـاً قد تـوافرت له
فـرصة في نشر أخبار الرسول صلى الله عليه و سلّم و أحـواله على
النـاس بمبـاركة من الخليفة نفسه مما لم يتوافر لأقرانه من
التابعين ، الأمر الذي أدى إلى كثرة الروايات التي وصلت إلينا عن
هذا الـرجـل فـي كتب السيـرة و المغـازي (تهذيب
التهذيب لشهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني)
.

     و لم يمكث عاصم في دمشق طويلاً ، فقد عاد إلى المدينة ؛ يحدث
الناس ما يقرب من عشرين عامًا .

     و هـذا الأمر جعل مسألة تدوين عاصم لأخبار المغازي و السيرة
أمراً غير مقطوع بصحته ، و ذلك لأنه كان راوية أكثر مما هو مـدون ،
و إن كانت إحـدى الدراسات الحديثة تؤكد أن المحدثين كانوا يستعينون
بصحائف أو رقاع يدونون فيها ما يحفظونه خوفاً من النسيان
(التأريخ العربي و المؤرخون لمصطفى شاكر)
، و استـدل أحـد البـاحثين على كـون عاصم قد دون معلومات عديدة عن
سيرة الـرسـول صلى الله عليه و سلّم بالاعتماد على الروايات
الطويلة التي كان يرويها للناس (مقاصد المؤرخين
المسلمين في التراجم و السيـر لمحمـد عطـه الله)
، و منهـا
روايتـه لحـادثـة إسـلام سلمـان الفـارسـي
(الـسـيـرة النبـويـة لعبـد الملك بـن هشـام)
.

     و تبقى هذه الآراء مجـرد استنتاجات شخصية لا تؤكدها القرائن ،
إذ اعطى العسلي توضيحاً لهذا اللبس بعد استعراضه للنقـول التي ورد
فيها اسم عاصم بن عمـر حين قال : (و بالرغم من أنه كان عالماً
بالمغازي و رجال الصحابة لم يرد ذكر لكتاب ألفه عاصم بن عمر بـن
قتـادة فـي المغـازي ، فالمعلـومـات التـي وصلت عنـه جـاء معظمهـا
عـن طـريق روايـة ابـن إسحـاق رواهـا ابـن هشـام و الـواقـدي و
ابـن سـعـد و الطبـري ، أمـا مـن جـاء بعـدهـم مـن المؤرخيـن فهـم
ينقلـون المعلـومـات نفسهـا التـي قـدمهـا ابـن هشـام و ابـن سعـد
و الطبـري)
(عاصم بن عمر لمحمد عارف العسلي) .

     مع كل ما ذكرناه من آراء فإن ذلك لا يمنع من أن يكون عاصم قد
أكسب كتابة السيرة روافد جديدة لم تألفها سابقاً إذ تمثلت هذه
الروافد ب :

     1 . بـروز الإتجـاه القبلي في رواية أحـداث السيـرة ، إذ تمثل
ذلك بالتـركيز في رواية أحداث المرحلة المدنية من الـدعـوة
الإسـلامية و إبـراز دور الأنصـار فيها و مـواقفهم المشـرفة و
أعمـالهم البطـوليـة التـي قـدمـوهـا للـرسـول ‏صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْـهِ وَ سَلَّـمَ في المعارك ، و استشـارتـه لهـم ، و حبَّ
الـرسـول ‏صَلَّـى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّـمَ للأنصـار ، و
التـوصيةَ بهـم خيراً في آخـر خطبة له قبل مماته ، فهو إذاً يهتـم
بتـاريخ الجمـاعـات ، لا الأفـراد (عاصم بن عمر
لمحمد عارف العسلي)
.

     2 . إيراد المعجزات و دلائل النبوة التي بدرت من الرسول صلى
الله عليه و سلّم (ينظر : السيـرة النبـوية
لعبـد الملك بن هشام و الطبقات الكبرى لابن سعد و البداية و
النهاية لابن كثير)
، و هـذا الأمر يعد اتجاهـاً جـديداً و
التفاتة ذكيـة مـن قبـل عـاصـم بايـراد هـذه الأمـور التـي لـم
تـألفهـا مسـامـع النـاس مـن قبـل رواة السيـرة و المغـازي .

     3 . وصف المعـارك وصفاً دقيقاً ابتـداء من أول حادثة إلى
آخـرها ، إذ خص معـركة بدر فقدم لنا فيها وصفا دقيقا للحوادث التي
جرت فيها .

     4 . التتبع في معـرفة من كان حاضـراً من الصحابة عند ذكره
الحـوادث التي يعرضها في سيرة الرسول صلى الله عليه و سلّم و لا
سيما الحوادث الكبرى .

     ساعد هذا التبيان لأسمـاء المشـاركين في الحـوادث على تعرّف
مواقف كل شخص من الصحابة المعاصرين لذلك الحادث و دوره فيه ، مع
إعطائه مادة جاهزة لكتاب التراجم يتكئون عليها في حديثهم عن كل
شخصية يترجمون لها و يبينون مواقفها في أحداث عصرها .

     5 . الـدقة و التبصـر و عـدم التكلف فـي اختيـار العبارات عند
سرده لحوادث السيرة ، و هذا الأمر يبين لنا أن أصحـاب السيرة
الأوائل كانت عباراتهم سهلة و لا يكتنفها غموض أو تعبير صعب أو
ثقيل على اللسان .

     6 . الإتجاه نحو رواية الحوادث باستقلالية و شمول من دون
قطعها ، و إن استمرت هذه الحوادث مدة أطول ، مما يعدّ بداية للمنهج
المـوضـوعـي في كتابة السيرة ، و ترك المنهج الحولي القائم على
رواية الحوادث على وفق السنين و تسلسلها الزمني . مع العلم أن
العسلي يشكك في كون هذا الإتجاه أهو من عند عاصم أم أنه جاء نتيجة
تلاعب المؤرخين الذين نقلوا عنه

     7 . إبـداء الآراء و وجهات النظـر بـرواة الحوادث و دوافعهم
في القول ، إذ تمثل هذا الأمر في إبداء عاصم وجهة نظره في الرواية
التي ذكرت قولاً للعباس بن عبادة بن نضلة الخـزرجي في الأنصار حين
قال : (و الله ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله صلى
الله عليه و سلّم في أعناقنا) (ينظر : السيـرة
النبـوية لعبـد الملك بن هشام)
. و قد مثّل هذا الأمر نقلة
نوعية في بروز الإتجاه النقدي و التعليق على الروايات التي ترد إلى
مسامع عاصم بن عمر .

     هـذه هي الـروافد التي أكسبها عاصم بن عمر لكتابة السيرة
النبوية ، مع استمرار المنحى المألوف في ذلك العصر و هـو التـرسل و
عـدم الإهتمام و التشدد بذكر مسانيد الروايات التي يذكرها ، مع أنه
أَسْنَدَ عن جماعة ممن تأخرت وفاتهم من الصحابة ، و أن معظم مصـادر
رواته هم من الأنصـار ، أمثال محمـود بن لبيد ، و أنس بن مـالك ، و
عبد الله بن كعب بن مالك ، و عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله ، و
غيرهم
(ينظر : السيـرة النبـوية لعبـد الملك بن هشام)
، فهـو يذكر أخباره أحياناً بالأسـانيد ، و أحياناً بدون أسانيد ،
و أحيـاناً يـذكر واحـداً من شيـوخه و يـرسل عنه الحديث ، كالـزهري
. و يقرنه في كثير من النقول مع غيره من شيوخه و رواته . و أنه
يورد في بعض الأحيان أشعارًا يُضمِّنها رواياته
(ينظر : السيـرة النبـوية لعبـد الملك بن هشام)
. و هـذا
الأمـر لم يقطع فيه العسلي إذ يقـول : (و لا نعلم هل أن الحـذف في
رواة الخبر هو من ابن إسحاق أم أنه من عاصم) ، إذ اعتمد العسلي على
الإسناد الذي كان يذكره ابن إسحاق عند ذكـره لبعض مسـانيد رواياته
و التي يقـول فيها (حدثني عـاصم بن عمر عن أشياخ قومه)
(ينظـر : السيـرة النبـوية لعبـد الملك بن هشام)
.

     و يبـدو لنا من الـروايات التي ذكـر ابن إسحـاق فيها اسـم
عاصـم ، أنه لم يستعمل هذه العبارة آنفة الذكر في مسـانيد باقي
رواياته ، مما دفعني ذلك إلى التكهن بأن هذه اللفظة مقتصـرة على
عـاصم و أن الأخيـر هو الـذي حذف أو أغفل ذكر رواة الخبر الذي
يرويه .

     و كان مـن المصـادر المهمـة التـي اعتمـد عليهـا أصحـاب
السيـر و المغـازي ، مثـل محمد بـن إسحـاق و محمد بـن عمر الواقدي
، و قد توفي عاصم عام مائة و عشرين للهجرة و قيل عام مائة و تسع و
عشرين .

 

                                                       

عن المدير