جوامع السيرة لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري

الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الثاني: تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة وتأريخها
الفصل الثاني: كتابة السيرة الشاملة والمستقلة وتطورها
المبحث الثاني: السيرة النبوية المختصرة والمستقلة

المطلب الثالث: جوامع السيرة لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري (ت 456 هـ):
مـصـنـف هـذا الكـتـاب هـو أحـد العلمـاء الأندلسييـن الذيـن أسهمـوا إسهـامـاً جـاداً فـي رفـد الثقـافـة والفكـر الإسـلامـي بمصنفـات كبيـرة وكـان هـذا الكتـاب أحـد هـذه المصنفـات.
ولدت هذه السيـرة التي صنفها ابن حـزم تضـاربـاً بيـن البـاحثيـن فـي تحـديـد العنـوان المنـاسب لهـا بعـد اختـلاف عنـاوينهـا علـى ظهـور المخطـوطـات، إذ وضـع محققـو هـذه السيـرة عـنـوانـاً لهـا باسـم (جـوامـع السيـرة)، وسـوغـوا ذلك بـأن مضمـون الكتـاب يـلائـم هـذا الـعـنـوان (مقدمة تحقيق كتاب جوامع السيرة لعباس الأسد)، وهـذا مـا أثـار حفيظـة أحـد البـاحثيـن الـذي وصـف هـذا العمـل مـن قبـل محققـي الكتـاب بالتسـرع وعـدم الـدقـة العلميـة فـي اختيـار وتثبيت الإسـم الصحيـح للسيـرة التـي صنفهـا ابـن حـزم الظـاهـري (نقد كتاب جوامع السيرة لصلاح الدين المنجد).
ومـهـمـا يكـن مـن أمـر الجـلـبـة التـي أثيـرت عـن هـذا المـوضـوع لا تهـم البـاحـث بقـدر مـا يهـم اتفاق جميـع المـصـادر الـتـي تـرجـمـت لابـن حـزم حـول تصنيفـه كتـابـاً فـي سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم. وقد قصـدنـا فـي عـرضنـا للمـلابسـات التـي اكتنفت هـذا الأمـر استيضـاح وتبيـان الـمـكـانـة التـي حظيت بهـا هـذه السيـرة مـن قبـل البـاحثيـن. وقبـل تبيـان المنـاحـي التطـوريـة التـي اضفتهـا هـذه السيـرة علـى مثيـلاتهـا مـن كتـب السيـرة الأخـرى يجب علينـا تـأكيـد أن ابـن حـزم قـد حـاكـى فيهـا النهج الـذي اكتسبـه شيخـه ابـن عبـد البـر فـي كـتـابـة الـسـيـرة، إذ وضـع كتـاب ابـن عبـد البـر (الدرر) نصـب عينيـه عنـد كتـابتـه لمصنفـه هـذا، فاستـدل علـى ذلك محققـو هـذيـن الكتـابيـن بمقـارنتهمـا بعضهمـا ببعـض (مقـدمـة تحقيـق كتـاب جـوامـع السيـرة لعبـاس الأسـد)، إذ بينوا مـواضـع الإقتبـاس فـي كـل منـهـمـا، مـع تـأكيـد محقـق كتـاب الـدرر أن ابـن حـزم قـد نقـل فقـرات كـاملـة مـن ابـن عبـد البـر عنـد حـديثـه عـن مبعـث الـرسـول إلـى نـهـايتـه، إذ يقـول فـي مـعـرض حـديـثـه عـن هـذا الأمـر: (وبلـغ مـن قيمـة هـذه السيـرة وأهميتهـا فـي عصـره أن وضعهـا ابـن حـزم تلميـذ ابـن عـبـد البـر عـلـمـاً مـنـصـوبـاً أمـام بـصـره حيـن حـاول أن يصنف سيـرتـه النبـويـة … فضـلاً عـن كـونـه لـم يتـابـع ابـن عبد البـر فـي نـسـق كـتـابـه ومـا تضمنـه مـن أحـداث وأسـمـاء الأعـلام فحسب بـل كـان كثيـراً مـا يتـابعـه فـي سـرد كـلامـه نـاقـلاً نص عبـارتـه مـع شيء مـن التصـرف أحـيـانـاً، وقـد يتـرك النـص الـذي ينقلـه عـن أسـتـاذه دون تصـرف ونـراه يتـابعـه فـي كثيـر مـن مـراجعـاتـه وآرائـه حتـى ليظـن مـن لـم يقـرأ ابـن عبـد البـر أنهـا ثمـرة اجتهـاده) (مقـدمـة تحقيـق كتـاب الـدرر لشـوقـي ضيـف)، ولكـن ابـن حـزم لـم يشـر فـي أي مكـان مـن سيـرتـه إلـى اسـم ابـن عبد البـر وسيـرتـه الـتـي ألـفـهـا حينمـا اقتبـس مـن نصـوصهـا، مـع العلـم أنـه قـد وضـع قـائمـة بـأسمـاء المصـادر التـي اعتمـد عليهـا فـي كتـابـه هـذا.
سـار هـذا الـرجـل أيضـاً عـلـى مـسـار مـن سـبـقـه فـي تصنيف سيـرة للـرسـول صلى الله عليه وسلّم مدفـوعـة بـدوافـع أخـلاقـيـة الـهـدف منـهـا تهذيب النفـوس والـرغبـة بالمثـوبـة والأجـر مـن الله سبحـانـه وتعـالـى، وهـذا مـا أشـار إليـه فـي مـواضـع عـدّة مـن كتـابـه، إذ ينهـي فـقـراتـه فـي هـذه الـمـواضـع بعبـارات تنـم عـن رغبـة جـامحـة فـي الـحـصـول عـلـى الـرحمـة مـن الله والمغفـرة والتـوفيـق لخـدمـتـه وخـدمـة نـبـيـه محمد صلـى الله عليـه وسلّـم والشفـاعـة بـه مـن النـار ببـركـة متـابعتـه، هـذا مـع العلـم أن محققـي هـذه السيـرة قـد أرادوا جـعـل الـغـايـة الـتـي صـنـفـت مـن أجـلـهـا غـايـة علميـة بـالـدرجـة الأولـى (مقـدمـة تحقيـق كتـاب جـوامـع السيـرة لعبـاس الأسـد).
ولكـن هـذا الـرأي لا يخـلـو مـن صـحـة تجـاه القـول آنف الـذكـر، وإن كانت تلك الغـايـة العلميـة التـي أشـار إليها محققـو هـذا الكتاب دون المستـوى الـذي عهـدنـاه فـي السيـر السـابقـة لهـا والتـي استعـرضنـاهـا فـي الصفحـات السـابقـة.
وصـفـت هـذه الـسـيـرة مـن قبـل أحـد البـاحثيـن بأنهـا ليست إلا تكـراراً بالمعنـى الحـرفـي لمـا دونتـه المصـادر المتقـدمـة عـلـيـه فـي هـذا الجـانـب، مـع تـأكـيـده أن شـأن ابـن حـزم يـظـهـر فـي تـأريـخ الأفـكـار أكـثـر مـن تـأريـخ الـحـوادث والـسـيـر (نقد الدكتور صلاح الدين المنجد لتحقيق كتاب جوامع السيرة وخمس رسائل أخرى لابن حزم)، ولكـن هـذا الكـلام فيه نـوع مـن التجنـي علـى ابـن حـزم وكتـابـه هـذا إذ نـرى مـن استعـراض المنـاحـي التـي أكسبتهـا هـذه السيـرة مـن تطـور لكتـابتهـا، ضـعـف هـذا الـرأي، إذ كـانت تلك المنـاحـي قـد شملت علـى:

1 – الإهتمـام بإيـراد مشجـرات أنسـاب القـبـائـل التـي تتصـل بـرسـول الله صلـى الله عليـه وسلّـم وقبيلتـه ونسبـه وبـحـسـب الجـد الـذي يـصـل إليـه رسـول الله صلـى الله عليـه وسلّم إذ يصل بإيراده هذه التشعبات في الأنساب إلى عدنان جد الرسول الواحد والعشرين الذي يـنـهـي بـه هـذه التشعبـات، إذ يقـول فـي ختـام إيـراده لمشجـرات النسب: (هـاهنـا انتهـى النسب الصحيـح الـذي لاشك فيـه) (جوامع السيرة)، وبـيـن أيضاً عـدم جـدوى تشعب الـقـبـائـل القحطـانية مـن أهـل اليمـن ومـن المنـاطـق المجـاورة لهـا والتقـاء أنسـاب هـؤلاء بـنـسـب الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم إذ يقـول عـن سبب ذلك: (فالله أعلـم بتشعبهـم إلا أنهم يجتمعون معه في نوح بلا شك) (جوامع السيرة).
كـان وراء انتهـاج ابـن حـزم لـهـذا المنحى عـامـل أسـاس تمثـل باستيعـاب ابـن حـزم لجميـع تجـارب الذيـن سبقـوه فـي كـتـاب أنـسـاب الـقـبـائـل الـعـربـيـة وتـفـرعـاتـهـا وإخـراج هـذه الأمـور فـي مـصـنـف مستقـل يهـذب فيـه مـا يـراه فائضـاً عـن المقصـد (جمهرة أنساب العرب لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري).

2 – الإستفـادة مـن النص التأريخي الخـاص بسيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم فـي دعـم آراء مذهبـه الفقهـي الـذي يعتمـد علـى ظـاهـر النـص والـذي يعـرف بالمـذهب الظـاهـري، إذ عقب كثيـراً علـى نصـوص عـدة أوردها في سيـرته بما يراه مطابقاً لآراء مذهبه، فمن هـذه النصـوص التـي ناقشهـا، حادثة قيـام الـرسـول بشـراء أرض المسجـد الـذي بنـي فـي المدينـة، إذ عـلـق علـى هـذه الحـادثـة قـائـلاً: (و قـد روينـا أن النبـي أبـى أن يـأخـذه -أي المسجـد- إلا بالثمـن والله أعلـم) (جوامع السيرة)، كذلك وعـلـق علـى حادثـة صـلاة المسلميـن فـي بنـي قـريظـة وتعنيـف الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم لهـم كـل بـحـسـب فهمـه للأمـر الـذي أصـدره إليهـم: (لا يـصـلـي أحـد الـعـصـر إلا فـي بـنـي قـريـظـة)، إذ عـلـق على هـذه الحادثـة قائـلاً: (فأما التعنيف فإنمـا يقـع علـى العـاصـي المتعمـد الـمـعـصـيـة وهـو يعلـم أنهـا معصيـة وأمـا مـن تـأول قـصـداً للخيـر، فهـو وإن لـم يصـادف الحـق غيـر مـعـنـف، وعلـم الله تعـالـى أننـا لـو كنـا هنـاك لمـا صلينـا عصـر ذلك اليـوم إلا فـي بنـي قـريظـة ولـو بعـد أيـام) (جوامع السيرة).

هـذه هـي الآراء والتعليقـات الفقهيـة التـي بثهـا فـي تضـاعيف كـتـابـه هـذا والـتـي أعـطـت صـورة نـاصـعـة عـن بـروز هـذا الأثـر الـمـذهبـي فـي كـتـابـة السيـرة، وهـذا الأمـر لـم يـكـن مألـوفـاً فـي مصنفـات السيـرة التـي سبقتهـا، مـع العلـم أن محققـي هـذه السيـرة قـد قللـوا مـن بـروز هـذا العـامـل فـي الكتـاب وجعلـه مجـرد إشـارات عـابـرة لا تستحـق الـذكـر فضـلاً عـن تصـريحهـم بالقـول: (إن الظـاهـريـة لـم تستعلـم فـي تفسيـر ابـن حـزم للـروايـات التـي أوردهـا، وأن طبيعـة السيـرة قـد حجمـت مـن تـحـرك ابـن حـزم مـن أن يـنـطـلـق بانتـزاع الأحكـام مـن النصـوص) (مقدمة تحقيق كتاب جوامع السيرة لعباس الأسد)، وهـذا الـرأي تـدحـضـه كـثـرة الـنـصـوص التـي وردت فـي ثنـايـا هـذه السيـرة مـردفـة بتعليقـات فقهيـة تـوافق مـذهبـه والتـي استعـرضنـاهـا آنفـاً.
كـان هـذا الكتـاب محـط أنظـار العلمـاء الذيـن أتـوا بعـده، والذيـن تعـرضـوا فـي مصنفـاتهـم لسيـرة الـرسـول وأحـوالـه، إذ عـلـقـوا عـلـى آرائـه التـي أوردهـا فـي هـذا الـكـتـاب، فـمـن هـؤلاء عـبـد الـرحـمـن السهيلـي الـذي نقـل رأي ابـن حـزم فـي قضيـة الصـلاة فـي بنـي قـريـظـة، إذ علـق علـى رأي ابـن حـزم فـي ذلك قـائـلاً: (إن فـهـم هـذا الأصـل أسـراً عـلـى الـظـاهـريـة لأنـهـم عـلـقـوا الأحكـام بالـنـصـوص، فاستحـال عنـدهـم أن يكـون النـص يأتـي بحظـر وإبـاحة معـاً) (الروض الأنف لعبد الرحمن بن عبد الله السهيلي)، ونـقـل ابـن كـثـيـر الـدمـشـقـي رأي ابـن حـزم هـذا أيـضـاً إذ عـلـق عليـه قائـلاً: (وهـذا القـول مـاش على قـاعدتـه الأصليـة بالأخـذ بالظـاهـريـة) (البداية والنهاية لإِسْمَاعِيلُ ابن كثير)، وعـلـق أيـضـاً علـى مـا طـرحـه ابـن حـزم أن غـزوة الخنـدق قـد حـصـلـت فـي السنـة الـرابعـة للـهـجـرة اعـتـمـاداً علـى روايـة واحـدة رواهـا عبد الله بـن عمـر بـن الخطـاب، إذ عـلـق علـى ذلك بالقـول: (هـذا الحـديـث مخـرج فـي الصحيـح وليـس يـدعـى مـا أدعـاه ابـن حـزم لأن مـنـاط إجـازة الـحـرب كـان عـنـده صلـى الله عليـه وسلـم خـمـس عـشـرة سـنـة، فكـان لا يجيـز مـن لـم يبلغهـا، ومـن سلفهـا إجـازة فلمـا كـان عـمـر عبد الله بـن عمـر يـوم أحـد ممـن لـم يجـزه، ولمـا كـان قـد بلغهـا يـوم الـخـنـدق أجـازه، وليـس يـنـفـي هـذا أن يكـون قـد زاد عليهـا بسنـة أو سنتيـن أو ثـلاث أو أكـثـر مـن ذلك، فكـأنـه قـال وعـرضـت عليـه يـوم الخنـدق وأنـا بـالـغ ومـن أبـنـاء الـحـرب، وقـد قـيـل أنـه كـان يـوم أحـد فـي أول الـرابعـة عـشـرة مـن عـمـره وفـي يـوم الـخـنـدق آخـر الخـامسـة) (الفصول في اختصار سيرة الرسول لإسماعيل ابن كثير)، إلـى غيـر ذلك مـن التعليقـات التـي تنـاثـرت فـي كتـاب الـفـصـول فـي اخـتـصـار سـيـرة الـرسـول لابـن كـثـيـر هـذا، وقـد نـقـل المقـريـزي (ت 802 هـ) بالسيـرة التـي كتبهـا للـرسـول صلـى الله عليـه وسـلّـم نـصـوصـاً عـدة مـن كتـاب ابـن حـزم هـذا مـع إرداف هـذه النصـوص بتعليقـات جـمـة مـن قـبـلـه، فـمـن هـذه النصـوص التـي علـق عليهـا مـا ذكـره ابـن حـزم حـول أول جـمـعـة أقيمـت فـي الإسـلام، إذ كـان تعليـق المقـريـزي علـى ذلك هـو أن ابـن حـزم فـي جـزمـه مـن قيـام مصعـب بـصـلاة الجمعـة قـول مـدحـوض لأن ابـن إسحـاق قـد ذكـر أن سـعـد بـن زرارة هـو الـذي جـمـع النـاس فـي أول جمعـة أقيـمـت فـي الإسـلام (إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع لأحمد بن علي المقريزي).

هـذه هـي بعـض الـنـقـول والإقـتـبـاسـات التـي اعتمـدهـا المتـأخـرون الذيـن اطلعنـا على كتبهـم مـن سيـرة ابـن حـزم، مـع الإشـارة إلـى أن ابـن حـزم فـي سـيـرتـه هـذه قـد سـار على منهجيـة واحـدة اعـتـمـدت على اخـتـصـار المـواضيـع وعـدم الـتـوسـع فـي ذكـر الأحـداث، إذ أغفـل ذكـر النـصـوص الـشـعـريـة التـي قيلت فـي تلك الأحـداث إلا فـي مـوضـع واحـد، مـع استعمـال أسـلـوب الإحـالـة إلـى أحـد مصنفـاتـه وذلك فـي مـعـرض حـديـثـه عـن حـادثـة حجـة الـوداع، إذ قـال فـي خـاتمـة ذكـره لهـذه الحـادثـة مـا مفـاده: (وقـد أفـردنـا لهـا جـزءاً ضخمـاً استـوعبنـا فيـه جميـع خبـرهـا بحمـد الله تعالـى وبـه جـل وعلـى التـوفيتق) (جوامع السيرة).

هـذه هـي المستجـدات التـي أضـافهـا ابـن حـزم لكتـابـة السيـرة النبـويـة.

                                                     

عن المدير