الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الأول: دراسة السيرة النبوية الشريفة ومزاياها وأهدافها
الفصـل الأول: التـأليـف الإنتقـائـي والعشـوائـي للسيـرة
المبحـث الثـانـي: التـأليـف فـي السيـرة عنـد التـابعيـن وتـابعيهـم
المطلـب الثـانـي: رجـال الطبقـة الثـانيـة مـن كتـاب المغـازي والسيـر
2 – عبـد الله بـن أبـي بكـر بـن محمد بـن عمـرو بـن حـزم الأنصـاري:
مـن علماء الطبقة الثانية من مؤلفي المغازي و السير ، ينتمي إلى أسرة مدينة عريقة في النسب و الحسب ، و لها أياد بيض فـي تأريخ الإسلام ، و ثقه كل من ترجم له ، و سمع الحديث من جمع غفير من كبار التابعين (مشاهير علماء الأمصار لابن حيان)، كـان جـده الأعلـى عمـرو ابـن حـزم أحـد صحـابـة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و قد ولاه الرسول على نجران ، و كتب له كتاباً حين بعثـه ، أمـره فيـه بتقـوى الله فـي أمـره كـلـه ، ثـم أمـره بقبـض الصـدقـات و تـوزيعهـا عـلـى مستحقيهـا ، و أن يعلمهـم القـرآن و السنـة و يفقههـم فـي الديـن أمـا جـده المبـاشـر ، محمد بن عمـرو فقد قيل إن له رؤية (أي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم) و توفي عام 63 هـ أما أبوه أبو بكـر فقد ولـي قضاء المدينـة المنـورة أثناء ولاية عمـر بن عبد العزيـز عليها من سنة 87 إلى سنة 93 هـ . و ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك ابـن مـروان 86 – 96 هـ . ثـم أصبـح واليـاً علـى المـدينـة في خلافـة سليمـان بن عبد الملك بن مروان 96 – 99 هـ . و خلافة عمر بن عبد العزيز 99 – 101 هـ . و قـد عُـرف بمقدرته الفائقة فـي رواية الحـديث ، و كـان مـن الثقـات ، و لذلك عهد إليه عمـر بن عبد العزيز أثناء خلافته بجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم.
يـقـول عـنـه الـذهـبـي : (أمـيـر الـمـؤمـنـيـن ثـم قـاضـي الـمـديـنـة ، أحـد الأئـمـة الأثـبـات)(سيـر أعلام النبلاء لمحمد بن عثمان الذهبي)، و قـيـل : (كـان أعـلـم أهـل زمـانه بالقضـاء) . و قـال عنـه الإمـام مـالك بـن أنـس : (مـا رأيت مثـل ابـن حـزم ، أعظـم مـروءة و أتـم حـالاً ، و لا رأيت مـن أوتـي مثـل مـا أوتـي : ولاية المدينـة ، و القضاء و الموسم) (سير أعلام النبلاء لمحمد بن عثمان الذهبي) . و هو من شيوخ ابن إسحاق.
فعبد الله بن أبي بكـر نشـأ إذن في بيت علـم و قضاء و إمـارة، و ورث عن أبيه مواهبه ، و اختص برواية الحديث و خاصـة الأحـاديث المتصلة بالمغـازي ، و كـان حجـة فـي ذلك ، و هو أحد مصادر كبار علماء السيرة و المؤرخين ، فقد روى عنه ابن إسحاق ، و محمد بن عمـر الـواقـدي ، و محمد بن سعـد كاتب الواقـدي و الطبري . خاصة الروايات التي تتصل بأخبار الرسول في المدينة و وفود القبائل ، إلى رسول الله في عـام الـوفـود ، و أخبـار تتعلق بحروب الردة ، و كانت زوجته فاطمة بنت عمارة راوية للحديث ، و كانت تروي عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، و عمرة كانت تروي عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، و كان هو يروي عن زوجته ، بل كان يسمح لها أن تحدث الغير بما عندها من أخبـار عن السيـرة النبـوية ، فقد أخبر الطبـري ، عن محمد بن إسحاق أنه دخل على عبد الله بن أبي بكـر ابن حزم ، فقال عبد الله لامرأته فاطمة : (حدثي محمـداً ما سمعتِ مـن عمرة بنت عبد الرحمن) ، فقالت : سمعت عمـرة تقول سمعت عائشة تقول … إلخ) ، و يـروي الطبري عن محمد بن إسحاق أيضًا عن عبد الله بن أبي بكر قال : (كان جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ستّاً و عشرين غزوة ، أول غزوة غزاها : ودَّان ، ثم بواط …إلخ).
و علـى الجملـة فقـد كان عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري عظيم الأثر في كتب السير و المغازي ، و كـان له من بيته العظيـم في الأنصار و هـو بيت علم و قضاء و إمارة ، و تزوِّجه من فاطمة بنت عمارة الأنصارية ، و التي كانت تروي عن عمرة بنت عبد الـرحمن ، التـي تـروي بـدورها عن السيـدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، كان له من كل ذلك ما يسر له جمع الأحاديث التي تتصل بالمغازي بخاصة ، و بتاريخ حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ، و تاريخ صدر الإسلام عامة ، و أن يصبح مصدراً كبيراً من مصادرها ، و أحد أعلام الطبقة الثانية مـن علماء المغـازي و السيـر. و كان من بين الروايات التي نقلت عنه : عند ابن إسحاق ، والواقدي ، و ابن سعد ، و الطبري . إذ يرد في سيرة ابن هشام السند الآتي : قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، عن عائشة قالت : و ذكر خبر الفيل)(السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام) . ويتكـرر السنـد نفسه عنـد الحـديث عن خبر الإفك (تاريخ الرسل و الملوك لمحمد بن جرير الطبري).
و يورد الطبـري أيضاً خبر غزوات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ حديثاً مباشراً ، نقله ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر و قـد جـاء كمـا يلـي : ( … عـن محمد بـن إسحـاق عـن عبد الله بن أبي بكر ، قال : كان جميع ما غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ بنفسه ستًا و عشرين غـزوة ، أول غـزوة غـزاها ودان ، و هـي غـزوة الأبـواء ، ثـم غـزوة بـواط إلى ناحية رضـوى ، ثم غـزوة العشيـرة …) ثم أتى على ذكر الغزوات جميعـاً .
و يـورد خبـر السـرايا و البعـوث كالآتـي : (ابن حميـد قال :
حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبـي بكـر
قـال : كانت سرايا رسـول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ
و بعـوثه فيما بين أن قـدم المدينة و بين أن قبضه الله خمسًا و
ثلاثين سرية و بعثاً …)
(تاريخ الرسل و الملوك لمحمد بن جرير الطبري)
. و في هـذا دليـل علـى مراعاة الترتيب الزمني في الحوادث ، و منها
الغزوات و السرايا و البعوث في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ .
و لـم يقنـع عبـد الله بجمـع الأخبـار التـي وصـل إليهـا ،
فحـاول أيضـاً فـي هذا الزمن المبكر أن يبتكر الترتيب السنـوي
للحـوادث ، فجمـع قائمة بغـزوات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ
سَلَّمَ مـرتبة تـرتيبًا سنـوياً ، استعاره ابن إسحاق لكتـابه . و
يعتبـر عبد الله بـن أبـي بكـر هـو أول مـن سجـل الأحـداث
التـاريخية وفق تـرتيبَ السنيـن .
و إلى جانب اهتمامه بالـرواية التـاريخية فقد حفظ عبد الله
بعض المدونات النبوية التاريخية ، مثل الوثيقة التي أعطاها النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّـمَ جـدَّه الأكبـر عمرو بن حزم
ليأخذها معه حين بعثه إلى أهل نجران ليفقههم في الدين
(السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام) .
و قد جاء عند ابن هشام و الطبري ذكر إرسال عمرو بن حزم إليهم
و أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ (كتب له كتابًا ؛
عَهِدَ إليه فيه عَهْده ، و أمره فيه بأمره : (بسم
الله الـرحمـن الـرحيـم ، هـذا بيان من الله و رسوله {يَا
أَيُّهَـا الَّذِيـنَ آمَنُـواْ أَوْفُـواْ بِالْعُقُـودِ
أُحِلَّتْ لَكُـم بَهِيمَـةُ الأَنْعَـامِ إِلاَّ مَـا يُتْلَـى
عَلَيْكُـمْ غَيْـرَ مُحِلِّـي الصَّيْـدِ وَ أَنتُـمْ حُـرُمٌ
إِنَّ اللّهَ يَحْكُـمُ مَـا يُـرِيدُ
} (سـورة المـائـدة ، الآيـة : 1)
، عهـد مـن محمد النبـي رسـول الله لـعـمـرو بـن حـزم ، بعثـه إلـى
اليمـن …
) (ينظر : تاريخ الرسل و الملوك لمحمد بن
جرير الطبري و السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام)) ، و
الكتـاب (الـرسـالـة) التـي كتبهـا النبـي صَلَّـى اللَّهُ
عَلَيْـهِ وَ سَلَّـمَ إلـى ملـوك حميـر ، و قـد جـاءت هـي و كتـاب
عمـرو بـن حـزم بالسنـد نفسـه (حـدثنـي محمد بـن إسـحـاق ، عـن
عـبـد الله بـن أبـي بـكـر قـال : قـدم علـى رسـول الله صَلَّـى
اللَّهُ عَلَيْـهِ وَ سَلَّـمَ كـتـاب مـلـوك حـميـر مَـقْـدَمـه
مـن تبـوك … فـكـتـب إلـيـهـم رسـول الله صَـلَّـى اللَّهُ
عَـلَـيْـهِ وَ سَـلَّـمَ : (مـن مـحـمـد
رسـول الله إلـى الحـارث بـن عـبـد كـلال …)
(تاريخ الرسل و الملوك لمحمد بن جرير الطبري)
. و عـرف عنه أنه روى بعض الشعـر ، لا سيما ما رواه عن حسان بن
ثابت شاعر الرسول .
وخلاصة القول فإن عبد الله بن أبي بكر كان من السابقين إلى الاهتمام بالمغازي، وقد راعى فيها الترتيب الزمني، وهذا ما يجعله من أوائـل الذين وضعـوا المنهج الحَولِيّ في التاريخ الإسلامي، عند مطلع القرن الثاني قد عُنِي فضلاً عن ذلك بالأخبار، إلى جانب الروايات الشفهية الكثيرة التي نقلت عنه، وبحكم علاقته الجيدة بابن إسحاق؛ فقد اعتمد عليه الأخير في نقل الأخبار وأكثر من الرواية عنه (التاريخ العربي والمؤرخين لشاكر مصطفى).
وقد اسهم هذا الرجل في تطور كتابة السيرة النبوية بنقلة نوعية، وتمثل هذا الإسهام بعدة جوانب هي :
1 – ترتيب الحوادث التي تعرض لها بحسب قدمها الزمني (المغازي الأولى ومؤلفوها ليوسف هوروفتس)، وهذه النتيجة مستوحاة من القوائم التي ذكرها محمد بن إسحاق للمغازي وتأريخها من أولها إلى آخرها بالاعتماد على ما كتبه عبد الله بن أبي بكر في هذا الجانب (السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام)، مع الإشارة إلى أن هذا الكلام لا ينطبق على السيرة فحسب، بل شمل الحوادث الأخرى لتاريخ الإسلام التي ذكرها ضمن أخباره التي رواها أو التي دونها (تاريخ الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري).
يستدل من هذا على أن عبد الله بن أبي بكر لم يكن مسترسلاً في ذكر الحوادث التأريخية بل كان يحاول ضبط الواقعة بحسب سبقها الزمني مع ذكر تأريخ وقوعها، وهذا ما دفع بأحد الباحثين إلى جعله أول واضع للمنهج الحولي عند المسلمين (التأريخ العربي والمؤرخون لشاكر مصطفى).
2 – إيراده بعض الوثائق التي كتبت بأمر الرسول صلى الله عليه وسلّم والتي أرسلها إلى الملوك والقبائل، أو الوصايا التي أوصى بها صلى الله عليه وسلّم عماله على البلدان (المغازي الأولى ومؤلفوها ليوسف هوروفتس)، ومن ذلك الرسالة التي بعثها الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى ملوك حمير في اليمن (السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام)، أو الوصية التي أوصى بها الرسول صلى الله عليه وسلّم جد عبد الله الأكبر عمر بن حزم، وذلك حين أرسله من قبله إلى أهالي نجران في اليمن ليفقههم فـي الدين ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم صدقاتهم، وتكون هذه الوصية مرجعاً له في أموره (المغازي الأولى ومؤلفوها ليوسف هوروفتس).
ويبدو أن أصل هذه الوثيقة كان موجوداً عند عبد الله أو أسرته، وذلك لقيمتها المعنوية لأنها تعدّ شاهداً حياً على دور أسرته وأجداده في خدمة الإسلام، وأن انتخاب الرسول صلى الله عليه وسلّم لجده من بين باقي الصحابة ليكون عامله على نجران دليل على مكانة هذا الرجل في نفس الرسول صلى الله عليه وسلّم حتى يوليه هذه المهمة.
أكد هذا الأمر بروز الترعة القبلية والمفاخرات بين أبناء الصحابة وأحفادهم، ثم انعكاس هذه الترعة على الكتابة التأريخية، حيث تمخض في هذه المرحلة تركيز الرواة في ذكر دور قبائلهم ومتعلقيهم في الحوادث التي عاصروها و إغفال الأدوار التي قام بها الأشخاص الآخرون أو ذكروها عرضاً من دون تفصيل، وخير دليل على ذلك هو عدم وجود أية رواية لهذا الرجل عن الحوادث التي رافقت بداية الدعوة والتي سبقت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة، إذ عزا الدوري هذا الأمر إلى بقاء فكرة أيام العرب ومفاخراتها عالقة في أذهان وعقول الناس وتصرفاتهم (بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب لعبد العزيز الدوري).
3 – تضمين الروايات التي يذكرها بما قيل في مناسباتها من شعر (المغازي الأولى ومؤلفوها ليوسف هوروفتس)، كمـا تبين ذلك الروايـات التي وردت في السيـرة (السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام)، وهذا الأمر راجع إلى كون عبد الله من أسرة محبة للشعر ورواية له (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (ت 356 هـ))، فضلاً عن أن البيئة التي عاش فيها كانت من أخصب البيئات قريحة لإنشاد الشعر وروايته (الشعر والغناء في مكة والمدينة في العصر الأموي لضيف شوقي).
4 – إغفاله للرواة الذين سمع منهم أحداث السيرة وتساهله في كثير من إسناد رواياتها، إذ (وجدناه يحدث بها كأنه شاهد عيان لها) (ابن هشام ، السيرة)، ويعلل أحد الباحثين بروز هذا الأمر في الروايات التي رويت من قبل الأشخاص الذين عاشوا في هذه الحقبة من تأريخ الإسلام بأن الإسناد لم تكتمل مقوماته بعد (الإسناد عند المحدثين داود سلمان الدليمي).
5 – استشهاده بما نزل في الحوادث التي تطرق إلى ذكرها من آيات قرآنية (السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام).
6 – لم يختص اهتمام عبد الله بن أبي بكر على الحوادث التي حصلت في عصر الرسالة، ولا سيما بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلّم فقط، بل تعدى ذلك ليشمل الحوادث والأخبار التي سمعها عن الأقوام التي عاشت قبل هذا العصر والتي ذكرت في القرآن الكريم (السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام).
يبين لنا هذا العرض للجوانب التي اكسبها عبد الله بن أبي بكر لكتابة السيـرة أن هذه الكتابة قد بدأت معالمها بالإتضاح شيئاً فشيئاً نحو الشمولية والتنظيم.
توفي عبد الله في المدينة سنة 135 هـ، ويقال سنة 130 هـ، والأول هو الأرجح.