الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الأول: دراسة السيرة النبوية الشريفة ومزاياها وأهدافها
الفصـل الأول: التـأليـف الإنتقـائـي والعشـوائـي للسيـرة
المبحـث الثـانـي: التـأليـف فـي السيـرة عنـد التـابعيـن وتـابعيهـم
المطلـب الثـانـي: رجـال الطبقـة الثـانيـة مـن كتـاب المغـازي والسيـر
1 – محمد بـن مسلـم بـن شهـاب الـزهـري (ت 124 هـ):
ولـد بالـمـدينـة و هـو مـن كبـار الجيـل الثـانـي مـن التـابعيـن و أعـلامـهـم ، و هـو يـنـتـسـب إلـى بنـي زهـرة ، أخـوال النبـي صلـى الله عليـه و سلـم ، و يُعَـدُّ الإمـام الـزهـري من أبـرز المـؤرخيـن المسلميـن ؛ الـذيـن أرَّخـوا لسيـرة النبـي صَـلَّـى اللَّهُ عَلَيْـهِ وَ سَلَّـمَ قبـل البعثـة وبعـدهـا ، و أشـدُّ عنـايـة الـزهـري كـانـت فـي المغـازي ؛ إذ تـوسـع فيهـا ، و عنـي بهـا عنـايـة كبيـرة ، و قـد وردت إشـارة لدى الـبـيـهـقـي إلـى تأليـف الـزهـري فـي المغـازي بقـولـه : (… حدثنـا محمد بـن فليـح عــن مـوسـى بـن عقبـة عـن ابـن شهـاب قـال : هـذه مـغـازي رسـول الله ، فـذكـر الـحـديـث … ) (السنن الكبرى لأحمد بن الحسين البيهقي) . و هـو مـن الـثـقـات فـي الـروايـة ، أجـمـع العلمـاء علـى جـلالتـه ، أخـرج له أصحـاب الصحـاح ، و السنـن ، و المسـانيـد ، و كـانـت ذاكـرتـه قـويـة كثيـر الحفـظ ، و إليـه يـرجـع فضـل تـأسيـس الـمـدرسـة الـتـاريخيـة فـي كتـابـة السيـرة . و هـو مـن أوائـل مـن دوَّنـوا الحـديث بـل قيـل إنـه أول مـن دوَّن الحـديث مطلقـاً ، و هـو أول مـن أسنـد الحـديـث ، و كـان الـزهـري يـكـتـب و يـدون كـل مـا يـسـمـعـه مـن حـديـث أو حكـم أو خـبـر عـن الـرسـول صـلـى الله عليـه و سـلّـم و أحـوالـه فـضـلاً عـن أخبـار مـن أتـى بعـده ، إذ يحـدث مـن رآه و صـاحبـه : (كنـا نطـوف مـع الـزهـري عـلـى الـعـلـمـاء و مـعـه الألـواح و الـصـجـف يـكـتـب كـلـمـا سـمـع) (المعـرفة و التأريخ ليعقـوب بـن سفيـان الفسـوي ، و تـذكـرة الحفاظ لمحمد بن عثمان الذهبي) و أكـدت لـنـا هـذه الـروايـة مقولة للزهـري أوردها أبو نعيم الأصفهاني مفادها : (حضـور المجلـس بـلا نسخـة ذل) (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهـاني).
بينت لنا هـذه الـروايات أن الـزهـري كـان ممن يشتهـرون بتدوين ما يسمعون ، مما يجعلنا نعطي صفة التأكيد أن الزهـري قـد كانت له بعض المـدونات عن سيرة الرسول صلى الله عليه و سلّم ، حتى أن أبا الفرج الأصفهـاني يذكر أن الزهري قد شرع بكتابة السيرة في مطلع القرن الثاني الهجري و لم يكتب لها الإكتمال (الأغاني لأبي الفرج الأصفهـاني) ، حتـى عـدّ السهيلي (ت 508 هـ) أن أول سيـرة ألفت في الإسـلام للـرسـول صلى الله عليه وسلّم هي السيـرة التـي ألفها الزهـري (الروض الأنف لأبي القاسم عبد الرحمن السهيلي) ، فضـلاً عن وجـود متـأخـرين تـابعوا هؤلاء في مقالتهم هذه (السيـرة الحلبية لعلي بن برهان الحلبي و كشف الظنون عن أسامي الفنون لحاجي خليفة).
مـع كـل تلك التـأكيـدات من قبـل هؤلاء العلماء حول تأليف الزهري أول سيرة في الإسلام ، لم يطمئن أحد الباحثين إليها إذ قال: (من الصعب الجـزم بأن المعلـومات التي نقلها الرواة عن الزهري مقتبسة من كتبه أم من رواياته) (التدوين و ظهور الكتب المصنفة لصالح أحمد العلي) ، إذ اعتمد هذا الباحث على مقولة الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) التي مفادها : (أنه لم يكن مع ابن شهاب كتاب إلا كتاب في نسب قومه) (الأنباه على قبائل الرواة ليوسف ابن عبد البر).
إن هـذا الـرأي لا ينفي مطلقاً كون الزهـري قد دون بعض أخبار الرسـول صلى الله عليه و سلّم في صحف أو دفاتر اعتمد عليها من أتى بعده بدليل أن معمر بن راشد الذي يعد من أحد رواة أحـاديثه ، قد قال : (كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من علم الزهري) (جامع بيان العلم و فضله ليوسف ابن عبد البر).
و كـذلك قيـل أنه أول من دوَّن في السيـرة ، و توسع في جمع الـروايات و تمحيصها و استخـدام لفظ السيرة بدلاً من المغـازي ، وبذلك تكون سيرة الـزهري هي أول سيرة ألفت في الإسـلام) (الروض الأنف لأبي القاسم عبد الرحمن السهيلي) ، (و قد روى الزهـري المغـازي عن عـروة) (الإعـلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ لشمس الدين السخاوي) . و لـذا تعـد سيـرة الزهـري مـن أوثـق السيـر و أصحها ، و يعتمـد عليه ابـن إسحـاق كثيراً في السيـرة . (و هـو أول مـن استخـدم طـريقـة جمـع الأسـانيـد ليكتمـل السيـاق و تتصـل الأحـداث دون أن تقطعها الأسانيد) (السيرة النبوية الصحيحة لأكرم العمري).
و قد رأى الزهري عشرة من الصحابة ، و تتلمذ على كبـار علمـاء التـابعين و أعلامهم ، و منهم سعيد بن المسيب ، و عروة بن الزبير ، و أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عـوف ، و عبيد الله بـن عبد الله بـن عتبة و هـؤلاء هـم الذين كان الـزهـري يعتبـرهم بحـور قـريش في العلم . و قد أخذ عنهم العلم الكثير بمختلف صنوفه.
و روى عـن الـزهـري جمـاعة من العلمـاء الأئمـة الأعـلام ، يأتي في مقدمتهم فقيه المدينة و عالمها الأشهـر الذي قيل عنه : (لا يفتى و مالك في المدينة) مـالك بن أنس الأصبحي ، و سفيان بن عيينة، و سفيان الثوري ، و قد ذاع صيت الـزهـري ، و أصـبـحـت لـه مكـانة علميـة رفيعة في أوسـاط العلمـاء ، فقد سئـل مكحـول الـدمشقـي : (من أعلم من رأيت ؟) فقال : (ابـن شهـاب) . قيـل لـه : (ثـم مـن ؟) قـال : (ابـن شهـاب) . قيـل لـه : (ثـم مـن ؟) قـال : (ابـن شهـاب)؛ كـان قـد حفظ علـم الفقهـاء السبعـة (يقصـد فقهـاء المـدينـة المشهـورين : عـروة بن الـزبير ، سعيد بن المسيب، القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، خارجة بن زيد وهو ابن زيد بن ثابت ، عبيد الله بـن عبـد الله بـن عتبـة ، أبـو بكـر بن عبد الرحمـن بن الحـارث بن هشـام بن المغيرة ، سليمـان بـن يسـار مـولـى أم المـؤمنيـن ميمـونة بنت الحـارث) . و كتب عمـر بـن عبـد العـزيز و هـو خليفة إلى سـائر الأقـاليم : (علكيم بابـن شهاب ، فإنكم لا تجـدون أحـداً أعلـم بالسنـة المـاضية منه) (وفيات الأعيان لابن خلكان أحمد بن محمد (681 هـ)) . فعمر بن عبد العـزيز و هو من هـو ، لا يقـول مثل ذلك الكـلام عـن ابـن شهـاب إلا إذا كان الرجـل فعـلاً يستحق هذا الثنـاء مـن الخليفة العالم ، بما بلغ من مكانة علمية . و الحق أن ابـن شهـاب كـان مـوضـع احتـرام و إجـلال خلفاء بنـي أمية ، لأنه إلى جانب تبحره في العلوم ، كـان يحتـرم نفسه ، و لم يداهن في الحق (المغازي الأولى و مؤلفوها ، ليوسف هوروفيتش).
و قـد امتـاز محمد ابـن شهـاب الـزهـري عـن معاصـريـه بكثرة الكتابة و التدوين و اقتناء الكتب . و كان إذا جلس في بيته بيـن كتبه اشتغـل بها عـن كـل شيء سواها من أمور الدنيا ، حتى يروى أن امرأته كانت تقول له : (إن هذه الكتب أشد عليَّ من ثلاث ضرائر) (وفيات الأعيان لابن خلكان أحمد بن محمد (681 هـ)) ، لاشتغاله بها عنها.
و قد طعن الـزهـري لكثرة تقربه للأمـويين و مجالسته لهم ، إذ وصف بالقول : (أي رجل الزهري لولا أنه أفسد نفسه بصحبـة الملـوك) (شمس الدين بن عثمان الذهبي ، تأريخ الإسلام) ، و أن التقـرب لـدى الحكـام كان يعدّ مثلبة تسجل على العلمـاء ، حتى صرح الإمام جعفر بن محمد الصـادق (ت 148 هـ) بالقول معقباً على هذا الأمر : (الفقهاء أمناء الرسل فإذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا إلى السلاطين فاتهموهم) (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني) ، و لهـذا الأمر كان الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) (ت 94 هـ) كثيـراً ما كان ينصحه بترك عـلاقته تلك مع الأمـويين و انعكاسها على سمعته كعالم له مكانته حتى بعث له برسالة طويلة بين فيها مساوئ العـلاقـة بين الحكـام و العلمـاء لأن الحكـام يتخـذون العلماء مقصداً يلتمسون منه كسب رضا عامة الناس وإيجاد من يسوغ لهم أفعالهم و لا يعارض أقوالهم (تحف العقول عن آل الرسول للحسن بن علي الحراني ابن شعبة) ، حتـى صـرح الزهـري في حقه بالقـول : (علي بن الحسيـن أعظـم النـاس علـيّ منـة) (الطبقات الكبرى لابن سعد).
مـع كـل ما ذكـر عن الزهري حول علاقته بالأمويين فإن ذلك لا يقلل من الدور الكبير الذي لعبه في كتابة السيرة ، حتـى عـدّه الـدوري أول من أعطـى السيرة هيكلاً محدوداً و رسم خطوطها بوضوح (بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب لعبد العزيز الدوري).
و يبـدو أن هـذه المكانة التي حظي بها الزهري و الإحتواء لأحداث السيرة و تقعيد أسسها راجع إلى تقصيه و سؤاله كـل من كان له علـم بحـادثة أو مـوقف مـن الصحـابة و التابعين الذين عاصرهم وشاهدهم بل حتى ربات الحجال من دون تردد في أيام صغره و حداثة عمره (المعرفة و التأريخ ليعقوب بن سُفيان الفسوي (ت 277 هـ)).
لأجـل هـذا كله زخـرت كتب السيـرة و التـأريخ بالنقول عن هذا الرجل حتى لا نجد أي كتاب من هذه الكتب إلا و فيه اقتباسات كثيرة عنه (ينظر : الواقدي ، المغازي – الطبري ، تاريخ الرسل و الملوك).
و عند الـوقـوف على المقتبسـات التـي وردت عـن الـزهـري ، فـي مجـال السيـرة النبـوية بخـاصة ، و تاريخ صدر الإسـلام بعـامـة ، يلاحظ ما يلي:
1 – أنَّ دراسات الزهـري التي تناولت حياة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، سواء منها ما قبل البعثة أو بعدها ، قد أعطت أول إطار واضح للسيرة ، و أنه رسم خطوطها بجلاء ، فترك لمن بعده أن يكمل هذا الإطار في التفاصيل فقط.
2 – أَنَّه راعـى التسلسـل الزمني و الشمولية في عرض حوادث السيرة من المولد إلى الوفاة و عدم الإقتصار على ذكر جانب واحد أو شذرات متفرقة منها (ابن هشام : السيرة) ، إذ أعطـى أحـد الباحثيـن وصفـاً لهذا المنحى الجديد في عرض أخبار السيـرة ، عـدّ فيه الزهـري أول جامع لما رواه التابعـون عن السيرة مع ما أضاف إليها من الأخبار التي أعطت بعد ذلك الهيكل العام للسير المعروفـة عنـد ابن إسحاق و موسى بن عقبة و الواقدي ، فقد أورد روايات تتعلق بحياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ، من الولادة إلى الوفاة ، منها رواية تتعلق بحمل آمنة بنت وهب به ، ووفاة والده عبد الله عند أخواله في يثرب ، و أخرى عن نسب النبي صَلَّى لَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ، ثم ما يتعلق بحوادث لهـا أهميتهـا فـي حيـاة النبـي صَـلَّـى اللَّهُ عَـلَـيْـهِ وَسَـلَّـمَ قبـل البعثـة ؛ كحلف الفضـول ، و بناء الكعبة ، و زواجه من خديجة رضي الله عنها ، و نـزول الـوحـي … إلـى غيـر ذلك (السيـرة النبـويـة لعبـد الملك بـن هشـام و تـأريـخ الـرسـل والملوك لابن جرير الطبري).
ثـم يلي ذلك روايات تتعلق بحالة الـدعـوة الإسلامية في العهد المكي ، مثل أول من أسلم ، و معاملة قريش للرسول صَلَّـى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّـمَ و المسلميـن الأوائـل ، و محـاولـة الـرسـول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْـهِ وَ سَلَّـمَ نشـر الدعـوة بين قبائل أخرى، و الهجرة إلى الحبشة ، و قصة الإسـراء و المعـراج ، و المقـاطعة، و بيعة العقبة و بـداية انتشـار الإسـلام في المدينة . (تأريـخ الرسـل و الملوك لابن جرير الطبري و السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام).
ثـم تأتي الـروايات المتعلقة بالفتـرة المـدنية ، بَدءًا بحديث الهجرة ، و بناء المسجد ، و حالة المهاجرين في المـدينة . وهناك تركيز على المغـازي و تفصيل لسرية عبد الله بن جحش ، و عدد المشاركين فيها ، و معلومات عن العلاقة مع اليهود ، و غزوة بدر وتفاصيلهـا ، ثم بقية الغزوات … إلى أن ينتهي بحجة الوداع ، ثم مرض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ و وفاته و دفنه وغير ذلك (ينظر : المغازي للواقدي و السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام).
نخلص مما ذكـرنا آنفـاً إلى أن الـزهـري قد وضـع الأسس والعنـوانات للمرتسم الزمني الخاص بحوادث السيرة بحسب أسبقيتها التـأريخية و ترك المجال مفتوحا لمن يأتي بعده ليكمل ما بدأه و يسد الثغرات التي ظهرت في أثناء عرضه حوادث السيرة في تطعيمها بما رافقها من أمور أغفلها أو لم يصل إلى تفاصيلها.
3 – الإهتمـام و الجـدية في إيراد مسانيد الروايات و الأحاديث، و يعزو الدوري هذا الاتجاه من قبل الزهري الذي خالف فيه سابقيه إلى أن وجهة الزهري هي وجهة محدث في تحصيل العلم و اكتسابه (بحث في نشـأة علم التـأريخ عند العـرب لعبد العزيز الدوري).
قطـع الإمام مـالك بـن أنـس (ت 179 هـ) بـريـادة الـزهـري فـي إسنـاد الحـديث ، إذ يعـده أول من تبنى إسناده (الجرح و التعديل لابن أبي حاتم) ، و هذا ما جعل أحد الباحثين يعطي للزهري دوراً كبيراً في تاريخ الحديث إذ يقول : (و يتضح لنا من بحث سـلاسل أسـانيد الحديث أن اسم الزهري يحتل معظم المكان الثاني بعد أسم الرسول صلى الله عليه و سلّم وهذا ما يجعلنا نقرر له دوره الكبير في تأريخ الحديث) (تأريخ التراث العربي لفؤاد سزكين).
و قد تمثلت النقلة المنهجية في الإسنـاد الذي تبنـاه الزهري في رواياته هي كتابة أسانيد متعددة لرواية واحدة أو التـي تكمـل بعضهـا بعضـاً ، إذ أطلق على هذا الإسناد (الإسناد الجمعي) (بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب لعبد العزيز الدوري).
و مما يدل على أهمية الإسنـاد عند الزهري ، أنه طلب منه أحد جلسائه ذات يوم أن يأتي بحديث من دون إسناد فقال الزهري له : (أيرقى السطح بلا سلّم ؟) (تدريب الراوي لعبد الرحمن السيوطي) ، و علق على راو لا يسند حديثه : (قاتلك الله … ما أجرأك على الله ألا تسند حديثك ؟ تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم و لا أزمة) (معرفـة علـوم الحديث لمحمد بن عبد الله الحـاكم النيسابوري (ت 405 هـ)).
بينت لنا هاتان الـروايتـان مـدى تشـدد و صـرامة الزهري بإسناد الأحاديث و الروايات ، و في شحذ همم الرواة و المحـدثين بذكر أسـانيد رواياتهم ؛ الأمـر الذي أثمر النتائج الطيبة في معرفة رواة الأحاديث و الأخبار التي كان لها الدور المهم في معرفة قوة الرواية و ضعفها مما كان له الأثر الفعال في تسهيل مهمة علماء الجرح و التعديل بعد ذلك.
4 – أنَّ الـزهري كان يكثر من إيراد الآيات القرآنية التي تتصل بالخبر التاريخي ، و ذلك لأنها تعطي وثاقة للخبر الذي يرويه في تلك الروايات (المغازي للواقدي) . وأحيانـاً تكاد الرواية التـاريخية تكون تفسيرًا للآية ، مثال ذلك ما روي عنه قال : (دخلت علـى عـروة بـن الـزبيـر و هـو يكتب إلـى هنيـدة صـاحب الـوليد بـن عبد الملك ، و كـان يسـأله عـن قول الله عز و جل : {يَا أَيُّهَا الَّذِيـنَ آمَنُـوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُـؤْمِنَاتُ مُهَـاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّـارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَ لَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَ اسْأَلُوا مَـا أَنفَقْتُـمْ وَ لْيَسْـأَلُـوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (سورة الممتحنة، الآيـة : 10) فكتب إليه أن رسـول الله صَلَّـى اللَّهُ عَلَيْـهِ وَ سَلَّـمَ صـالـح قريشـاً يوم الحديبية على أن يـرد إليهم من جاء بغير إذن وليه … فلما هاجـر النساء أبى الله ذلك … (المغازي للواقدي).
ثم يذكر بقية الرواية و هو يفسر مقاطع هذه الآية القرآنية إلى آخرها ، و ما ترتب عليها بعد ذلك ، ثم نحو ذلك في روايته عن سعيد بن المسيب خبر بيعة الرضوان (بيعة الشجرة) و ما نزل فيها ، و ربطه بين الآية القرآنية و هذا الحدث.
و يمكـن القـول إن هـذه الـروايات التـي ذكـرها الواقدي وغيره عن الزهري تظهر بجلاء أن دراسة القرآن ، و هو حـافـل بالإشـارات إلى شـؤون المسلمين في المـدينة ، كانت عامـلاً آخر في ظهور الدراسات التاريخية (ينظر : بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب لعبد العزيز الدوري).
كما سـربت مـواد أخـرى إلى روايات الزهري التاريخية ، فهناك شيء قليل من القصص الشعبي ، يلاحظ أثره في أماكن مختلفة ، مثـال ذلك مـا أورده الطبـري في مـواضع عـدة ، منها خبر عن الزهري عن كاهن أسلم و قدم المدينة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، و خبر عن موقف (هرقل) من كتاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ الذي قدم دِحْيَة الكلبي يدعوه فيه الرسول إلى الإسلام و غيرها (تأريخ الرسل و الملوك لابن جرير الطبري).
5 – إيراد ما قيل من شعر في الحوادث التي عرضها من أخبار السيرة (تأريخ الرسـل و الملـوك لابن جرير الطبري)، و هـذا راجـع إلى أن الزهري كان راوية للشعر ومتذوقاً له (المعرفة و التأريخ ليعقوب بن سُفيان الفسوي).
و قـد علل الـدوري هـذا المنحـى من قبل الـزهـري بالقول : (وهـذا طبيعي إذا تـذكـرنا أن النـاس عامة كانوا يميلون للشعر و أنه كان عنصراً أساسياً للثقافة) (بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب لعبد العزيز الدوري).
6 – أن الـزهـري لـم يقتصر في رواياته التاريخية على عهد النبوة ، بل امتد ليشمل عهد الخلافة الراشدة ، فقد تنـاول أحداث هذه الفتـرة بالتفصيـل ؛ بَدءًا بانتخاب الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، و بيعة السقيفة ، و خطبة الخليفة الصديق ، و مـرورًا بالأحـداث المهمة في عهد الخلفاء الثـلاثة : عمر بن الخطاب ، و عثمـان بن عفـان ، و علي بن أبي طالب ، و ينتهي برواياته التي غَطَّت هذه الفتـرة إلى عـام الجمـاعـة الـذي شهد مفـاوضات الحسن بن علي ، و معـاوية بن أبي سفيـان رضي الله تعالى عنه ، و اتفـاقهما علـى خـلافـة الأخيـر(ينظر : تـأريـخ الـرسـل و الملـوك لمحمد بـن جـريـر الطبـري و بحث في نشـأة علم التأريخ عند العرب لعبد العزيز الدوري).
أمـا مـا يتعلق بالعهـد الأمـوي ؛ فـإنـه و إن لـم يعـالـج الأحـداث التـاريخية فـي هـذا العهد ، إلا أنه أسهم ببعـض الـروايات التـي تتعلق بأعمـار الخلفـاء الأمـويين ، و مـدة حكـم بعضهم ، فيروى عن هشام بن الوليد المخزومي أن الزهري كتب لجده أسنان الخلفـاء ، فكـان فيما كتب من ذلك : و مات يزيد بن معاوية وهو ابن تسع و ثلاثين ، و كانت ولايته ثلاث سنين و ستة أشهر في قول بعضهم ، و يقال ثمانية أشهر.
و آخـر مـا يـذكـره الطبري عن الزهري في أخبار العهد الأموي ، هو مدة خلافة الوليد فيقول : (قال الزهري : ملك الوليد عشر سنين إلا شهرًا) (ينظر : تـأريـخ الـرسـل و الملـوك لمحمد بـن جـريـر الطبـري).
و خـلاصـة القـول ، فـإن الـزهـري يُعَدُّ مـن أوائـل مُـدَوِّنـي السيـرة النبـوية ، و قـد شملت كتـابـاته ، فضلاً عن المغـازي ، تـاريـخ صـدر الإسـلام ، و الأنسـاب التـي عـرف عنـه سعـة اطـلاعه عليها و تأليفه بها ، و جانباً من التاريخ العربي الإسلامي في العهد الأموي.
هـذه هـي الجهـود التي قام بها الزهري و التي أسهمت اسهاماً جاداً في تطور كتابة السيرة ، و أحدثت نقلة نوعية فيها فضلاً عن عرض أحداثها بأسلوب سهل و بسيط (ينظر : نشأة التدوين التاريخي عند العرب لحسين نصار).
و من هذا كله نرى أننا كلما اقتربنا من منتصف القرن الثاني الهجري ، أخذت الأصول الأولية للسيرة تأخذ بالوضوح شيئاً فشيئاً وذلك راجـع إلى قربها من مرحلة التبويب و التصنيف التي يحددها الذهبي بسنة 143 هـ ، إذ كان العلماء على حد قوله قبل هذه السنة يكتبون في صحف غير مرتبة (ينظر : تذكرة الحفاظ لمحمد بن عثمان الذهبي).
و كـان للـزهـري الـذي تـوفـي سنة 124 هـ ، عـدد آخـر مـن التـلاميـذ غيـر ابـن إسحاق ، و إن كانوا أقل شهرة مـن ابـن إسحـاق ، و منهـم مـوسـى بـن عقبـة المتـوفـى حوالي عام 141 هـ . و معمـر بن راشد المتوفى حوالي عام 154 هـ و هما من رجال الطبقة الثالثة ومن كبار علماء المغازي و السير .