أوجز السير لخير البشر لأحمد بن فارس اللغوي

الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الأول: تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة وتأريخها
الفصل الثاني: كتابة السيرة الشاملة والمستقلة وتطورها
المبحث الثاني: السيرة النبوية المختصرة المستقلة ومصنفوها

توطئة:
كتب العـديـد مـن العلمـاء مصنفات مختصـرة في مختلف العلـوم والفنـون والمعارف، وذلك لمن يريد معلومات مكثفة وسريعة عن موضوع ما، إذ علل أحد الباحثين بـروز هـذا المنحى برغبـة الأمـراء والعلماء بالتعـرف على معلومات سريعـة يضيق وقتهـم عن أوسـع منها وتقـل حاجتهـم إلـى أكثـر منهـا فضـلاً عن الرغبة في التخلص من نسخ المجلدات الواسعة مع الصعوبة في اقتنائها وفي نقلها والتي هي في الوقت نفسه غاليـة الثمـن وقلما يهتـم بها إلا المختصـون الهـواة، وهـذا ما أوجـد ظاهـرة طفحت على بعض المصنفات في التأريـخ الإسـلامـي (التأريخ العربي والمؤرخون لمصطفى شاكر)، وأضاف آخـر حـول بـروز هـذا المنحى الذي عـزاه إلى وجـود شـريحة مـن الناس ليست لهم المقـدرة علـى قراءة المصـادر الموسعة فاتجه بعض العلماء إلى كتابة المختصـرات في مختلف العلـوم المعـروفة آنذاك، بل قام بعض المصنفين باختصار مصنفاتهم لكي تلاقي رواجاً أكثر وعناية من قبل القراء والمهتمين بها (علم التأريخ عند المسلمين لفرانتز روز نثال).
شمـل هـذا المنحى كتابة السيـرة النبـوية أيضـاً، إذ نرى أن لإختصار السيـرة جذوراً قديمةً ظهـرت مع ظهـور المصنفات الأولى في سيـرة الـرسـول صلى الله عليه وسلّم، إذ أوضح ابـن سيد الناس (ت 743 هـ) هـذا الأمـر بقـوله: (وقفت على ما جمعه الناس قديمـاً وحديثـاً من المجـاميع فـي سيـر النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه وأيامه إلى غير ذلك مما يتصل به، لـم أر إلا مطيـلاً ممـلاً أو مقتصـراً بأكثـر المقـاصـد مخلاً، والمطيـل إمـا معتـن بالأسمـاء والأنسـاب والأشعـار والآداب أو آخـر يأخـذ كـل مأخـذ فـي جمـع الطـرق والـروايـات ويصـرف إلـى ذلك مـا تصـل إليـه القـدرة من العنايات، والمقصر لا يعدو المنهج الواحد ومع ذلك فلابد أن يترك كثيرا ما فيه من الفوائد …) (عيـون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير لمحمد ابن سيد الناس)، وهـذا ما لا حظنـاه عنـدمـا أشـار ابـن هشـام إلـى قيـامـه بكتـابـة مختصـر للسيـرة التـي صنفهـا محمد بـن إسحـاق، وهـذا مـا عـدّ أول مختصـر كتب للسيـرة النبـويـة، ولكننا وضعنـاه ضمـن كتب السيـرة المسهبـة وذلك لإدخالـه وإضافتـه روايـات لـم يـوردهـا ابـن إسحـاق فـي كتابـه، إذ خـرج بذلك هـذا الكتـاب مـن كـونـه مختصـراً لمـا كتبـه ابـن إسحـاق مـن روايـات وأسمـاء لا دخـل لهـا فـي سيـرة الـرسـول صلى الله عليـه وسلّـم، إلـى كـونـه مصنفاً مستقـلاً بذاتـه ومـن ثـم فـإننا لا نستطيع إطـلاق لفظ مختصـر عليه لذلك مـع كـون حجـم الكـتـاب يخـالف معنـى هـذه اللفظـة، حتـى أطلقت عليـه بعـض المصنفـات التـي أشـارت إليـه بعبـارة السيـرة النبـويـة لابـن إسحـاق بتهـذيـب ابـن هشـام.
قبل الدخـول في دراسـة المصنفـات المختصـرة التـي كتبت فـي سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم يجب علينا تأكيـد أن كتـابـة المختصـرات فـي سيـرة الـرسـول هـي التطـور ذاتـه فـي كتـابـة السيـرة فضـلاً عـن أن هـذا المنحـى التطـوري فـي كتـابـة الـسـيـرة قـد صـاحبـه هـو الآخـر تطـور ثـان مـن جـراء تعـدد المصنفـات التـي كتبت فيـه، أمـا أهـم المصنفـات فهـي:

المطلب الأول: أوجز السير لخير البشر لأحمد بن فارس اللغوي (ت 395 هـ):
مـصـنـف هـذا الكتـاب هـو مـن علمـاء اللغـة المشهـوريـن الذيـن صنفـوا فيهـا كتبـاً متعـددة وذاع صيتـه فـي ذلك باسـم أحمـد بـن فـارس النحـوي (البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي)، ومـع هـذه الشهـرة بالنحـو و اللغـة لـم يمنـع ذلك مـن تصنيفـه مصنفـات عـدة فـي السيـرة ومـواضيعهـا إذ كتب ثلاثـة مصنفـات هـي:
1 – أوجز السير لخير البشر
2 – تفسير أسماء النبي
3 – أخلاق النبي (معجم الأدباء لياقوت الحموي)

كتب أحمـد بـن فـارس سيـرة مـوجـزة للرسـول صلى الله عليه وسلّم فـي بضـع وريقـات (أوجـز السيـر لخيـر البشـر) عـدّت مـن قبـل الصفـدي (ت 764 هـ) مـن أقـل مـا كـتـب فـي سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم (الوافي بالوفيات لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي).
صـرح ابـن فـارس عـن دوافـعـه فـي إخـراجـه مـصـنـفـاً لـسـيـرة الـرسـول صـلى الله عـلـيـه وسلّـم بهـذا الحجـم فـي مـقـدمـتـه التي يقـول فيـهـا: (هـذا ذكـر مـا يحـق علـى المـرء المسلـم حفظـه وتـجـب عـلـى ذي الديـن معرفتـه مـن نسب رسـول الله صلـى الله عليه وسلـم ومـولـده ومـنـشـئـه ومـبـعـثـه وذكـر أحـوالـه فـي مغـازيـه ومـعـرفـة أسمـاء ولـده وعـمـومتـه وأزواجـه، فإن للعـارف بذلك رتبـة تـعـلـو رتـبـة مـن جهلـه … وقـد أتينـا فـي مـخـتـصـرنـا هـذا مـن ذلك ذكـرى)، ونـقـل الـسـخـاوي مقالة لابـن فـارس بيـن فيهـا هـذا الأمـر مـفـادهـا: (أن هـذا بخصـوصـه -ويقصـد بهـا سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم- ممـا يحـق معـرفتـه علـى المسلميـن، أفعلـى مـن يـزعـم أنـه عالـم ولا يـدري مـن هـم السابقـون الأولـون مـن المهـاجـريـن، ولا يـفـرق بـيـن مـن أنفـق مـن قبـل الفتـح وقاتـل، وبيـن مـن أنفق مـن بعـد ذلك، ولا يـعـرف أهـل بـدر … ولا مـن هـم أهـل بـيـعـة الـرضـوان، ولا يـعـرف مـن الأنـصـار ومـن الـمـهـاجـريـن) (الإعـلان بالتـوبيـخ لمـن ذمّ التـاريـخ لشمس الـديـن محمد بـن عبـد الـرحمـن السخـاوي).
تبيـن لنـا هاتان المقالتـان لابـن فـارس الهـدف الـذي حـداً بـه عـلـى كـتـابـة هـذا المختصـر الـبـسـيـط لـسـيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم، إذ انصب هـدفـه فـي الكتـابـة علـى إيجـاد مختصـر ضئيـل ومبسـط لسيـرة الـرسـول يستطيـع الـنـاس حفظـه وتعلمـه وفهمـه علـى مختلف طبقـاتهـم، فهـو بذلك أبـرز الجـانب التعليمـي فـي كتـابـة السيـرة علـى الجـانب العـاطفـي.
كـان هـذا الهـدف إحـدى السمـات التطـوريـة التـي أكسبهـا ابن فـارس لكتـابـة السيـرة وذلك بتصنيف كتـاب الغـرض منـه تثقيـف النـاس ببعض المعلـومـات عـن سيـرة الرسـول وأحـوالـه باختصـار حتـى يتسنـى لهـم حفظهـا.
انتهج ابـن فـارس فـي كتـابـه هـذا منهجـاً كـان هـو الآخـر سـمـة تضـاف إلـى كتـابـه بجعلـه أحـد المصنفـات التـي أسهمت فـي تطـور كتـابـة السيـرة، إذ تمثـل هـذا النهـج بمحـاور عـدة هـي:

1 – كتـابـة هـذا المصنف عـلـى وفـق منهج حـولـي شـديـد الصـرامـة وذلك بتـوثيق الحـادثـة التـأريخية باليـوم والشهـر والسنـة، فمـن ذلك إثبـاتـه لتـأريـخ مـولـد الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم الـذي وثقـه بعبـارتـه التـي مفـادهـا: (ولـد رسـول الله صلـى الله عليـه وسلّم عـام الفيـل لثمـان خلـون مـن ربيـع الأول) (أوجز السير لخير البشر)، كذلك تـوثيقـه لحـادثـه وفـاة جـد الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم عبـد المطـلـب التـي قـال فيهـا: (ولمـا أتت لـه ثمـانـي سنيـن -يقصـد الـرسـول- وشهـران وعشـرة أيـام تـوفـي جـده عبـد المطلب) (أوجز السير لخير البشر)، ووثـق أيضـاً حادثـة زواج الإمام علي بـن أبي طالب مـن فـاطمـة الـزهـراء عليهما السـلام إذ يقـول فيهـا: (فلمـا أتت لهجـرتـه سنـة وشهـر وإثنـان وعشـرون يومـاً زوج عليـاً فـاطمـة رضـي الله عنهمـا) (أوجز السير لخير البشر).

2 – إغفـال الشـواهـد والقـرائـن التـأريخيـة مثـل الآيـات القـرآنيـة والأحـاديـث النبـويـة والشعـر والخـطـب النثـريـة والمحـاورات بيـن شـخـوص الحـدث، إذ لـم يستشهـد بـأي مـن هـذه الشـواهـد والقـرائـن فـي كتـابـه هـذا إلا فـي مـواضـع قليلـة جـداً إستشهـد فيهـا ببعـض الآيـات القـرآنيـة، والأحـاديـث النبـويـة (أوجز السير لخير البشر).
كـان وراء هـذا الإغـفـال للـشـواهـد والـقـرائـن سبب وجيـه تمثـل بأن طبيعـة الكتـاب نفسـه لا تسمح بإيـراد مثـل هـذه الشـواهـد التـي تضخـم حجمـه وتـزيـد مـن كـم الـروايات التـي تـرد فيـه وإن حصـل ذلك فإن هـذا خـروج عـن الغـايـة التـي مـن أجلهـا صنف كتـابـه.

3 – عـدم إشـارة ابـن فارس إلى المصادر التي إعتمد عليها في كتابه هذا سواء أكانت مصادر مكتوبة أم روايات شفاهية باستثناء روايتين ذكر فيهما سلسلة سنده لرواتها (أوجز السير لخير البشر).

4 – تفـرده بـروايـات لـم تـوردهـا المصـادر المتقدمة مثـال ذلك إيـراده للخطبـة التـي قالها أبـو طالب فـي زواج الـرسـول صلى الله عليه وسلّم مـن خـديجـة (أوجز السير لخير البشر).

نالت هـذه السيـرة مكـانـة بـارزة عند العلمـاء الذيـن اطلعـوا عليها، إذ تشيـر كتب الفهـارس وتـراجـم الشيـوخ إلـى أن بـعـض العلمـاء قـد اهتـم بالحصـول على إجـازة روايتها وتـدريسها فـي حلقات الـدرس، وقـام آخـرون بإطـلاق عبـارات الثنـاء عليهـا، إذ وصفهـا العبـدري (ت 688 هـ) بالقـول: (وكتابـه هـذا (اختصـار السيـرة) هـو تأليـف نبيـل فـي أوراق يسيـرة)، وأطـراها الصـفـدي بالقـول: (ومـن أصغـر ما صنف في ذلك -يقصد به السيرة- جزء لطيف لابن فارس صاحب المجمل في اللغة) (الوافي بالوفيات لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفـدي).
لـم يقتصـر هـذا الأمـر علـى هـذا الـحـد، بـل تبـع ذلك قـيـام آخـريـن بشـرح هـذه السيـرة، إذ أشـار محقق هـذه السيـرة إلـى وجـود شـرحيـن لهـا مـازالا مخطـوطيـن، الأول شـرح الحسـن بـن علـي بـن بـاديـس القسنطينـي (ت 768 هـ)، أسـمـاه (فـرائـد الـدرر وفـوائـد الفكـر فـي شـرح مختصـر السيـر)، والثـانـي شـرح ابـن مـديـن بـن أحمـد بـن محمد الفـاسـي.

هـذه هـي الغايـات التـي كتبت مـن أجلهـا هـذه السيـرة والإنطباعـات التـي تـركتهـا علـى المصنفـات التـي تلتهـا والتـي أثـارت رغـبـة فـي تـكـرار تجـربـة كتـابـة مختصـرات عـن سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم إذ حفـزت بشكـل غيـر مبـاشـر هـذا الأمـر ودعمتـه.

                                                     

عن المدير