الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الثاني: تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة وتأريخها
الفصل الأول: كتابة السيرة الشاملة والمستقلة وتطورها
المبحث الأول: السيرة النبوية المسهبة والمستقلة ومصنفوها
المطلب الرابع: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأحمد البيهقي (ت 458 هـ) :
مصنف هـذا الكتاب هـو أحمد بـن الحسين بـن علي بـن موسى بن عبد الله، ولد سنة 384 هـ في بيهق إحدى قصبات نيسابور، درس الحديث والفقه على مذهب الإمـام محمد بـن إدريس الشافعـي (ت 204 هـ) وبـرع فيه حتى صـار من كبـار الأئمة فيهما، ولأجل ذلك وصف بأنه لو شاء أن يعمـل لنفسه مذهباً يجتهد فيه لكان قادراً على ذلك لسعة علومـه ومعرفته بالإختلاف، وترك لأجـل ذلك مصنفات كبيرة أصبحت في ما بعد أصولاً يعتمد عليها معظم المسلمين (تبيين كذب المفتري فيما نسب للإمام أبي الحسن الأشعري لعلي بن الحسن ابن عساكر).
كانت هنالك دوافع عدة جعلتنا ندخـل هذا الكتاب ضمن كتب السيرة الشاملة مع العلم أن الناظر للعنوان أول وهلة يلاحظ أن الكتـاب مخصص للحديث عن الدلائـل التي ظهرت من الرسـول صلى الله عليه وسلّم، ولكن بعد تصفحه يتبين أنه كتـاب في السيـرة قـرن فيه مؤلفه الدلائل التي ظهـرت من الرسـول بأحواله، إذ أشار إلى ذلك بمقدمته التي يقـول فيها: (واستعنت به في إتمام ما قصدته [تصنيف كتاب في دلائل النبوة] مع ما نقـل إلينا في شـرف أصله وطهارة مولـده وبيان أسمائـه وصفاتـه وقدري حياتـه ووقت وفاته وغير ذلك مما يتعلق بمعـرفته صلى الله عليه وسلم … والإعتمـاد على جملة ما تقدمـه من الصحيـح أو المعـروف عند أهل المغازي والتواريخ) (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة)، ولأجل ذلك كانت هذه الكلمات معبرة عن فحوى الكتاب ومضامينه التي جعلته ضمن مصنفات السيرة الشاملة.
شكل هذا الكتاب نقلة نوعية في كتابة السيـرة وذلك للإسهامات التي أضفاها والتي تضمنت محـاور وأساليب مثلت حلقة مهمة من حلقات التطور في كتابة السيرة النبوية، وهذه الإسهامات هي:
1 . كتب البيهقـي كتابـه هـذا على وفق منظـور فلسفـي وكلامـي، وبعبارة أدق كتب سيـرة الرسـول صلى الله عليه وسلّم مبـرزاً فيها الجانب الإعجـازي الذي تضمنهـا، إذ جعل من سيـرة الرسـول بمجملها معجـزة من المعـاجـز التي لا تصـدر عن أي كائن حـي إلا إذا كان نبياً مرسـلاً مـن الله سبحانـه وتعالى، ولأجـل ذلك نـراه قد بـرز قبل استعـراضه لهذه السيرة الخوارق والنبوءات السابقة للأنبياء والأصفياء و الصالحين ومعاجـزهـم ومقارنتهـا بمعـاجـز الرسـول صلى الله عليـه وسلّـم.
كان لهـذا المنحى الـذي سلكه البيهقـي صـدىً في العديد من المصنفات التي كتبت عن سيرة الرسـول صلى الله عليه وسلّم، إذ أشار ابن حـزم الظاهـري (ت 456 هـ) إلى هذا الأمـر بقوله: (وأن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد بأنه رسـول الله صلـى الله عليـه وسلـم حقاً فلو لـم تكن له معجـزة غير سيـرته صلى الله عليـه وسلـم لكفـي) (الفصل في الملل والنحل)، ووافقه ابن كثيـر في هـذا المنحى إذ قال: (وسيـرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقـه وأقوالـه وأفعالـه مـن آياتـه، أي مـن دلائل نبوته، … يظهـر بتدبـر سيـرته مـن حين ولـد إلى أن مـات) (البداية والنهاية لإِسْمَاعِيلُ ابن كثير).
بينت هـذه النصـوص آنفـة الذكـر مصداقية المنحى الذي سلكـه البيهقي فـي عـدّه سيـرة الرسـول دليلاً من دلائـل نبوتـه مقدماً إياها مـع معاجـزه وخوارقـه.
2 . استعمـال النقد والتمحيص بين الروايات والأحاديث وإبـداء الآراء فيها، وهـذا ما أكـده قوله: (وعادتي في كتبـي المصنفة في الأصـول والفـروع الإقتصـار مـن الأخبـار علـى مـا يصـح منها دون مـا لا يصـح، أو التمييـز بين مـا يصـح منها ومـا لا يصح ليكـون الناظـر فيها من أهـل السنة على بصيرة مما يقع الإعتماد عليه، فلا يجد من زاغ قلبه من أهـل البـدع عـن قبـول الأخبـار مغمـزاً فيمـا اعتمـد عليه أهـل السنـة مـن الآثـار) (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأحمد بن الحسين البيهقي).
استعمـل فـي هـذا النقـد والتمحيـص بيـن الروايات أساليب المحـدثيـن فـي ذلك، وكـان لإنتهـاجـه هـذا الأمـر سبب تمثـل بطلب أحـد تلامذتـه منـه معرفـة مـا أورده مـن روايات وأحاديث فـي هـذا الكتاب مـن حيث صحتها والإحتجـاج بموجبها، إذ يقـول: (و يعلم أن كـل حديث أوردته فيه قـد أردفتـه بما يشيـر إلى صحتـه، أو تركته مبهماً وهـو مقبـول فـي مثـل مـا أخرجتـه، وأوردته بإسناد فيه ضعف أشـرت إلى ضعفه وجعلت الإعتمـاد علـى غيـره)، ويضيف علـى ذلك بالقـول: (واستعنت في إتمـام ما قصدتـه مـن ذكـر دلائـل نبـوة نبينا ومعـرفة أحوالـه مـن الإكتفـاء بالصحيـح مـن السقيـم والإجتـزاء بالمعـروف مـن الغـريب، إلا فيمـا لا يتضـح المـراد مـن الصحيـح أو المعـروف دونـه فأوردتـه والإعتمـاد علـى جملـة مـا تقدمـه الصحيـح أو المعـروف عنـد أهـل المغـازي والتـواريـخ).
لم يكتف البيهقي بذلك بل اقتـرح على قـراء كتابـه أن يفهمـوا المعاييـر التي يبينهـا فيـه فـي مـا يخـص الروايـة والرواة، إذ يقـول فـي صـدر ذلك: (ومـن وقف علـى تميـز فـي كتبي بين صحيـح الأخبـار وسقيمهـا وساعـده التـوفيق علـى صـدق فيما ذكـرتـه، ومـن لـم ينعـم النظـر فـي ذلك، ولـم يساعـده التـوفيق فـلا يغنيه شـرحـي لذلك وإن أكثـرت، ولا إيضاحـي لـه وإن أبلغت).
وهكـذا فـإن البيهقـي بإشـاراتـه وإيضاحـاتـه هـذه للروايـة والرواة قـد أعطى مفاتيح لمـن يريـد تعـرّف مقـدار وثاقة وضعف المحـدث والحديث والروايـة، ممـا يبيـن انصهـار مناهـج المـؤرخين فـي عـرض الرواية التأريخيـة بمقاييـس المحدثيـن ومعاييرهـم، وهـذا مما لا نجـده بنفس الوضـوح فـي مصـادر أخـرى عرضت سيـرة الرسـول صلى الله عليه وسلّـم مستعملـة هـذا المنحـى فـي الكتابـة.
3 . إيراده روايات لم توردها المصادر التي تقدمت عليـه ولـم تكـن معروفـة قبلـه، أو تعـرضـه لحـوادث تناولتهـا المصنفـات التـي سبقتـه بالإختصـار والإقتضـاب، فمـن ذلك مـا ذكـره عـن حديث قس بـن ساعـدة الإيـادي الـذي تنبـأ فيـه بظهـور نبـي في أرض العـرب أوشك زمـانـه علـى الحلول (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأحمد بن الحسين البيهقي)، ورؤيـة صـورة النبي مع صـور الأنبيـاء، وحديث أحـد الكهان الذيـن تنبـأ أيضـاً بظهـور الرسـول صلى الله عليه وسلّم، وغيـر ذلك مـن الروايـات التي زخـر بها هـذا الكتاب ولا سيمـا عنـد حديثـه عـن الحقبة الزمنيـة التـي سبقت ولادة الرسـول صلى الله عليه وسلّم والبعثـة النبويـة.
أما بالنسبـة الـى الحـوادث التـي أوردتها المصنفـات التي سبقتـه مختصـرة، فقد أرخـى البيهقي لنفسـه العنـان فـي تفصيـل مجـريات هـذه الحـوادث، فمـن ذلك حادثـة حفـر عبد المطلب جـد الرسـول صلى الله عليه وسلّم لبئـر زمـزم، كذلك ذكـره لحادثـة مولـد الرسـول صلى الله عليه وسلّم بتفاصيلها، وإسهابه فـي ذكر حادثـة المباهلة مـع نصارى نجـران التي تضمنت ذكـراً لتفاصيلها ابتـداءً مـن دخـول هـؤلاء النصـارى المدينـة وانتهـاءً بخروجهـم منهـا.
4. فسـح المجـال للأحاديث والروايـات الضعيفـة والمـوضـوعـة والمكـذوبـة بـأن تأخـذ مجـراهـا فـي الكتـاب علـى الرغـم مـن تأكيـده التيقـظ والرويـة فـي إثبـات الأحاديث والروايات الصحيحـة والمشهـورة عنـد أهـل المغـازي والتـواريـخ.
فـمـن هـذه الـروايـات ذكـره لـحـادثـة شـق الـصـدر بـتـفـاصيـل وطـرق لـم تـرد عـنـد سـابـقيـه، إذ علـق بعـد إيـراده لهـا: (وقـد روى محمد بـن زكريا الغلابي بإسنـاده عـن ابـن عبـاس عـن حليمـة السعديـة هـذه القصـة بزيادات كثيـرة وهـي لـي مسمـوعـة، إلا أن محمد بـن زكـريـا هـذا متـهـم بالـوضـع فالإقتصـار علـى مـا هـو مـعـروف عنـد أهـل المغـازي أولـى، ثـم أنـي استخـرت الله تعالى في إيـرادهـا فوقعت الخيـرة علـى مـا تـقـدمـه مـن نـقـل أهـل المـغـازي لشهـرتـه بيـن المذكـوريـن، فضـلاً عـن هـذا كله فقد تضمـن أحـد أجـزاء هـذا الكتاب مـن هـذه الروايات الشـيء الكثيـر (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأحمد بن الحسين البيهقي).
لـم تـرد هـذه الروايات التـي وردت فـي كتـاب البيهقـي هـذا فـي مصنفـات سبقت هـذا الكتـاب، ومـا ذلك إلا لعـدم قنـاعـة المتقـدميـن عليـه بالروايـة والـرواة فضـلاً عـن أن هـذه الروايـات هـي مـن نتـاج عقليات القصـاص الذيـن يميلـون قلـوب النـاس إليهـم وذلك بـروايتهـم لكـل غـريب ومستعظـم ومهول في نفوس الآدميين (القصاص والمذكرين لأبي الفرج ابن الجوزي)، ممـا دفع هذا التكـالب فـي إيـراد الـروايات الخـاصـة فـي معاجـز الرسـول والخـوارق التي بدرت منـه إلـى شـن أحـد المتـربصيـن للإسـلام والمسلميـن مـن الذيـن ينظـرون إلـى الأمـور بجـزئيـة إلـى نبـذ هـذه الروايـات كلهـا، إذ يقـول ابـن العبـري (ت 683 هـ) فـي معـرض حـديثـه عـن دلائـل نبـوة الرسـول والمعجـزات الـتـي أحصتهـا الكـتـب لـه: (وقـد نقـل عنـه المعجـزات … كانجـذاب الشجـر إليـه وتسليـم الحجـر عليـه … ولـم يبلـغ رواة هـذه الغـرائب حـد التـواتـر إنـمـا نقلت علـى سبيـل الآحـاد وكـان اعتمـاد العـلـمـاء مـن الإسـلامييـن فـي إثبـات نبـوتـه علـى القـرآن وادعـوا فيـه الإعجـاز لأنـه تحـدى الفصحـاء) (تاريخ مختصر الدول لغريغوريوس الملطي ابن العبري). ومن هذا كله نرى أن إيراد هذه الروايات قد كان نقطة ضعف تسجل على هذا الكتاب.
5 . استعمـال منهجيـة صـارمـة فـي إيـراد الـروايـات الـتـي تـعـد طـريـقـة فـريـدة مـن نـوعـهـا فـي مـثـل هـذه المصنفـات، إذ تمثلـت هـذه المنهجيـة بتطبيـق قـواعـد وأسـس خـص بـهـا البيهقـي كتـابـه هـذا، ويمكـن إجـمـال هـذه القـواعـد والأسـس التـي اختطهـا البيهقـي والتـي شكلت نقلة نوعية في مناهج كتابة السيرة بعدة محاور هي:
أولاً: جمع أسانيد الروايات المتعددة في سند جمعي واحد: وذلك بـأن يأتي بالطـرق التي وردت الروايـة بهـا فيذكـرهـا كلهـا في سيـاق واحـد، وتستعمـل هـذه الطـريقـة عندمـا تستـوي مـراتب الـرواة وتتفق رواياتهـم لفظـاً ومعنـىً ويجمع بينهم في سياق واحد (علوم الحديث ومصطلحه لصبحي إبراهيم الصالح)، وسلك البيهقـي في هذا الجمع للأسانيد مسالك عـدة هـي:
أ . العطف بيـن الشيـوخ، وذلك بأن يـروي الحادثة الواحدة عن شيخين فأكثر من شيوخه عاطفاً بينهم بالواو، ثم يذكر الإسناد والمتن لهذه الرواية (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأحمد بن الحسين البيهقي).
ب . تعـداد الأسانيد وذكـر المتن عقب الإسناد الأول للحديث أو الرواية مع استعمال عبـارة: (بمثله، بنحوه، فذكره بمعناه) (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأحمد بن الحسين البيهقي).
ج . إفـراد كل سند مع متنـه بالرواية، وذلك بأن يـروي الحديث أو الـروايـة بأسانيـد متعـددة ويتبع كـل إسنـاد بلفـظ المتـن والـذي روي بـه فيعيـد المتـن لزيـادة ألفاظ أو دلالات أو اختلاف بين الرواة فيه (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأحمد بن الحسين البيهقي).
د. اختصـار الأسانيد، وذلك بأن يروي الحديث أو الرواية بسندها أو بمتنها ثم يذكر عقب ذلك باقي الأسانيد، ولكنه يكتفي مـن ذلك بذكـر بعض العبارات التي تبين هذا المنحى مثل: (وبإسناده أو بمثل هذا الإسناد) (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأحمد بن الحسين البيهقي)، استعمـل هـذا الـنـمـط مـن أنـمـاط جـمـع الأسانيـد فـي الروايات التـي تتسلسـل الواحـدة تلـو الأخـرى ويتشـابـه رواتهـا .
كـان هـذا المنحـى مـن قبـل البيهقـي بجمعـه لأسـانيـد روايـاتـه محاكيـاً لنهـج مـن سبقـه فـي ذلك وخصوصـاً محمد بـن إسحـاق الـذي سـار علـى هـذا الـنـهـج فـي السيـرة التـي كتبهـا للـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم (المغازي الأولى ومؤلفوها ليوسف هوروفتس)، ولكـن محاكـاتـه هـذه لـم تكـن بالمعنـى الحـرفـي بـل كانت صيغـة مغـايـرة لمـا انتهجه المصنفـون الذين سبقـوه، لأن اتجـاهـه هـذا كـان ثمـرة مـن ثمـار المسيـرة الطويلـة التـي قطعهـا علـم الحـديث والإسنـاد والتـي بلغت أكثـر مـن ثلاثـة قرون ونصف (دراسات في الحديث النبوي لمحمد مصطفى الأعظمي).
ثانياً : إيراد بعض الروايات عن الحوادث التأريخية مقرونة بالقرائن المؤكدة لها سـواء أكانت تلك القـرائن علـى هيـأة آيـة قرآنيـة أم حديث نبـوي شـريف أم موافقة لروايـة راو آخـر ذكـرها بسنـد مختلف، وقـد انتهج البيهقـي فـي إثبـات هـذه القـرائـن منـاحـي عـدة، وهـذه المنـاحـي هـي:
أ . بـدء بعـض أبـواب الكتاب بإيـراد آيـات مـن القـرآن تكـون بيانـاً لمـا سيتنـاولـه هـذا البـاب مـن مبـاحـث، فقـرن بـذلك آيـات القـرآن بالحـوادث التـأريخيـة التـي رافقت نـزولهـا (دلائـل النبـوة ومعـرفة أحـوال صاحب الشريعة لأحمد بن الحسين البيهقي).
ب . تقديـم الروايـات التي لها أصـل في الصحيحين (البخاري ومسلم) أو أحـدهمـا علـى الروايـات الأخـرى التـي تـرد بـطـرق مختلفـة، وذلك عـنـد بـدايـة عـرضـه لـبـعـض حـوادث الـسـيـرة (دلائـل النبـوة ومعـرفة أحـوال صاحب الشريعة لأحمد بن الحسين البيهقي)، ولم يحد عن هذا المنحى إلا لسبب يقتضي ذلك كأن تكون الرواية أو الحديث المخرج أكثر انطباقاً على الصيغة أو العنوان الذي عقـده للبـاب أو الفصـل الـذي يروم الكتابة فيه من الرواية التي وردت في الصحيحين أو إحداهما (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأحمد بن الحسين البيهقي).
ج . الإكثار من إيراد المتابعات من الروايات، إذ كان قصـده مـن إيـراد تلك المتابعات هـو تقوية تلك الروايـات من حيث حقيقـة وقوعهـا، وذلك لأن الروايـة أو الحديث إذا تعـددت طـرقـه قـوي وصـار صالحـاً للإحتجـاج بـه إن كـان ضعيفـاً أمـا إذا كان صحيحـاً فإنه يـزداد قـوة إذ ورد مـن طـريق آخـر (تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي لجلال الدين بن أبي بكر السيوطي).
هـذه هـي المنهجية التي اتبعها البيهقي في إيراد الروايات الخاصة عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلّم ودلائل النبوة والتي تعد طريقة فريدة من نوعها لأنها مثلت تلاقحاً بين مناهج المؤرخين والمحدثين في الكتابة التاريخية بعامة والسيرة النبوية بخاصة.
6 . إيـراد نصـوص شعـريـة مـن قصـائـد وأراجيـز لـم تـوردهـا المصـادر التي تقـدمت عليه وقـد بلغت هـذه النصـوص (115) نصـاً شعرياً، ولـكـن هـذه النـصـوص كانت ناقصـة ومبتـورة وذلك لتأثيـر صبغـة المحـدث التـي اصطبـغ بهـا منحـاه مـن إيـراد الأشعـار، لأن المحـدثيـن كـانـوا حـذريـن جـداً فـي إيـراد الـشـعـر، أو عـدّه مـن المنمقـات للـروايـات، إذ لـم يعتمـدوه دلـيـلاً علـى صـحـة الـخـبـر المـروي (الإسلام والشعر ليحيى الجبوري).
عطف علـى الـروايـات التـي أورد فيهـا نصـاً شعريـاً مبتـوراً بعبـارة : (وذكـر سائر الأبيات، أو إلى آخر القصيدة) (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأحمد بن الحسين البيهقي)، وهذا ما يبين أنه لم يكن مهتماً بإيراد جميع أبيات القصائد التي يستشهد بها، ولكن هذا الأمر لم يكن منطبقاً على كل صحائف الكتاب بل وجدنا هنالك قصائد قد أوردها كاملة في مضانها، واللافت للنظـر أن هذه القصـائـد التـي أوردهـا كـان لـهـا النصيب الأوفـر مـنـهـا بـروايـة ابـن إسحـاق لهـا والتـي لـم تـوردهـا المصـادر التـي اعتمـدت علـى سيـرتـه التـي كتبهـا.
هـذه هـي طبيعـة الأشعـار التـي وردت فـي هـذا الكتـاب والتـي حفظ لنا بموجبهـا قسمـاً مـن شعـر السيـرة الضـائـع الـذي أغفلتـه المصـادر السابقـة عليـه، ولكـن هـذا الشعـر لـم يمحص وينقـد كمـا فعـل ابـن هشـام عنـد عـرضـه شعـر السيـرة.
حفـزت هـذه الإسهـامـات مجتمعـة العلمـاء بإبداء وجهات نظـر متعـددة فـي هـذا الكتاب وذلك بعد ما اطلعـوا عليه واستعملـوه فـي مصنفاتهـم، إذ لـم نجـد مصنفاً مـن المصنفـات التي تلته والتـي تعـرضت لسيـرة الرسـول صلى الله عليـه وسلّم إلا وكـان هـذا الكتـاب أحـد مصـادره الرئيسـة (تهذيب تاريخ دمشق الكبير لأبي القاسم ابن عساكر)، أما وجهات النظر فقد كانت متفقة على كون هذا الكتـاب مـن المصنفات المهمـة لسيـرة الرسـول ودلائـل النبـوة، إذ يقـول الـذهبـي فـي معـرض حـديثـه عـن هـذا الكتـاب: (فعليك يا أخـي بكتـاب دلائـل النبـوة للبيهقـي فإنه شـفـاء لمـا فـي الصـدور وهـدى ونـور) (سير أعلام النبلاء لشمس الدين بن عثمان الذهبي)، ويبـدي ابـن كثيـر رأيـه بهـذا الكتاب فيقول: (وقد جمع الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله كتاباً شافياً … مقتدياً بمن تقدمه في ذلك كما اقتدى به كثير ممن أتى بعده) (الفصول في اختصار سيرة الرسول لإسماعيل ابن كثير).
ولأجـل ذلك كانت لهذا الكتـاب مكإنة طيبة فـي نفـوس العلماء، إذ شـرع بعض المتـأخـريـن باختصـاره واقتضـابـه، إذ ذكـر حاجـي خليفـة أن أبـا حـفـص عـمـر بـن علـي الأنصـاري المعـروف بابن الملقـن (ت 804 هـ) قـد اختصـر هـذا الكتـاب (كشف الظنون عن أسامي الفنون لحاجي خليفة)، وأطلـع برو كلمـان علـى مختصـر لكتـاب (دلائل النبوة) مخطوطاً في مكتبة الظاهرية في سوريا، ولكنه مجهـول المـؤلف يحمـل أسـم (بغية السائل عما حواه كتاب الدلائل عـن سيـرة النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته) مكتوباً سنة 755 هـ (تأريخ الأدب العربي لكارل برو كلمان).
قبـل أن نختم عرضنا للمناحي التطـوريـة التي أسهم بها البيهقي في كتابته لسيـرة الرسـول صلى الله عليه وسلّـم، يجب التنبيـه إلـى أن هـذا الـكـتـاب قـد حـوى قسمـاً كبيـراً مـن السيـرة الـتـي كتبهـا محمد بـن إسحـاق ولا سيمـا في البـاب الخـاص بـدلائـل نبـوتـه مـن مـولـده إلـى وفـاتـه (دلائـل النبـوة)، إذ اعتمـد علـى روايـة يونـس بـن بكيـر لهذه السيرة التي تتضمن بحسب رأي بعض الباحثين روايات لم ترد عند باقي رواتها (رواة محمد بـن إسحـاق بـن يسـار فـي المغـازي والسيـر وسـائـر المـرويات لمطـاع الطـرابيشـي)، ولأجـل ذلك نستطيـع وضـع مـصـنـف تـوفيقـي بيـن مـا كتبـه ابـن هشـام والطبـري مـن نقـول عـن سيـرة ابن إسحـاق وبيـن ما كتبه البيهقـي مـن نقـول مـن هـذه السيـرة للكـم الهائـل مـن الروايـات التـي حـواهـا كـل مصنف مـن مصنفـات هـؤلاء الأعـلام.