السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام المعافري

الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الثاني: تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة وتأريخها
الفصـل الثـانـي: كتـابـة السيـرة الشـاملـة والمستقلـة وتطـورهـا:
المبحـث الأول: السيـرة النبـويـة المسهبـة والمستقلـة ومصنفـوهـا:

المطلـب الثـالـث: السيـرة النبـويـة لعبـد المـلك بـن هشـام المعـافـري
هـو عبد الملك بن هشـام بن أيوب الحميري الذهلي المعافري (بفتح الميم والعين المهملة، وبعد الألف فاء مكسورة)، نسبة إلى المعـافر بـن يعفـر قبيل كبير، ينسب إليه بشـر كثير عامتهم بمصر، وأصله من البصرة، نشأ في البصرة ثم نزل في مصر ومات بها. وصف هذا الرجـل بأنه كان أديبا إخبارياً نسابةً وإماماً في اللغة والنحو والعربية (إنباه الرواة على أنباء النحاة لعلي بن يوسف القفطي)، وله كتاب في أنساب حمير وملوكها، وكتاب في شـرح ما وقع في أشعار السيـرة من الغـريب، وله كتاب السيرة الذي اشتهر به، وهو مختصر لسيـرة ابن إسحاق، مع بعض الزيادات، أو التعقيبات والتصحيحات، ولئن كانت سيرة ابن إسحـاق لم تصلنا بعينها فقد وصلتنا مهذبة على يد ابن هشام الذي تلقّاها عن أبو محمد زياد بن عبد الله البكّائي شيخ ابن هشام.
أسهـم ابـن هشـام إسهاماً بارزاً في تنقيح وتهذيب السيـرة التي كتبها محمد بـن إسحـاق، إذ بين منهجه حيال هذه السيـرة بديباجته التي افتتح بها تهذيبه هذا والتي مفادها: (هذا كتاب
سيـرة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلّم … وأنا إن شاء الله مبتـدىء هذا الكتاب بذكر إسماعيـل بـن إبـراهيـم، ومـن ولـد رسول الله صلّى الله عليه وسلّـم من ولـده، وأولادهـم لأصلابهـم، الأول فالأول من إسماعيـل إلى رسول الله، وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيـل على هذه الجهة للإختصـار، إلى حديث سيـرة رسـول الله صلّى الله عليه وسلّـم، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحـاق مما ليس لرسـول الله فيه ذكـر، ولا نـزل فيه مـن القـرآن شيء، وليس سبباً لشـيء مـن هـذا الكتاب، ولا تفسيـراً له، ولا شاهـداً عليه، لمـا ذكـرت من الإختصـار، وأشعـاراً ذكرها لم أر أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكـره، وبعضه لم يقـر لنـا البكـائـي بـروايتـه، ومستقـص إن شـاء الله تعـالـى مـا سـوى ذلك منـه بمبلـغ الـروايـة لـه، والعلـم بـه) (السيـرة النبوية لعبد الملك بن هشام).
مـن أجل هذا نسي ابن إسحـاق، وذكـر ابن هشـام، فلم يعد يذكر هذا الكتاب في السيرة إلا مقروناً باسم ابن هشام، لا يكـاد يـذكـر ابـن إسحـاق إلى جـانبه، وهـذا بالنسبة للمتـأخـرين، أما المتقدمـون فـلا يذكـرون إلا ابـن إسحـاق، وكـانت وفـاة ابـن هشام سنـة ثمـانـي عشرة ومائتين.
كانت هنالك دوافع وحوافز عدة غير التي ذكرها في مقدمته آنفة الذكـر، ساعدت على قيام ابن هشـام بتهذيب سيـرة ابن إسحـاق، إذ كانت هذه الحوافـز متمثلة بوجود آليات امتلكها ابن هشـام ساعدت على شـروعه في هذا الأمـر، إذ أشارت المصادر التي ترجمت له أنه كان من المشـار إليهـم بالبنـان في التبحـر بعلوم العربية والنحو واللغة، وعلماً من أعلامها (إنباه الرواة على أنباء النحاة لعلي بن يوسف القفطي).
شكلت هـذه الأمـور مجتمعة نقطة تحول بارزة في كتابة السيـرة النبوية واسهاماً جاداً في تطورها، حتى عدّت السيرة التي كتبهـا ابن هشـام أحد المختصـرات الأربعة التي فضلت على أصولها في التراث
الإسلامي (المزهر في علوم اللغة وأنواعها لجلال الدين بن أبي بكر السيوطي)، حتى وصفها ابن حجة الحموي (ت 767 هـ) بالقول: (فان السيـرة النبـوية المنتظمة بتأليف إمـام الحفـاظ أبي محمد عبد الملك بن هشـام حكم بصحتها وقبلت الشهادة بها وعقدت الحناجر وأزالت الإبهام) (بلوغ المرام من سيرة ابن هشام والروض الأنف والأعلام لأبي بكر علي بن عبد الله الحموي)، وهذا الأمر راجع إلى المنهج الذي اتبعه ابن هشام في تهذيبه لسيرة ابن إسحاق، والذي أكسب كتابة السيرة تطـوراً ملحـوظاً، إذ تمثل هذا التطور بعدة أمور هي:

1 – حـذف بعـض الأخبـار والأحـداث: وهـي التي يشنع ذكـرها وسماعها أو الأحداث التي لا علاقة لها بالسيرة من قريب أو بعيد أو التي فيها حشو وتطويل، وهذا ما لمسناه في مقدمته التي افتتح بها تهذيبه هذا.
كان هـذا النهج في كتابة السيـرة مستحسناً ومستهجناً في آن واحد، ذلك أنه أستحسن عندما هذب السيرة من الأخبار التي لا علاقة لها بها، واستهجن لأنه قد أثار الشبهات والشكوك حول صحة المعلومات التي وردت فيها والأخبار التي حذفها، إذ وصف الصفدي (ت 728 هـ) سيرة ابن إسحـاق بأنها قد رواها عنه جماعـة منهم من زاد ومنهم من نقص (الوافي بالوفيات لخليل بن أيبك الصفدي). فكـان ابـن هشـام كما ذكـر هو نفسه ممن نقص وزاد، وأعطـى اليافعـي (ت 768 هـ) عذراً لتصـرف ابن هشام هـذا بأنه قد هذب السيرة ولخصها لكونه أديباً ونسابةً (مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان لعبد الله بن أسعد)، هـذا مـن جانب العلماء الأوائل، أما بالنسبة الـى الباحثيـن المحدثيـن فقد تباينت وجهات نظـرهم في منحى ابن هشام هذا إذ يقول أحدهم: (لكن مما يأسف عليه لجوء ابن هشام إلى حذف الكثير من مادة ابن إسحـاق التي عدها غير ضرورية ثم صيرورته إلى تعديل بعض الأخبار أو تغذية ألفاظها بحسب ما فهمها ليكسبها قبولاً ووضوحاً حين رأى أنها تفتقر إليهما، ولا شك في أن تعديلاتـه وشروحـه هـذه تأثـرت ببيئته الثقافية وطبيعة عصـره الذي عاش فيه … حتى كانت اهتمامات ابن هشام اللغوية قد أثرت تأثيراً كبيـراً في طريقته باختيار الأخبار وفي إيـرادها، وقد ذهبت بعض اهتمامات ابن إسحاق التأريخية والأخبارية ضحية دقة ابن هشام اللغوية … ومن ثم فان لهـذا النـوع من الحذف ولا شك أسباباً سياسيةً وأخرى تتصل بالصورة التأريخية لعصر ابن هشام عن النبي وصحابته (مقدمة تحقيق كتاب المغازي والسير لابن إسحاق تأليف سهيل زكار)، وينتهي باحث آخـر إلى وصف السيـرة التي هذبها ابتن هشـام بأنهـا لا يطمئـن لها مـن حيث شمـوليتها لكل الأمور الجوهرية التي ذكرها ابن إسحاق (دراسات في حضارة الإسلام لجب هاملتون)، وينتهـي آخـر إلـى وصف هـذه السيرة بأنها سيرة محرفة ومبسترة ومعدلة (هامش على كتاب التمدن الإسلامي لجرجي زيدان، تأليف حسين مؤنس).
مـع كـل ما قيل فـان هوروفتس لـم يكن بحدة هؤلاء إذ وصف تجربة ابن هشام هذه بأنها جهد موفق حفظ لنا جانباً كبيراً من كتـاب ابـن إسحـاق الذي لولا جهـد ابـن هشـام هـذا لعددنا كتاب ابن إسحاق في عداد الكتب الضائعة (المغازي الأولى ومؤلفوها ليوسف هوروفتس).

2 – الإهتمـام بالشعـر الـذي ورد فـي سيـرة ابـن إسحـاق: إذ تمثـل هـذا الإهتمـام بمحاور عدة:

2 – 1 – حـذف الكثيـر مـن الأشعار التي أوردها ابـن إسحـاق وقـد شمـل هـذا الحـذف:
2 – 1 – 1 – حـذف الأشعـار المنحـولـة إذ تمثـل هـذا الحذف بعبارته التي افتتح بها كتابه والتي مفادها: (وتارك ذكـر … أشعاراً ذكرها لم أر أحـداً من أهـل العلم بالشعـر يعرفها)، إذ نلمس من هذا الكلام وجود قناعة خاصة في معرفة الأشعار المنحولة التي أثبتها ابن إسحاق في سيرته.
تمثلت هـذه الفكـرة التي نهجها ابن هشام في مواطـن عديدة من السيرة التي كتبها للرسول صلى الله عليه وسلّم، فمن هذه المواطـن تعليقه على الشعـر الذي أورده ابن إسحاق والذي تضمـن ما قاله عبد المطلب جد الرسـول صلى الله عليه وسلّم في حادثة ذبح ولده عبد الله: (وبين أضغاث هذا الحديث رجز لم يصح عندنا عن أحد من أهل العلم بالشعر).
عـلل أحـد الباحثيـن منحى ابن هشام هذا بالقول: (وعمومـاً فـإن تـرك ابـن هشـام للأشعـار المنحـولـة التي أوردهـا ابـن إسحـاق فـي سـيـرتـه والـتـي لـم تـصـح لـديـه، لعـدم معـرفة أحـد مـن أهـل العلـم بالشعـر بهـا أو لإنكـار ثقـات لهـا واقتنـاعهـم بعـدم صحتهـا، هـو عمـل توثيقـي عظيـم خلـص شعـر السيـرة من أخطـر سـوءة كانت تشـوه حقيقته، وأعـاد إلينـا الكثيـر من الثقة والاطمئنان إلى أصالته) (شعر السيرة النبوية لأحمد شوقي رياض)، ولكـن هذا الرأي فيه من المبالغة والتسرع في طرح وجهات النظر الشيء الكثير إذ إن حـذف ابـن هشـام لهـذا الشعر الذي خلص السيرة بحسب رأيه من التشـويه قد أفقدنا من الناحيـة التأريخيـة والعلميـة بعض الإشارات والأساليب التي استعملت فـي هـذا الشعـر المنحـول إن صـح رأيـه فيها لأننا لـم نحصـل على تلك الأشعـار حتى نتبين مدى مصداقية ابن هشـام في حذفه لها بوصفها أشعارا منحولة، إذ كان الأجدر به إيراد تلك الأشعار مع تبيان رأيه فيها وترك الحكم عليها من قبل قرائها ليتبينوا صحة ما قاله ابن هشام فيها.

2 – 1 – 2 – حـذف الأشعـار الـرديئـة وشملت هذه الأشعار ما لم يتكامل وزنه، والتي في وزنها الشعـري ركاكة، والتي اختلفت قوافـي أبياتها، إذ نراه قد طبق هذا المنحى في أماكن عديدة، اذ حذف بعض الأبيات من قصيدة قالها أحد الشعـراء يرد فيها على قصيدة حسان بن ثابت شاعـر الرسـول صلى الله عليه وسلّم، لاختلاف قوافي هذه الأبيات، وهذا ما جسدته مقالته التي مفادها: (لقيت منها أبياتا تركناها لقبح اختـلاف قوافيها)، وحذف أيضاً أبياتاً شعريـةً لأحد المشركيـن التي رثى بها أبناءه الذين قتلوا في معركة بدر معللاً سبب هذا الحذف بالقول: (هذا أفواء وهي مشهورة في أشعارهم وهي عندنا إعفاء، وقد أسقطنا من رواية ابن إسحاق ما هو أشهر من هذا).
مـن هـذا نلاحـظ أن ابـن هشـام قـد أشـار في بعض الأحيـان إلـى مـا يحـذفـه من أبيـات وقصـائـد، ولكنـه مـن قـولـه آنـف الـذكر يبيـن لنـا أنـه تـارة يـذكـر سـبـب حـذفـه لهـذه الأبيـات وتارة يتـرك سبب حـذفهـا مـن دون إشـارة، ممـا يـدل علـى أن الشعـر الـذي خـفـي عـنـا كـان أعظـم ممـا هـو مثبت، أما ظاهـرة الأقـواء التي ذكـرها آنفـاً فقـد أوضـح معنـاهـا أحـد البـاحثيـن بالقـول: (وظاهـرة الأقواء في القصيـدة هـي اختـلاف شكـل القـوافـي بيـن الـدال المنصـوبـة والـدال المكسـورة والتي تأتي على غير ذلك فـي اختـلاف في الشكـل) (شعر السيرة النبوية لأحمد شوقي رياض)، أمـا قـول ابـن هشـام عـن هـذه الظـاهـرة، وهـي مشهـورة فـي أشعارهم، يدل على أن شعر المكيين كان يكثر فيه هذا العيب الشعري.
وهكـذا فان ابن هشام في منحاه هذا قام بحذف بعض القصائد والأبيات الشعرية لا لشك منه فـي صحـة صـدورهـا من أفـواه قائليهـا بـل كـان علـى أساس إنتقـاء الأشعـار الجيـدة والحسنـة وإثباتهـا في تهذيبه هذا لسيرة ابن إسحاق ورفع الأشعار الرديئة التي تشكل برأيه عيبـاً ظـاهـراً فـي هـذا التهـذيب إن هـو أثبت هـذه الأشعـار، وهـذا الأمـر أفقدنا معلـومات تأريخيـة مهمـة تضمنتها تلك الأشعـار التـي حذفهـا ابـن هشـام.

2 – 1 – 3 – حـذف الأشعـار المقـذعـة ومعنـى القـذع فـي اللغـة هـو الخنـا والفحـش، وأقذعـه أي رماه بالفحـش وأساء القـول فيه وهو الفحـش في الكـلام الذي يقبح ذكره، والهجـاء المقـذع الذي فيه فحش وسب يقبح نشره، وأقـذع له أي أفحش في سمته.
قام ابن هشـام بحذف الأشعـار التي تضمنت تلك الصفـات التي عناها معنى القـذع والتي وصفهـا بعبارتـه التي تضمنتهـا مقـدمتـه: (وأشيـاء بعضهـا يشنـع الحـديـث بـه وبعـض يسـوء النـاس ذكـره)، إذ شمـل الحـذف الأشعـار التـي تضمنت قـذعـاً للمسلميـن والمشـركيـن علـى حـد سـواء. وقـد وجـدنا أمثلـة عـديدة على هـذا الكـلام، فمـن ذلك ما أورده ابـن هشـام مـن أبيـات قـالهـا حـسـان بـن ثابت فـي هجـاء أحـد المشـركيـن لقيـامـه باعتـراض الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم وإصـابتـه لـه في جبهتـه فـي معـركـة أحـد، حـذف ابن هشـام بعـض هـذه الأبيـات معـللاً ذلك بالقـول: (تركنا منها بيتيـن أقـذع فيهمـا)، كذلك قـام بحـذف بعض أبيات قالتهـا هنـد بنت أثاثـة تـرد فيها على موقف هنـد بـنـت عتبـة زوجـة أبـي سـفـيـان مـن قـيـامـهـا بتـأليب المشـركيـن علـى الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم والمسلميـن معـللاً هـذا الأمـر بالقـول: (تركنا منهـا ثـلاثـة أبيـات أقـذعـت فيهـا).
بيـن أحـد الباحثين المساوئ التي ترتبت على قيام ابن هشام بحذف بعض الأشعار بالقول: (إذا وضعنا في الإعتبار ما حذف مـن أشعـار كـان فيها تعريض بالنبي وصحابته دون أن يكون هنالك ما يشير إليها سوى ما قاله في مقدمته، عند ذلك يمكن أن يمثل هذا الحذف في مجموعه نقصـاً له أهميته في تحديد الأصـول الحقيقة في شعـر السيـرة، ولما كان ابن هشام يستهدف به التهذيب والتنقيح فإن ذلك يعني تغاضيـه عمـا استهدفـه من توثيق وتحقيق، وواضح أن هذين الهدفين هنا متضادان لا يلتقيان) (شعر السيرة النبوية لأحمد شوقي رياض).
نرى مما عرضناه آنفاً أن هذا الحـذف لم يكن لأشعار مشكوك في صحة نسبتها إلى قائليها، إذ لم يعترض عليه أحد من نقدة الشعـر القدامى بمغمز أو ملمز من حيث قطعية صـدوره من أفواه قائليه سوى أنه قد حـوى فحشاً ورمياً بالمثالب والصفات النابية وهذا ما وضع رواة هذا الشعـر ومدونيـه في أمرين لا ثالث لهما، الأمـر الأول تقبل هذا الوضع (حذف هذه الأشعار) على الرغم من غياب بعض الحقائق التأريخية والسمات التي كان يتصف بها الأشخـاص المقـذع فيهم إن صدقت دعـوى قائليها، وهـذا الأمـر يشعرنا بوجـود فجوة كبيرة في معرفة شخصيات تلك الحقبة التاريخية وطباعهم وتصرفاتهم التي انعكست بطبيعة الحال على سلوكهـم اليومـي، وهـذا الأمـر يعد عقبة تعيق عمل الباحثين من طلاب الحقيقة من الجمهور، إذا ما علمنا أن ابن كثير الدمشقي (ت 772 هـ) قد ذكـر بعد إيراده للأشعار التي أوردها ابن هشام في غزوة أحد: (إن ابن إسحاق في يوم أحد قد روى أشعاراً كثيرةً تركنا كثيـراً منها خشية الإطالة وخوف الملالة) (البداية والنهاية لإِسْمَاعِيلُ ابن كثير)، وهـذا ما يبين أن ما خفي من تلك الأشعار كـان أعظـم مما وصـل إلينا، أما الأمـر الثاني فهو رواية وتدوين تلك الأشعار، وهذا ما يدخل قائليه وسامعيه في دوامـة لا مخرج منها وذلك لأسباب عـدة:

1 . حرمة سماع السباب والفحش في حق الرسـول صلى الله عليه وآله وسلّم وقتل الذي يقوم بسبه، بإجماع المسلمين كافة على ذلك (الصارم المسلول على شاتم الرسول لأحمد ابن تيمية)، وهـذا الأمـر ناشئ مـن أن ذلك يعد استخفافاً بحق هذا الرسـول العظيم.
أشار السهيلي (ت 581 هـ) إلى هـذا الأمـر بمقالته التي مفادها: (ولكني لا أعـرض لشيء من أشعـار الكفـرة التي نالوا فيها مـن رسـول الله إلا بشعـر من أسلم وتاب بحضـرته ككعب وابن الزبعـرى، وقد كره كثير من أهل العلم فعل ابن إسحـاق لإدخال الشعر الذي نيل فيه من رسول الله، إذ قال أبو عبيد رواية نصف بيت من ذلك حـرام وعلى القول بالإباحة، فان النفس تقذر تلك الأشعار وتبغضها وقائليها في النـار، فالإعـراض عنها خير من الخوض فيها وتتبع معانيها) (الروض الأنف لعبد الرحمن السهيلي).

2 . الإنتقاد من قبل عدم المجوزين لها ونشرها بين الناس، إذ تشير المصادر التي ترجمت لابن إسحاق أنه قد تعرض لحملة عنيفة مـن قبـل العلماء لروايته هـذا الشعـر وتدوينه ونشـره بين الناس (الفهرست لمحمد ابن النديم)، ولأجـل قيـام ابن إسحاق بهذا الأمر عدّ ذلك نزاهة وأمانة علمية منقطعة النظير في نقل وقائع الأحداث ومجرياتها من دون مراعاة للمشاعر والعواطف (المغازي الأولى ومؤلفوها ليوسف هوروفتس).

3 . زعزعـة أفكار وآراء المسلميـن ببعض الشخصيات المقـذع بها لما تضمنت هذه الأشعار من ألفاظ نابية ووصف لما صدر منهـم من أفعال معيبة في نظر الآخرين دفعت الشعراء إلى تعييرهم بها، وهذا ما بينه أحد الباحثين بالقول: (ان لهذا النوع من الحذف ولا شك أسباباً سياسية وأخـرى تتصل بالصـورة التأريخية لعصر ابن هشام عن النبي وصحابته) (مقدمة تحقيق كتاب المغازي والسير لابن إسحاق تأليف سهيل زكار)، وأضـاف آخـر على هـذا القـول آنـف الذكـر: (ومما لا شك فيه أن الرواة قد أهملوه وانصرفـوا عن روايته ولا يرضـون لأنسفهم أن يحملوا تلك الأقوال القادحة في دينهم القاذفة في أعراض نبيهم وصحابته، إذ يرون في حملها وزراً وفي روايتها نكراً) (شعر السيرة النبوية لأحمد شوقي رياض).

هـذه هي الأسباب التي وقفت حائلاً دون تكرار تجربة ابن إسحاق في رواية الشعر المقذع الذي ظل حبيس القلوب لا الورق مما استحسن الرواة والمهتمون بأخبار السيرة وشعرها الأمر الأول الذي ذكرناه آنفاً لما فيه من استراحة لنفوسهم وإرضاء لجمهور المسلمين.

2 – 1 – 4 – حـذف الأشعـار للإختصـار لم يكتف ابن هشام بما حذفه من شعر السيرة لعدم صحة نسبته لقائليه أو لرداءة وزنه الشعري، أو للقذع الذي اعتراه، بل راح يحذف بعض ما تبقى من هذا الشعر اختصاراً لما يريد كتابته من أحداث مرت بالرسـول صلى الله عليه وسلّم وصحابته في أثناء الدعـوة الإسلاميـة، إذ أوضـح أحـد الباحثيـن هـذا الأمـر بالقـول: (وجد ابن هشام بين يديه كمية ضخمة من الأشعار التي ضمنها ابن إسحاق في سيـرته وكانت هذه الأشعار هي شاغله الأكبـر حين عزم على تنقيح السيـرة واختصارها ومن ثم كان حذفه لكثير منها بين منحـول أو رديء أو مقـذع، ولكن يبدو أنه لم يجد ذلك كافيـاً لإخـراج السيـرة على الصـورة التي يريدها وأن الأشعار ما زالت بالكثرة التي تزيد على المطلـوب أو ربما وجد كثرتها تكاد تطغى على أحداث السيـرة وأخبارها التي تمثل جوهـرها الحقيقي وعمادها الرئيسي، فرأى أن يختصر جانباً آخر من هذه الأشعـار ليخفف من طيغـان كثرتهـا على جوهـر السيـرة وليكـون المقام الأول فيها هو لما تزخـر به من أحداث ومواقف) (شعر السيرة النبوية لأحمد شوقي رياض).
ومـن كـل مـا ذكرنا نـرى أن هنالك غايات متعددة دفعت ابن هشام الى حذف بعض الأشعار التي وردت في السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم.

2 – 2 – التنبيـه علـى الأشعـار المشكـوك فيهـا: بـعـد أن حـذف ابـن هشـام جـمـاً غـفـيـراً مـن الأبيـات والقصائد الشعرية لغايات متعددة، رأيناه قد وجه اهتمامه بعد ذلك إلى مـا أثبتـه مـن قصـائد وأبيـات شعـرية، إذ عـرض تلك الأشعـار علـى نقـاد الشعـر فـي عصـره ليستـرشـد بآرائهـم، ولأجـل ذلك طفحت إلـى السطـح مشكلـة جـديـرة بالـوقـوف عنـدها وهـي التعـارض فـي أقـوال هـؤلاء النقـاد الـذيـن استقـرأ رأيهـم فـي تلك الأشعـار فهـم بيـن مصـوب لها من جهة صدورها ومخطئ لتلك الجهة، ولهذا لم يجد ابن هشام مناصاً من أن يردف آراءهـم عن كل نص شعري حامت حوله الشكوك والشبهـات، إذ وضع مقياساً لهـذه الأشعار المشكـوك في صحتها وذلك بأن بين مع كل نص شعري مقدار الشك الذي يحـوم حـوله، فعنـدما تكثر الشكـوك حـول نـص معيـن يـردف ذلك النـص بعبـارة: (وأكثر أهل العلم بالشعر ينكـرها)، مع العلم أن تعليق ابن هشام في هذه الحـالة لا ينسحب علـى النص نفسه أو يقـدح في صحتـه وأصالتـه وإنما ينسحب على نسبته إلى قائله الذي نسبـه إليه ابـن إسحـاق، فعبارته آنفة الذكر تعنـي أن أكثـر أهـل العلم بالشعـر ينكـرون أن يكون هـذا النص الشعـري قد صدر من فم هذا القائل الذي ذكره ابن إسحاق، ولم يشتهر عند الرواة قائل آخر نسبت إليه تلك الأشعـار، وهذا ما يفسـر لنا عـدم ذكـر ابـن هشـام لإسـم قائـل آخـر لـهـذا الشعـر الذي شك فيه، سميت هذه الظاهـرة من قبل أحد الباحثيـن بظاهـرة الخلط والتداخـل في أشعـار السيرة (شعر السيرة النبوية لأحمد شوقي رياض).
أمـا إذا تقلصت تلك الشكـوك حول بعض النصـوص الشعرية بحيث لم تتعد ذلك الكم الهائل الذي تنطبق عليه عبارة ابن هشام آنفـة الذكـر، تغيرت عبارته إلى: (وبعض أهل العلم بالشعـر ينكـرهـا)، وهذا ما يدل على أن هذه العبارة قد خصت بعض الأشعـار التي لم تكـن شكـوك العلمـاء فيها بنفس حجـم سابقتهـا، وبذلك فان ابن هشام قد حصـر الشك أو الإنكـار لهذه النصـوص في قسـم قليل من بعض العلماء، وإذا كان ذلك يعني ترجيح الحكم بالصحة عليها فإن ذلك لا يعني القطع بها.

2 – 3 – تلخيـص وتمحيـص وإضـافـة بعـض الأشعـار التـي لـم يـروهـا ابـن إسحـاق فـي سيـرتـه: نـرى أن ابن هشام في تهذيبه هذا للسيـرة لم يكن راوياً لها بالمعنى الحرفـي فقط بل أضاف عدة عبارات وألفاظ وأبيات شعـرية على الأصل، إذ تبيـن بعض العبارات التي زخـرت بها السيـرة هـذا الأمـر ومـن ذلك قـوله: (أنشدني بعض أهل العلم بالشعر أو أنشدني غير واحد من أهل العلم بالشعر)(السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام).

3 – إضـافـة روايات جـديـدة لـم يثبتهـا ابـن إسحـاق فـي سيـرتـه: ممـا يـدل علـى بـروز اتجـاه تكـاملـي في كتابـة السيـرة، وهـذا ما وضحته مقالته التي افتتح بها مقدمـة كتابه هذا: (ومستقص إن شاء الله تعالى ما سوى ذلك بمبلغ الرواية له والعلم به) (السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام). وهنا يتبيـن لنا أن الحس التأريخي قد أخذ مساره عند ابن هشام وذلك بتكملة الحوادث التي أوردها ابن إسحاق مقتضبة وذلك بإعطاء صورة واضحة لها، مما عدّ ذلك تطوراً ملحوظاً في كتابة السيرة النبوية.

4 – إيضـاح معـانـي الألفـاظ الغـريبـة الـواردة فـي متـن السيـرة: إذ لا نكـاد نتصفـح ورقـةً منها إلا ووجدنا فيها إيضاحاً لبعض الألفاظ التي وردت فيها. ولم يقتصر هذا الإيضاح على تبيان ألفاظ من دون أخرى بل شمل كذلك حتى آيات القرآن الكريم، وأقرب مثال على ذلك ما نراه عند تعرضه لآية: {لِإِيـلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ} (سـورة قـريش، الآيـتـان: 1 – 2)، إذ نـراه يقـوم بشـرح هذه الآيـة والألفاظ المبهمـة فيهـا مـع التحليـل اللغـوي لمشتقـات هـذه الألفاظ ومعانيها.
كان لإهتمام ابن هشـام باللغة والنحو وتضلعه منهما حتى عد من الأئمة المبرزين في هذين العلمين (إنباه الرواة على أنباء النحاة لعلي بن يوسف القفطي، وبغية الوعاة في طبقات اللغوييـن والنحاة لجلال الدين بن أبي بكر السيوطـي)، أثـر فعـال في بلـوغ التهذيب هذا المبلغ من الإيضاح والتعبير للألفاظ الغريبة والمستعصية والتي حفزت العلماء الذين أتوا بعد ابن هشام بالاحتذاء بحذوه بإكمـال شـرح الألفاظ التي برأيهم قد تركها أو التي لم يوضحهـا بشكل مفهوم، وذلك بإفراد مصنفات مستقلة تناولوا فيها شرح هذه الألفاظ التي أوردها ابن هشام في سيرته (تأريخ الأدب العربي لكارل برو كلمان).

5 – استقصـاء أسمـاء الـذيـن استخلفهـم رسـول الله صلـى الله عليـه وسلـم علـى المـدينـة المنـورة: وذلك أثناء سيره للمعارك التي قام بقيادتها بنفسه أو عند سفره لبعض الشؤون الأخرى وهـذا الأمـر يبـرز لنا فكـراً إدارياً متطوراً شرعـه الرسـول وجعلـه سنـة لمـن يأتي بعـده بعـدم تـرك أمـور النـاس مـن قبـل الذي يتولاهم دون وصاية أو نائب ينوب عنهم عند غيابه مهما كان وقت ذلك الغياب قصيراً.

6 – تصحيـح هفـوات وأخطـاء وقـع بهـا ابـن إسحـاق: وذلك أثنـاء عـرضـه لبعـض الحـوادث التـأريخيـة أو أسمـاء بعض الأشخـاص، وهـذا مـا شكـل ظاهـرة لافتـة للنظـر تمثلت ببـروز مبكـر للمنحـى النقدي في الروايات التي وردت في السيرة النبوية.

7 – التعـريـف بالأعـلام الـذيـن تـرد أسمـاؤهـم فـي الـروايـات وأسمـاء قبـائلهـم وأنسـابهـم: ولـم يقتصـر هذا التعـريف على الأعـلام فقط بل تعـداه إلى التعـريف بأسماء الأماكن والبقاع التي ترد في سياق العـرض بأخبار السيـرة وذلك بتوضيح أبعادها ومواقعها وبعدها وقربها عن المدينة ومكة.
أعطـى هذا التعريف من قبل ابن هشـام مادة وفيرة لأصحاب التراجم والأنساب الذين اهتموا بتقصي أحوال الرجال وأنسابهم هـذا بالنسبة إلى التعريف بالأعـلام، أما التعـريف بأسماء الأماكن والبقاع فقد كان تجربة مبكرة في هذا الجانب حفزت العلماء المسلمين على تكرارها وتخصيص مصنفات مستقلة لها، إذ شكلت هذه التجربة إحدى البواكير الأولى للكتابة الجغرافية عندهم.

هـذه هـي الجـوانب التطـورية التي أضفاها ابن هشـام على كتابة السيـرة النبوية والتي أسهمت إسهاماً مباشراً في شهرة تهذيبـه هـذا الـذي عـدّ أحـد المختصـرات الأربعـة التـي فضلت على أصولها (المزهر في علوم اللغة وأنواعها لجلال الدين بن أبي بكر السيوطي)، مـع العلم أن هـذه الشهـرة قد حصلت في القـرون التي تلت القـرن الخامس الهجـري، وهـذا ما أوضحه القفطي حين أشار إلى ذلك الأمر بالقـول: (وللمصرييـن بها [يقصد سيرة ابن هشام] فـرط غرام وكثرة رواية وعن المصريين نقلت إلى سائر الآفاق (إنباه الرواة على أنباء النحاة لعلي بن يوسف القفطي)، إذ وجدنا المصنفات التي كتبت قبل القـرن الخامس الهجـري لم يرد فيها أي اقتبـاس عن سيـرة ابن هشـام، ممـا دفـع أحـد البـاحثيـن إلـى تبيـان المسـار الـذي سلكته هـذه السيـرة بتقصي الـرواة الـذيـن حصلـوا على إجـازة روايتها والإنتهـاء بنتيجة مـن هـذا التقصـي تمثلت بقـولـه: (أما النقـول التي وصلت إلينا منها فهـي في أغلبها من مصنفات المتـأخريـن والمغـاربة الذين فاحت فهـارس إجـازاتهـم العلميـة في الحـديث وروايـة مصنفات بالطـرق والوسـائط التي يصل بها هـؤلاء إلى ابن هشام لأجل الحصول على رواية السيرة التي هذبها) (رواة محمد بن إسحاق بن يسار في المغازي والسير وسائر المرويات لمطاع الطرابيشي).
أسهمت هـذه السيـرة التي اختزلها ابن هشام في تحفيز همم بعض العلماء بالشروع في شرحها والتعليق على الروايات التي وردت فيها، واختصـار مباحثها، فأما أهم الشروحات فهي:

1 . الروض الأنف الباسم في الذب عن سيرة أبي القاسم لعبد الرحمن بن عبد الله السهيلي (ت 581 هـ).

2 . الإملاء المختصر في شرح غريب السير لأبي ذر مصعب بن مسعود الخشني (ت 604 هـ).

3 . الوصول إلى السؤول في نظم سيرة الرسول للفتح بن موسى المغربي (ت 663 هـ).

4 . الميرة في حل مشكل السيرة ليوسف بن عبد الهادي (ت 909 هـ).

وأما أهم المختصرات فهي:

1 . مختصر السيرة لعماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي (ت 711 هـ).

2 . خلاصة السيرة النبوية ليحيى بن حمزة بن علي (ت 747 هـ).

3 . مختصر السيرة لمحمد بن أبي بكر بن جماعة (ت 819 هـ).

                                                     

عن المدير