3 – شـرحبيـل بـن سعـد :
ثالث الثلاثة في الطبقة الأولى من كتاب السيرة المدنيين، وهو مولى بني خطمة، ولد في أواخر خلافة عمر بن الخطاب ونشأ في المدينة، وتلقى عن جمع من الصحابة؛ منهم زيد بن ثابت وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم من كبار الصحابة (الطبقات الكبرى لابن سعد ومشاهير علماء الأمصار لأبي الفتح البستي) وقد انصبت اهتمامات شرحبيل بن سعد على دراسة مغازي الرسول بعامة وغزوة بدر بخاصة وعده سفيان ابن عيينة أحسن من عرف المغازي وإن لم يرو عنه ابن إسحاق ولا الواقدي فيُروى أن علي بن المديني قال: قلت لسفيان بن عيينة: كان شرحبيل بن سعد يفتي؟ قال: نعم، ولم يكن أحد أعلم بالمغازي والبدريين منه (تهذيب التهذيب لشهاب الدين بن حجر العسقلاني)، وبرهن موسى بن عقبة أن شرحبيل دوَّن قوائم بأسماء المهاجرين إلى المدينة، وأسماء الرجال الذين اشتركوا في غزوتي بدر وأحد (المغازي الأولى ومؤلفوها ليوسف هوروفيتش). وقد امتد العمر بشرحبيل؛ حيث توفي عام 123 هـ.
أعطى هوروفتس توضيحاً لهذه الاهتمامات بجعلها لا تتعدى سوى إعداد القوائم بأسماء المهاجرين إلى المدينة ومن اشترك بغزوتي بدر وأحد (المغازي الأولى ومؤلفوها ليوسف هوروفتس)، ولكن أحد الباحثين يفند هذا الرأي باعتماده على مقالة ابن حجر التي يقول فيها: (كان شرحبيل بن سعد عالماً بالمغازي اتهموه أنه يدخل فيهم من لم يشهدوا بدراً وفيمن قتل يوم أحد إن لم يكن منهم وكان قد احتاج فسقط عند الناس فسمع بذلك موسى بن عقبة فقال أو أن الناس قد اجترءوا على هذا، فدب على كبر السن وقيد من شهد بدراً وأحداً ومن هاجر للحبشة والمدينة وكتب ذلك) (تهذيب التهذيب لشهاب الدين بن حجر العسقلاني)، إذ يتبين من هذا النص أن كاتب القوائم هو موسى بن عقبة وليس شرحبيل بن سعد كما فهم هوروفتس.
ولكن هذا الرأي آنف الذكر لا ينفي بتاتاً أن شرحبيل لم يكن مدوناً لبعض حوادث السيرة إذ كانت مروياته التي أغفلها المعاصرون له قد ضمت أخباراً عن السيرة، إذ يبين النص الذي أورده ابن حجر والذي أوضح فيه أن أحداً من الناس قد سأل محمد بن إسحاق (ت 151 هـ) المعاصر لشرحبيل عن سبب إغفاله لمرويات الأخير في المغازي وعدم إدراجها في كتابه أو ضمن الروايات التي يلقيها على مسامع الناس، فأجاب ابن إسحاق على هذا التساؤل بالقول: (وأحد يحدث عن شرحبيل) (تهذيب التهذيب لشهاب الدين بن حجر العسقلاني).
كان سبب إغفال هذه الأخبار التي رواها شرحبيل هو لكبره وخرفه واختلال عقله كما ذكر ذلك ابن سعد (الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد)، هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الناس كانت تتحاشاه مخافة لسانه الذي يكيل التهم لمن يرده من أبناء الصحابة بأن أباك أو جدك لم يشهد بدراً (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم عبد الرحمن الرازي (ت 327 هـ))، أو يجعل من لا سابقة له في الإسلام سابقة (تهذيب التهذيب لشهاب الدين بن حجر العسقلاني).
ولّدت هذه الأمور مجتمعة عزوفاً من قبل المهتمين بسيرة الرسول لما تفوه به شرحبيل حتى لم نجد أية رواية عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلّم ترجع في إسنادها إليه سوى رواية واحدة أوردها ابن سعد. وتتعلق بخبر عن هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قباء إلى المدينة، دون أن يذكر لهذه الفقرة أيَّ إسناد (الطبقات الكبرى لمحمد ابن سعد)، وبقيت روايات شرحبيل على إمامته في هذا الميدان وتخصصه فيه محدودة، وأقل من غيره.
من هذا كله نستنتج أن هذا العزوف لمرويات هذا الراوي يدل على وجود حس نقدي مبكر للرواية والرواة.