السير والمغازي لمحمد بن إسحاق

الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الثاني: تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة وتأريخها
الفصـل الثـانـي: كتـابـة السيـرة الشـاملـة والمستقلـة وتطـورهـا
المبحـث الأول: السيـرة النبـويـة المسهبـة والمستقلـة ومصنفـوهـا
انتجت قرائح العلماء المهتمين بالسيـرة مصنفات عدة أسهبـوا فيها بذكر الحـوادث التي تحدثت عن أحـوال الرسـول صلى الله عليه وسلّم وعلاقته بأحداث عصره، أما أسماء المصنفات التي نهجت هذا المنحى، وأسماء المصنفين الذين كتبوها فهي:

المطلـب الثـانـي : السيـر والمغـازي لمحمـد بـن إسحـاق (ت 151 هـ):
مصنف هـذه السيـرة هـو محمد بـن إسحـاق بـن يسـار بـن خيار وقيـل يسـار بن كوتان المطلبي بالولاء، المديني نسبة إلى مدينة الرسـول صلى الله عليه وسلم وكان يكنـى بأبـي بكـر، وقيـل بأبي عبد الله، وكـان جده يسار من أهل قرية عين التمر بالعراق، وقد وقع في أسر المسلميـن عندمـا فتح خالد بن الوليـد رضي الله عنه عين التمـر فيما فتح من أرض العـراق سنة 12 هـ في خلافـة أبي بكـر الصديـق رضي الله عنه 11 – 13 هـ وأرسـل يسـار بن خيـار مع غيره من الأسـرى إلى المـدينة المنـورة، عاصمة الـدولة الإسـلامية في ذلك الوقت. ولا يعـرف علـى وجـه اليقيـن ما إذا كانت أسرته عربيـة أم أعجميـة، وإن كان ليـس بعيـداً أن تكـون عـربيـة مسيحيـة، وأصبح بعد ذلك مولـى لقيس بن مخرمة بن عبـد المطلب بـن عبـد منـاف وقد أسلم فأعتقـه مـولاه، ومـن هنا جاءت نسبته بالمطلبي المخزومي (تاريخ الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري)

ولـد محمد بـن إسحـاق في المـدينة المنـورة، حـوالي عام 85 هـ ونشـأ بهـا، ولا أحـد يستطيع إنكـار بيئة المدينة وفضلها وصلاحهـا وحركتها العلمية الواسعة في مسجـد الرسـول صلى الله عليه وسلـم، وأي بيئة أفضـل من بيئة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيهم، واستفاد من هذه البيئة العلمية التي عاش بها إذ أكسبته خزيناً فكرياً تمثل بجلوسه فـي الحلقات التي كان يعقدهـا الصحابة المتأخـرون وأبناؤهم والتابعون (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي)، وقد أدرك ابن إسحـاق بعض الصحابـة ممن طالت أعمـارهـم، فقـد رأى أنـس بـن مالك صاحب رسـول الله صلى الله عليه وسلـم وخادمـه المشهـور رضي الله عنه وتتلمذ على كبـار التـابعيـن، من أعيان علمـاء المـدينة المنـورة وفقهائهـا المعـدوديـن المشهـوريـن، ومنهم القاسـم بن محمد ابن أبي بكـر الصـديق، وأبان بن عثمان بن عفان وهو من رجـال الطبقة الأولى من علماء المغـازي والسيـر، كما سبق القـول عنه ومنهم محمد بن علـي بن الحسيـن بن علي ابـن أبي طالب، وأبو سلمـة بـن عبد الـرحمـن بن عـوف، ونافع مولى عبد الله بـن عمـر بـن الخطـاب، وعاصـم بن عمـر ابن قتادة بـن النعمان الأنصـاري. وعبد الله بن أبي بكـر بن محمد بن عمرو بن حـزم الأنصـاري، وغيرهـم. وقد سبق القول أن أستاذه الأكبر، والذي كان أثره فيه أكبر وأوضح من غيره، هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري.
لـم يكتف ابـن إسحـاق بأنـه ولـد و نشـأ فـي مدينـة رسـول الله صلى الله عليـه وسلـم، وتنفس هـواءهـا المعطـر بأريـج النبـوة، وعطر الصحابـة الكرام، بل أراد أن يتـزود مـن علـم الصحـابـة الآخـريـن، الذيـن تفـرقـوا في الآفاق ونزلوا وسكنوا الأمصار المفتوحة، فمـن المعلـوم أن جمعـاً كبيراً من حملة العلم النبـوي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد شاركوا في الفتوحات الإسلامية، بدءاً من عهـد الخليفـة الأول أبـي بكـر الصديق رضـي الله عنه ومـروراً بعهـود الخلفاء الراشدين الثلاثة الآخريـن، عمر بن الخطاب 13 – 23 هـ، وعثمان بن عفان 23 – 35 هـ، وعلي ابن أبي طالب 35 – 40 هـ رضـي الله عنهـم جميعـاً، وكثير من هـؤلاء الصحابة لم يعودوا إلى المدينة، وإنما استوطنوا البلاد المفتوحة، وعاشـوا حياتهم كلها فيها، وأصبحـوا معلمين، ولهم مدارس، وتلاميذ، فأراد ابن إسحاق أن يتزود من علم هؤلاء ومن علم تلاميـذهم، وأن يطلع على اتجـاه مدارسهـم وأفكارها فكانت رحلته الأولـى إلى مصـر، التي أصحبت منذ أن تم فتحها على يد الفاتـح الكبيـر البطـل الجليـل عمـرو بـن العاص سنة 21 هـ مركـزاً من مراكـز العلـوم الإسلاميـة، ومدرسة من أشهـر المـدارس، أساتذتها هـم صحابة رسـول الله صلى الله عليه وسلم، سـواء الذي جاءوا مع جيش الفتح مجـاهديـن، أو الذي لحقـوا بهم وجاءوا بعد تمام الفتح وطاب لهم المقام في أرض الكنانة، وعلى ضفاف النيل واستقـروا فيها.
وبعد أن تزود من علم علماء مصـر، وتأثـر بهم وأثـر فيهم، واطلع على اتجاهـات المـدرسـة المصرية في الدراسات الإسـلامية، عاد إلى المدينة؛ ليواصل دراسته على أيـدي أساتذتـه فيها قـرابـة نصف قـرن. ولم يغادرهـا بصفة نهائية على ما يـرجـح، إلا في رحلته الأخيـرة إلى العـراق بعد قيـام الـدولة العبـاسيـة سنة 132 هـ، حيث تجـول في أرجائها من الكـوفـة إلى الجزيـرة، وأخيـراً يلقي عصا تسيـاره في المدينـة المـدورة أو مدينـة السـلام أو مدينة المنصـور بغـداد، تلك المدينة التي أخذت منذ نشأتها سنة 145 هـ، تخلب الألبـاب وتخطف الأبصـار فهي مقام الخـلافـة، وحاضـرة الإسـلام، ومـركـز الأضـواء والشهـرة، ومقـر العلمـاء والشعـراء والأدباء، فليس غريباً أن يطيب المقـام لابـن إسحـاق في مـدينـة لها كـل تلك المميـزات ويعيـش بقيـة حيـاتـه فيهـا. فقـد عـاش ابـن إسحـاق مـا تبقى مـن حياته في كنف الخليفة المنصور في بغداد حتى وافته المنية سنة 151 هـ على أرجـح الأقـوال.
ولم تكـن البيئة والجـو العـام الـذي أحاط بابن إسحـاق هو الذي أثر فيه فقط، بل كانت بيئته الخـاصة ذات تأثيـر فيه كذلك، فأبـوه إسحـاق بـن يسـار كـان مـن العلمـاء وكـان محدثـاً وفقيهـاً، روى عنه ابنه محمد، وكثيراً ما نجده يقول: (حدثني أبي إسحـاق بـن يسـار). إضـافـة إلـى المـوروث السـابق لأسـرته التـي استـوطنت في منطقة اتصلت بالمـدارس الفكـرية المعـروفة آنذاك في الحيرة وحران ونصيبيـن وجنديسابور (مدارس العراق قبل الإسلام لرافائيل بابو إسحاق)، كـل ذلك أدى إلى أن تشكـل هـذه العـوامل مجتمعـة أرضية صالحة لشخصية تأخذ زمام المبادرة بتصنيف أول سيرة متكاملة للرسول صلى الله عليه وسلّم.
وهـذا الكـلام ليس الغـرض منه التقليـل من جهـود السابقين له في هذا المضمار، ولكن الجهد المتميز الذي بذله ابن إسحـاق جعل من السيـرة التي كتبها محط إعجاب المتقدميـن والمتأخـرين، وخير ما نستشهد به لتبيان هذا الأمر ما ذكره بعض الباحثين حول هذه السيرة والسبـب الكـامـن وراء شهـرتهـا، إذ يقـول أحـدهـم: (كـان ثمـرة مفهـوم أوسـع مـن مفهـومـات معـاصـريـه وأسـلافـه، وذلك مـن حـيـث أنـه لـم يقصـد تقـديـم تـأريخـاً للـرسـول بـل رأى أن يقـدم تـاريخـاً للنبـوات أيضـاً) (دراسات في حضارة الإسلام لجب هاملتون) ويضيف آخـر قائـلاً: (مهما تكـن أهميـة أعمـال الزهـري ومـوسى بـن عقبة فإن عمل ابن إسحاق يبقى الأساس فيما يتصل بالسيرة وإلى حد ما بالتأريخ، وتكمن أهميتـه كمـؤرخ في استيعابه لتجـارب شيـوخـه وفـي تطـويـرها وإعـادة تنظيمهـا مـن خـلال فهمـه الجـديـد للتـأريـخ ومـن خـلال نظـرتـه الشـاملـة النـابعـة مـن ثقـافتـه الـواسعـة وإدراكـه للمغـزى السيـاسـي (الصـورة التاريخية)، ومـن هنـا صار ابن إسحـاق شيخ كتاب السيرة وصار من كتبوا بعده عيالاً عليه) (مقدمة تحقيق كتاب السير والمغازي لمحمد بن إسحاق، لسهيل زكار).
ومـن ذلك صـارت شهـرة ابـن إسحـاق علـى جميع المصنفين في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلّم من المتقدمين والمتأخرين أشهـر مـن نـار علـى علـم، حتـى وصفه الإمـام محمد بـن إدريس الشافعـي (ت 204 هـ) بالقـول: (من أراد التبحـر في المغـازي فهو عيـال على ابـن إسحاق) (تأريخ بغداد للخطيب البغدادي).
كانت هنالك عوامـل عدة وراء شهرة هذه السيرة التي كتبها محمد بن إسحاق عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم، وهذه العوامل هي:

1 – عـدم وجود مصنف متكامـل وشامل عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلّم قبل مصنفه هذا (مروج الذهب ومعادن الجوهر لأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي)، إذ كانت مدونات السيـرة قبل هذا الكتاب مجـرد صحف ومجاميع لا ترقى بمستـواها إلى مصاف الكتب المصنفة والمبوبة.

2 – إحـالـة جمـع غفيـر مـن العلمـاء علـى هـذه السيـرة، واعتـرافهـم بتبحـر هـذا الـرجـل بالمغـازي وأخبـارها (تأريخ بغداد للخطيب البغدادي).

3 – تلمـذة جمهـرة واسعة من طلاب العلم على يده وسماعهـم السيرة منه وإجازته لهم بروايتها عنه، حتى تعدد الرواة لهذه السيرة إلى حد أن خصص لها أحد الباحثين دراسة عنهم (رواة محمد بن اسحاق في المغازي والسير لمطاع الطرابيشي).

4 – التبـويب والتنسيق للمواضيع التي شملتها السيـرة وحصرها ضمن عناوين متسلسلة غير مضطربة أو مشوشة، وهذا ما جعلها محط رضا من كتب في السيرة أو علق عليها، إذ يصف أحد هؤلاء هذه الميزة التي تميزت بها سيرة ابن إسحاق بالقول: (واستغنيت عن كتاب محمد بن عمر الواقـدي لأنـه لـم يحضـرنـي الآن ولكنـي رأيتـه كثيـراً مـا يجـري مـع ابن إسحـاق، فاستغنيت عنه به بفضل فصاحة ابن إسحـاق في الإيراد وحسن البيان الـذي لا يقـل معـه استحسـان الحديث المعـاد) (الإكتفا في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفا لسليمان بن موسى الكلاعي).

5 – التـوفيق بين أسلـوب أصحـاب القصص والأخبـار وبيـن المحـدثيـن فـي عـرض المـادة التـأريخيـة، إذ نراه يتحدث عـن أهـل الكتـاب الـذيـن يسميهـم أهـل العلـم الأول أو أهـل التـوراة مع إغفـالـه لأسمـاء مـن حدثـه مـن أهلهـا (تاريخ الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري)، فضـلاً عـن إتباعـه أسلـوب المدرسـة اليمنية المشهـور بالقصص والأساطيـر القديمة (بحث في نشأة علم التأريخ عند العـرب لعبد العـزيز الدوري)، إذ لمسنـا هـذا الأمـر فـي الـروايات التـي سجلها لنا عن الأحـداث التي جرت قبـل الإسـلام (السيـرة النبـوية لعبـد الملك بـن هشـام)، أمـا مـن حيث إتبـاعه لمنهـج المحـدثيـن، فقـد كـان الإسنـاد فـي الخبـر والحـديث هـو السمـة الغـالبـة علـى كتـابـه (بحث في نشـأة علـم التأريـخ عند العـرب لعبد العـزيـز الدوري)، ولا سيمـا عند حديثـه عـن مبعث الرسـول صلى الله عليه وسلّم والحوادث التي تلته إلى أن ألتحق بالرفيق الأعلى (السيـرة النبـويـة لعبد الملك بن هشام).
وقـد وصفت إحـدى الدراسـات منهج وأسلـوب ابن إسحاق هذا بالقـول: (ويتصف بصفة المؤرخ الحق، وتتمثل في الصورة الأخيـرة للمـزج بين كتابة التراجم على النحو الديني المأثور عند المحدثين وكتابتها على النحو الملحمي الأسطوري المأثور عن القصاص، وهذا الطابع الأصيل الذاتي الذي يتميز به مؤلف ابن إسحاق الذي يفسر العداوة بين مذاهب الرواة، ويبرز في الوقت نفسه النجاح العظيم الذي لقته على مدى الأجيال) (دائرة المعارف الإسلامية لجورجيو ليفي دلا فيدا)، وتضيف دراسـة أخـرى بالقـول: (وحين نأتي إلى ابن إسحـاق نحس بخطـوط جديدة في التطـور، ومن مظاهرها الواضحة وجود عنصر القصص الشعبي والإتجاه نحو المبالغة ونحس بأننا انتقلنا إلى علماء هم مؤرخـون أولاً ثم محدثون من الدرجة الثانية) (بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب لعبد العزيز الدوري).

6 – إدخـال معظـم الآيات القرآنيـة التـي نزلت بالحـوادث التـي تطـرق إليها بضمن هيكلية النص الذي كتبه لكل حادثة، مما يعطـي القارئ لهـذا الكتاب الأدلـة والقـرائـن التـي أكدت الحـدث التـأريخي الـذي سجله في مصنفه هذا (السيـرة النبوية لعبد الملك بن هشام)، حتـى عـدت هـذه السيـرة بأنها من أقـدم المصـادر التي وصلت إلينا في أسباب نـزول القـرآن لما حـوته من ذكـر لأماكـن نـزول الآيات التـي رافقت مسـار الدعـوة الإسـلامية (مناهج في التفسير لمصطفى الجويني). فكـان هـذا الأمـر دافعـاً إلى وضـع هـذه السيـرة نصب أعيـن المفسـريـن الذيـن تناولـوا أسبـاب نـزول الآيـات القـرآنيـة (جامع البيان عن تأويل آي القرآن لمحمد بن جرير الطبري)، ولأجل ذلك أعطاها باحث آخر بعداً يتسم بالنقد والتمحيص للروايات التي أوردها ابن إسحاق في أسباب نزول بعض الآيات القرآنية فيها، إذ يقـول: (ويلحظ على أن ابن إسحـاق يعنى بجمع الروايات المتعلقة بالنـزول دون تمحيصها والمـوازنة بينها بترجيح أو تضعيف) (الدراسات القرآنية في سيرة ابن هشام لكاصد الزيدي)، ويضيف على ذلك الأمـر : (إن السيـرة التي كتبها ابن إسحاق قد تضمنت أيضاً تفسيراً لعدد غفيـر مـن الآيـات القـرآنية مع مراعاته إيجاز ذلك وبيان معاني تلك الآيات على وجه الإجمـال من دون الولـوج في التفاصيـل أو إيراد الوجوه المتعددة للروايات المختلفة في الموضوع المراد استعراضه) (الدراسات القرآنية في سيرة ابن هشام لكاصد الزيدي).

7 – استشهـاده بالشعـر في معظـم الآيات التـي يـذكـرها (السيـرة النبـوية لعبـد الملك بـن هشـام)، ولكـن هـذا العامـل كـان مـن السلبيات التـي وصف بها منهج ابـن إسحـاق فـي كتابة السيرة من قبل نقدة الشعر وأهل المعرفة والدراية في بحـوره وأوزانـه والـرواة لـه، إذ كـان الجمحي (ت 231 هـ) مـن هـؤلاء الذيـن شنـوا هـذه الحملة علـى الشعـر الـذي ورد في سيرة ابن إسحاق، حيث وصفـه بالقـول: (وكان ممـن أفسد الشعـر وهجنـه، وحمـل كـل غثاء منه محمد بن إسحاق بن يسار … وكان من علماء الناس بالسير … فكتب في السيـر أشعـار الرجـال الذين لـم يقولـوا شعـراً قط، وأشعـار النسـاء فضـلاً عـن الرجـال) (طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي)
وأكـد ابـن النديـم (ت 381 هـ) أن ابن إسحاق كانت تعمل له الأشعار ويؤتى بها ويسأل أن يدخلها في كتابه فيفعل (الفهرست لمحمد ابـن النـديـم). وقـد اعتـرف ابـن إسحـاق بهـذا الخلـل المـوجـود فـي الأشعـار التـي نقلها مبينـاً سبب ذلك إلـى أنـه لا علـم لـه بالشعـر المنحـول والمصنـوع وغيـره وإنمـا يـؤتى بـه فيحملـه فـي سيـرتـه (طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي).
هـذه هـي المـلابسـات التـي رافقت الشعـر الـذي أورده ابـن إسحـاق في سيرته والذي عدّ نقطة تحـول وتطـور في كتابة السيـرة النبـوية، لأنه بعمله هذا قد أعطى للأجيـال التـي تلتـه حافـزاً على معرفة باقـي الأشعـار التـي قيلت فـي تلك الحـوادث وتنبيـه هـؤلاء إلـى مـا ورد مـن شـعـر مـنـحـول ومـوضـوع وضـعـيـف فـي هـذه الـسـيـرة، مـمـا يـشـكـل حـافـزاً مـبـكـراً عـلـى ظـهـور الـدراسـات النقـديـة للشعـر عنـد المسلمين. دفـع هـذا العامل ابـن هشـام إلى أن يقـوم بـرفـع الشعـر المـوضـوع والتنبيـه علـى البـاقـي مـن حيث صحتـه أو ضعفـه أو خللـه إذ يقـول: (وإنـي تارك بعـض مـا ذكـره ابـن إسحاق في هـذا الكتاب مما ليس لرسـول الله صلى الله عليه وسلّـم فيه ذكر … ، لما ذكرت من الإختصار وأشعاراً ذكرها لم أر أحداً من أهل العلم يعرفها …) (السيـرة النبـوية لعبـد الملك بـن هشـام).

8 – الإهتمـام بإيـراد الأنسـاب وأسمـاء القبـائل التي ينتمي إليها الشخـوص الذيـن يعرض لهم ولأعمالهـم ودورهم في أحـداث عـصـرهـم عنـد حـديثـه عـن حـوادث عصـر الرسـالـة (السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام)، كما أورد أيضـاً أسمـاء المشـاركيـن مـن المشـركيـن وحتى القتلى والأسرى منهم (السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام). وقـد انتاب أمـر إيـراد أنسـاب المشـاركيـن فـي الحـوادث وأسمـائهـم مـن قبـل ابـن إسحـاق، بعـض الهفـوات نبهنـا لها ابن هشـام عند تهذيبه للسيـرة بالإشـارة إلى مـواطن هـذه الإشـارات والـقـيـام بـتـصـحـيـحـهـا (السيرة النبوية لعبد الملك بن هشام).

9 – الشمـوليـة باستعـراض الحـديث التـاريخـي وربطه بالأحـداث التي سبقتـه (بحث فـي نشـأة علـم التأريخ عند العرب لعبد العزيز الدوري)، وهـذا الأمـر راجـع إلى عـدم إيمانـه باجتـزاء الأحـداث وأخـذها كمفـردة مستقلـة لا علاقـة لها بما سبقهـا مـن حـوادث كما فعـل الذيـن سبقـوه. وقـد أوضـح الدوري السبب في إطـلاق هذه الصفة على السيرة التي كتبها ابن إسحاق، لأنه قد عبر عن فكرة تأريخيـة لـم يسبقـه إليها أحـد وهـي كتابـة تأريخ عالمـي مـن المبتـدأ والمغـازي وتاريخ الخلفاء، ويصف باحث هذه السيـرة قائلاً: (إن طـريقة عـرض محمد بـن إسحـاق لمـادتـه تعتبـر أول بـادرة فـي وضع الإسـلام ومنشـأه في نسق التأريـخ العام فهو يرى أن ظهـور الإسـلام استمـرار وتتمة للتـأريخ المقـدس اليهـودي والنصـراني مـن حيث كـونـه ينبعث مـن الخلق الإلهـي ومـن دعـوة الأنبيـاء السـابقيـن لمحمـد) (دائرة المعارف الإسلامية لجورجيو ليفي دلا فيدا)، وأتفق بـاحـث آخـر مـع هـذا الـرأي مبينـاً فيـه أن فهم ابن إسحاق للتأريخ بعامة والسيرة النبـوية بخاصة كـان أوسـع مـن مفهـوم أسـلافـه ومعـاصريـه، وذلك مـن حيث أنـه لم يقصد تقـديم تـأريخ للـرسـول فحسب، بل رأى أن يقـدم تـأريخاً للنبوات أيضا ولذلك فقد صار مرجعاً رئيساً لتأريخ ما قبل الإسلام وصدره (دراسات في حضارة الإسلام لجب هاملتون).

10 – استعـراض الخـبـر التـأريخـي بـأسلـوب جميـل وذلك باستعمـال إسنـاد جمعـي فـي ذكـر الحـوادث، وذلك بجمعـه روايـات عـدة لحـدث واحـد فـي نـص منسق يستعـرض الحـادثـة مـن بـدايتهـا إلـى نهايتها (المغازي الأولى ومؤلفوها ليوسف هوروفتس) ويضيـف باحـث آخـر: (أن ابـن إسحـاق صـاغ سيـرتـه بـأسلـوب سـاحـر ويعـرض أحـداثـه بتسلسـل، ويجمعها بطريقة تجلب انتباه القارئ على الـدوام، مـع تصـويـره للشخصيات التي يصفها بحيث تبرز أمامنا كأننا نراها رأى العين) (نشـأة التـدويـن التـأريخـي عنـد العرب لحسين نصار).

مـن هـذا كلـه نـرى أن سيـرة ابـن إسحـاق قـد مثلت بوتقة انصهرت فيها كل النتاجات السابقة في كتابة وتدوين حوادث السيـرة والتـأريخ، لأن هـذا الجهـد المتكـامـل لا يأتـي مـن فراغ بل هو نتاج حقبة تطورية في كتابة السيرة امتدت قرناً ونصف القرن من الزمان على وجه التقريب، حتى كانت هذه السيرة المعين لكل من يريد الكتابة والإطلاع على سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم .

                                                     

عن المدير