2 – عـروة بـن الـزبيـر :
هو الرجل الثاني من رجال الطبقة الأولى من كتَّاب المغازي والسير، وأبوه الزبير بن العوام بن خويلد، أحد السابقين الأولين إلى الإسلام، وأحد المبشرين بالجنة، وهو حواري الرسول صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وخديجة أم المؤمنين رضي الله عنها عمته، أي عمة الزبير بن العوام، أما أم عروة فهي ذات النطاقين السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما التي شهدت الكثير من أحداث السيرة، وكان لها عمل مشهور مذكور في الهجرة، وخالته عائشة أم المؤمنين، وأحب أزواج النبي إليه، وقد ولد عروة في المدينة المنورة، حوالي سنة 26 هـ، على أرجح الأقوال، لأنه كان صغير السن عندما حدثت موقعة الجمل سنة 36 هـ، ولم يشهدها فقد قال هو في نفسه: (رُددت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، يوم الجمل، استصغرونا).
فالبيت الذي نشأ فيه عروة ركناه: أبوه الزبير بن العوام، حواري الرسول، وأمه ذات النطاقين، أسماء بنت الصديق، أما أستاذته الكبرى ومعلمته فهي خالته، السيدة عائشة أم المؤمنين، التي كان كثير التردد عليها، والمداومة على زيارتها والتعلم منها والحديث إليها.
وتروي المصادر وكتب الطبقات، أنه كان يجتمع كل ليلة، بطريقة تكاد تكون منتظمة في المسجد النبوي، بمجموعة من كبار التابعين ومن رجال الطبقة الأولى منهم، كانت تضم أخاه مصعب بن الزبير، وأبا بكر بن عبد الرحمن، وعبد الملك بن مروان، وعبد الرحمن بن مسور، وإبراهيم بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي، ولم تكن هذه الإجتماعات سوى حلقات علمية، يدور الحديث فيها عن العلوم الإسلامية؛ من فقه وتفسير وحديث وسير ومغازٍ، وكما اشتهر عروة بن الزبير بأنه أحد فقهاء المدينة السبعة الكبار، كما هو الحال بالنسبة لأبان بن عثمان، فقد اشتهر بأنه من أكابر علماء السيرة والمغازي، وكان الناس، حتى زملاؤه في الدراسة، يتجهون إليه، ليسألوه ويتعلموا منه السيرة النبوية بصفة خاصة، لقربه من بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولمعرفته أكثر من غيره بما كان يدور في ذلك البيت الكريم عن طريق خالته السيدة عائشة رضي الله عنها، فعبد الملك بن مروان، الخليفة الأموي المشهور 65 – 86 هـ مع أنه كان أحد تلاميذ مدرسة المدينة المشهورين ومن فقهائها، و قد لقب بحمامة المسجد؛ لشدة ملازمته مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وانكبابه على حلقات العلم، وهو من زملاء عروة وأصدقائه، إلا أنه كان كثير الرجوع إليه في كل ما يتعلق بأحداث السيرة النبوية، وذلك عندما شغلته السياسة عن طلب العلم بعد أن أصبح خليفة.
أما آثاره في السيرة؛ فقد وصلت إلينا مقتبسات من رسائله المدونة في كتب التاريخ والسيرة، كتاريخ الطبري، وسيرة ابن إسحاق، ومغازي الواقدي، وكذلك عند المتأخرين من كُتَّاب السيرة، كابن سيد الناس، وابن كثير، وغيرهم، وهذه المقتبسات هي أقدم ما وصلنا من تاريخ المغازي (الطيقات الكبرى لمحمد ابن سعد – المعارف لمحمد بن مسلم ابن قتيبة – معرفة الثقات لأبى الحسن أحمد العجلي – العبـر في خبر من غبر لشمس الدين بن عثمان الذهبي – تهذيب الأسماء واللغات لمحيي الدين بن شرف النووي – تهذيب التهذيب لشهاب الدين بن حجر العسقلاني).
وكذلك وردت عنه معلومات تتعلق بالسيرة في كتب الصحاح، كحديثه عن الهجرة في صحيح البخاري وقد أورده البخاري عن عروة في حوالي ست صفحات كبيرة (الصحيح).
وقد وضحت المعالم الأولى لكتابة السيرة عنده، وذلك لأن لمساته وآثاره فيها كانت أوضح من سابقيه إذ تذكر المصادر المتأخرة أنه أول من ألف بالمغازي (الوافي بالوفيات لخليل بن أيبك الصفدي (ت 764 هـ)، والوسائل إلى معرفة الأوائل لعبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ)، وكشف الظنون لحاجي خليفة).
مع كل هذه الأقوال التي بينت تأليف عروة لكتاب في مغازي الرسول، لم تعط القناعة الكافية لأحد الباحثين بحتمية وجود مثل هذا الكتاب في تلك الحقبة، إذ يقول معلقاً على هذا الأمر: (أما الخبر القائل بأن عروة قد ألف كتاباً في المغازي فليس له مصدر قديم) (تأريخ التراث العربي لفؤاد سزكين)، وهذا التشكيك من قبل هذا الباحث له ما يدعمه ويوصله إلى اليقيـن، إذا ما لا حظنا أن أحد الباحثين بعد ما قام بجمع النقول التي تحدثت عن اسهامات عروة برواية أحداث السيرة (مغازي رسول الله لعروة بن الزبير لمحمد مصطفى الأعظمي)، وجدنا أنها لم تكن سوى رسائل متبادلة بين عروة والخليفة عبد الملك بن مروان وبعض الولاة، في الغالب، أو بينه وبين ابن أبي هنيدة، الذي وُصِف بأنه صاحب الوليد بن عبد الملك، هذه الرسائل تضمنت إجابة عن تساؤلات عديدة حول حادثة بدء الوحي وبعض المشاهد التي شاهدها الرسول صلى الله عليه وسلّم وبعض الشوؤن الخاصة به، وبعض الأخبار المتعلقة بالصدر الأول من الإسلام، وأحوال المسلمين الأولى (المغازي للواقدي، وتأريخ الرسل والملوك للطبري).
كانت هذه الآراء مبينة أن عروة لم يكن سوى مدون لبعض الأحداث من دون أن يجمعها في مصنف حتى يطلق عليه أنه (أول من ألف في المغازي)، إذ وجدنا رواية تؤكد هذه النتيجة ذكرها ابن سعد قائلاً: (إن لعروة كتب فقه أحرقها يوم الحرة وندم عليها كثيراً حتى كان يتمنى فقدانه لأهله وماله وبقاء تلك الكتب عنده) (الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد).
ومن يُلْقِ نظرة على المقتبسات الواردة عند كُتَّاب السيرة والمؤرخين من مغازي عروة بن الزبير يلاحظ ما يأتي:
1 – أن عروة لم يكن يلتزم الإسناد، في الغالب، وكان يعمد إلى إرسال الأخبار، وذلك من دون ذكر قائليها مع العلم أن عروة لم يعاصر تلك الأحداث (عبد العزيز الدوري، بحث في نشأة علم التاريخ). وقد علل الدوري برزو هذا المنحى عند عروة بأن الإسناد في زمنه كان مرناً وأن الناس لم يطالبوا المحدثين والرواة بإسناد أحاديثهم فضلاً عن أن القواعد الدقيقة للإسناد لم تكن قد ظهرت بعد (عبد العزيز الدوري، بحث في نشأة علم التاريخ). وهذا لا يعني أنه لم يذكر الإسناد في كل رواياته، فقد ذكره في بعضها، مثل ما ذكره عن حديث هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد ذكر في وسط الخبر قوله: (فأخبرتني عائشة أنهم بينما هم ظهراً في بيتهم … ) (تاريخ الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري)، وكذلك يورد الخبر نفسه برواية أخرى؛ إذ ساقه الطبري عن محمد بن إسحاق، قال: (حدثني محمد بن عبد الرحمن … قال: حدثني عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ …). فهذان الإسنادان عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، وغيرهما كثير. وكذلك أسند عروة عن عبد الله بن عباس، فمثلاً؛ فيما يتعلق بغزوة بدر، جاء السند عند الطبري كما يلي: (حدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمرو بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان وغيرهم من علمائنا، عن عروة عن عبد الله بن عباس، كل قد حدثني بعض هذا الحديث …) (تاريخ الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري). وأحياناً لا يذكر من يروي عنه، ويكتفي (أي عروة) بقوله: (فأُخبِرت)، مثال ما أورده الطبري عن فتح مكة، فقد جاء في وسط الجواب الذي كتبه عروة إلى الخليفة عبد الملك عن هذه الحادثة قوله: (فَأُخبِرت أنه -يعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن …) (تاريخ الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري).
2 – الإستشهاد بالآيات القرآنية في توثيق الرواية، وذلك لأن قسماً من مروياته تعرض لأسباب نزول بعض الآيات التي أوضحت بعض المواقف التي أنتهجها الرسول صلى الله عليه وسلّم في الأحداث التي عاصرته (تاريخ الرسل والملوك: محمد بن جرير الطبري). وأحياناً يورد آيات قرآنية يضمِّنها الخبر؛ لاتصالها بالحديث الذي يرويه، مثال ذلك ما ذكره عن أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ بمكة، فقد جاء السند كالآتي: (… محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عروة، عن أبيه قال: كان أول من جهر بالقرآن … عبد الله بن مسعود …) وغيرها (تاريخ الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري).
3 – إيراده الأشعار التي قيلت في الحوادث التي عرضها (تاريخ الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري)، وهذا الإهتمام بايراد الأشعار ناشئ من أن عروة بن الزبير كان من الرواة المشهورين للشعر العربي ولا ينازعه فيه منازع (حلية الأولياء لأبي نعيم، والبداية والنهاية لإسماعيل ابن كثير). ولقد أورد الذهبي رواية عن أبي الزناد، قال: (ما رأيت أروى للشعر من عروة …)، كما يبرز دور الشعر في الحياة آنذاك.
4 – لم يقتصر اهتمام عروة على السيرة النبوية الشريفة في رواياته فحسب، وإنما امتدت إلى تاريخ الخلفاء الراشدين، فقد وردت مقتبسات كثيرة له، على سبيل المثال: عن عزم الخليفة أبي بكر رضي الله تعالى عنه على إنفاذ بعث أسامة، على الرغم من حرج وضع المسلمين، وخبر ردة بعض القبائل، وما جرى بين خالد بن الوليد وأهل اليمامة، وكذلك فيما يتعلق بقيادة الجيوش المتوجهة لفتح بلاد الشام، وخبر أجنادين، ومرض الخليفة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ووفاته، وما يتعلق بواقعة القادسية، وخبر ذهاب أميـر المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى (أيلة) في إحدى رحلاته إلى الشام، وخبر عن وقعة الجمل في خلافة علي رضي الله تعالى عنه، وغيرها.
هذه هي الخطوط العامة التي نهجها عروة في توثيق ورواية بعض حوادث السيرة التي مثلت نقلة نوعية ببروز الأسس والثوابت المعيارية لها من حيث وضع اللبنات التكوينية الأولى لكتابة السيرة وذلك بتقديمه نماذج أولية مكتوبة لبعض حوادث السيرة يسير عليها المتأخرون عنه ويضيفون عليها ما فات على سابقيهم من ذكر بعض الحوادث. وقد توفي سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وتسعين للهجرة.