الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الثاني: تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة وتأريخها
الفصـل الثـانـي: كتـابـة السيـرة الشـاملـة والمستقلـة وتطـورهـا :
المبحـث الأول: السيـرة النبـويـة المسهبـة والمستقلـة ومصنفوها:
المطلـب الأول: العـوامـل التـي سـاهمـت فـي تطـور كتـابـة السيـرة:
قلنا في صـدر هـذا البحث إن الكتـابـة والتأليـف فـي المغـازي والسيـر خضعت لسُنـة التدرج والتطور، وكلما مر الزمن اتسعت دائـرة العلمـاء الذيـن ألفـوا فـي السيـرة، فبعـد العـرض الـذي تم فـي الصفحـات السابقـة للجهـد المبكر والأولي في كتابة السيـرة النبويـة وخط سيرها، نصـل إلـى الثمـرة التي أنتجهـا ذلك الجهـد الـذي تمثـل بكتابـة أول سيـرة شاملـة ومستقلة للرسـول صلى الله عليه وسلّم، وهـي السيـرة التي صنفهـا محمد ابن إسحـاق المطلبـي. وقبـل الحـديث عـن هـذا العـالـم، يجـدر بنـا أن نلقـي نظـرة علـى العـوامـل الأسـاسيـة التي ساعدت علـى حـدوث النقلـة النـوعيـة فـي كتـابـة أحـداث السيـرة والتـي كـانت مـن نتـائجهـا كتـابـة أول سيـرة شاملـة ومستقلـة للرسـول صلى الله عليـه وسلّـم.
1 – أسبـاب تـأخـر كتـابـة أول سيـرة شـاملـة حتـى أواخـر القـرن الثـانـي الهجـري:
لقد كانت هنالك عوامـل عـديدة وراء تأخـر كتـابة أول سيـرة للـرسـول صلى الله عليه وسلّـم بعـد ما يقـرب من القرن والنصف على التحاقه بالرفيق الأعلى، وهذه العوامل هي:
1 – 1 – تحجيـم الأمـوييـن وولاتهـم لأي مشـروع فـي كتـابـة السيـرة النبـويـة: وعلل مـرجليـوث هـذا الـدافـع مـن قبـل الأمـوييـن بالقـول: (وحيـن نقـرأ أنـه لـم يكـن النـاس فـي العهـد الأمـوي يجـرؤون على تسمية أبنائهم بعلي أو حسن أو حسين، لا يدهشنـا أن تتـأخر أقـدم تـرجمـة للنبي إلـى مـا بعد قيـام العباسييـن، إذ لـم يكـن مـن الممكـن أن تـروى ترجمـة النبي في أيام الأمويين دون زعزعة إخـلاص المسلميـن لحكمهـم زعـزعـة خطيـرة ولـم تكـن النتـائـج لتحسـن الأوضـاع … فأنه كلما قـل سمـاعهـم أنبـاء عن صـدر الإسـلام ازداد احتمال احتفاظهم بطاعتهم) (دراسات عن المؤرخين العرب لديفيد صمويل مرجليوث).
وردت روايات كثيرة أكـدت هـذا العـامل، فمنها الروايـة التـي ذكرهـا أبو الفرج الأصفهاني والتي عرض فيها محاورة جـرت بين الزهـري وخالد بن يزيـد القسـري حول طلب الأخيـر كتابة سيـرة للرسول صلى الله عليه وسلّم ومناقشة الزهري لهذه الرغبة من كون السيرة تحمل في جنباتها ذكـراً لماثـر الإمام علي بن أبي طالب عليه السّـلام، فما كاد الزهـري يخبره بهـذا الأمر إلا واستشاط غضباً فقال له أتركه ألا تراه في قعر الجحيم (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني)، كذلك ما أورده السيـوطـي (ت 911 هـ) أن سعيـد بـن المسيب كـان لا يـذكـر اسـم علي بـن أبـي طالب فـي الـروايـات والأحـاديث التـي سمعهـا منـه خـوفـاً مـن ولاة الأمـوييـن وبطشهـم (الحاوي للفتـاوى جـلال الديـن السيوطي).
ولم يكـن مـوقف الأمـوييـن فـي تحجيـم سيـرة الرسـول صلى الله عليه وسلّـم ناتجاً من ورود اسم الإمام علي عليه السّـلام ضمن طيـاتها فقط بـل كـان دور الأنصـار فيهـا عامـلاً آخـر أدى بطبيعـة الحـال إلـى هـذه النتيجـة فقـد كـانت الـروايـة التـي أوردهـا الزبيـر بـن بكار (ت 224 هـ) مـن تمـزيـق سليمـان بـن عبـد الملك للمغـازي التـي كتبها أبـان بـن عثمـان بعـد مـا وجـد فيها تسجيـلاً لمـواقف الأنصـار المشرفة (الأخبار الموفقيات للزبيـر بن بكار)، إذ أن قبيصـة بـن ذؤيب، وهـو تـابعـي من المـدنييـن الذيـن سكنـوا دمشـق وكـان فقيهاً ومـن أعلـم النـاس بقضـاء زيـد بـن ثابـت وقـد جعلـه عبـد الملك بـن مـروان مـن خـاصتـه، كـان قـد أشـار إلـى أسبـاب هـذا الكـره الذي يكنه الأمـويـون للأنصـار بعد مـا سـأله سليمـان عـن ذلك فـأجـاب قبيصـة بالقـول: (يا ابـن أخـي أول من أحدث ذلك معاوية عنـه، فحقـدوا عليهـم وحنقـوهـم وأورثـوه لكـم) (أنسـاب الأشـراف لأحمد بن يحيى البَـلَاذُري)، ويضيف البـلاذري فـي مكـان آخـر أن عبـد الملك قـد مر علـى بعض ولـده فـرأى في أيـديهـم بعضاً من الصحـائف فيها ذكر للمغـازي فأخذها وحـرقها وقال: (عليك بكتاب الله فاقرأه والسنة فأعرفها وأعمل بها) (أنساب الأشراف لأحمد بن يحيى البَلَاذُري)
بين أحـد البـاحثيـن أسبـاب هـذا الإحجـام مـن قبـل الأمـوييـن في السمـاح بانتشار ورواية وكتابة أخبار السيرة والمغازي بستة أسباب هي:
السبب الأول: إنهـم كانـوا يعتقـدون أن جمهـور المسلمين في أيامهم ليسوا كجمهور المسلمين في صدر الإسلام وإنما قـد تغيروا وتبدلوا إذ فارقوا أخلاق المسلمين الأولين وصاروا لا يقاربونهم في النقاء والصفاء.
السبب الثانـي: إنهـم كانـوا يقـرون فـي قـرارة أنفسهم بأنهم ليسـوا كمن سبقهم من الخلفاء الراشدين، وإنما هـم دونهم درجات فهم لا يبلغون مبلغهم في الصلاح والتقوى والورع.
السبب الثالث: إنـهـم كانـوا يـؤمنـون بأن نظـام الحكـم في الإسـلام له قـواعد وأسس ولكنها جميعها ليست ثابتة بـل منها المتغير ومنهـا الثـابت وما يصح منها للنـاس في عصـر قـد لا يصلح لعصـر آخـر وما تصح فيـه حياة الناس في عهد قد تفسد به حياتهم فـي عهـد ثـان.
السبب الرابع: إنـهـم كـانـوا يخشـون أن ينـدد النـاس بسيـاستهـم ويشهـروا بممـارستهـم ويثـوروا علـى خلافتهـم ويسعـوا للتطـويـح بـدولتهـم إذا هـم أباحـوا لهم الإطـلاع على سيـرة مـن سبقهم وسمحـوا لهم بـروايتهـا.
السبب الخامس: إنهـم كانوا يرون أن رواية المغـازي والسيـر تهيـج الإحـن والضغـائـن الكـامنـة وتحـرك الحـزازات والعداوات القـديمـة بينهـم وبيـن الأنصـار، فقد قتـل الأنصار الأمـويين وفتكـوا بهم يوم بـدر وانتقم الأمويون منهم وتشفوا بهم يوم أحـد وكـان الأنصـار يفتخـرون بأنهـم مـن أهـل السـابقـة والقـدم فـي الإسـلام، وأنهـم منعـوا الـرسـول الكـريـم من كفار قـريـش من الأموييـن وغيرهـم، وكانوا يعدون الأمـوييـن ممـن تـأخـر إسـلامهـم وأنهـم مـن المـؤلفـة قلـوبهـم، وكـان الأمـويون لا يغضـون عـن جـراحـاتهـم ولا ينسـون منـاهضـة الأنصـار لهم ولشيعتهم، وكان ذلك مصـدر خصـام بينهم في صـدر الإسـلام.
السبب السادس: أنهم كانـوا يعلمـون بـأن ليـس لهـم نصيب مـن المغـازي والسيـر لأنهـم صـدوا عـن سبيـل الله ونـاصبـوا الـرسـول صلى الله عليه وسلم العـداء وصبـوا عليـه وعلى من آمـن بـرسالته أصناف العذاب وقتل من قتل منهم وهم يدافعون عن أوثانهم وسلطـانهـم في أول الـدعـوة، ولـم يـدخلـوا الإسـلام إلا بعـد فتح مكـة فكفـوا النـاس عن رواية المغـازي والسير لكتمانها وإخفائها وأنهم كانوا يعتقـدون أن فـي إطـلاع النـاس عليـهـا نـشـراً لمسـاوئ الأمـوييـن وازدراء بـهـم وتجـريحـاً لهـم وفيـه إظهـار لمحـاسـن الأنصـار وثنـاء عليهـم (الرواية التأريخية في بلاد الشام في العصر الأموي لحسين عطوان)
جعـل هـذا السبب جهـود الصحابـة والتـابعيـن ومـن أتـى بعـدهم من الذين عاصـروا الدولة الأموية، بتدوين ورواية أحـداث السيـرة مقتصـرة علـى رغبـات شخصية بحتـة عدا المدة التي تولى فيها عمر بن عبد العزيز الخلافة (99 – 101 هـ)، إذ تبنى فيها عملية كتابة وتـدويـن الحـديـث ونشـره ورواية السيـرة ومنـاقب الصحـابـة علـى جـمـهـور المـسـلميـن (جامـع بيـان العلـم وفضلـه ليـوسف ابن عبد البر).
1 – 2 – غيـاب المنهـج وأسـاليـب العـرض : وسبك العبـارات وتنسيـق الـجـمـل فـي مـجـمـوع مـتـكـامـل من قبل المسلميـن، وهـذا العامـل راجـع إلى أنهم لم يألفـوا تصنيف الكتب المبـوبـة على وفق موضوع معين (التأريخ العربي و المؤرخون لمصطفى شاكر)، وكان هذا السبب عـامـلاً ليس فـي تـأخـر كتـابـة سيـرة شاملة للرسـول صلـى الله عليه وسلّـم فقط بـل فـي تأخـر كتابـة العلـوم والمعـارف الأخـرى من قبـل المسلميـن آنذاك، إذ نـلاحـظ أن نشـأة التـدويـن التـأريخـي وبضمنـه كتـابـة السيـرة النبـويـة قـد مـر بمـراحل ثلاث إلـى أن وصـل إلـى صـيـغـتـه الـمـألـوفـة وهـذه الـمـراحـل هـي:
أ . تقييـد الفكـرة أو الحـديث فـي صحـائـف مستقلـة للمـذاكـرة والحفـظ: وهـذه الـمـرحـلـة هـي أدنـى المـراحـل وأيسرها.
ب . تـدوين الأفكـار المتشـابهـة أو الأحـاديث التـي اختصت بمـوضـوع معيـن فـي ديـوان واحـد: وتعـدّ هـذه المرحلة هي المرحلة الوسطىوتعـدّ هـذه المرحلة هي المرحلة الوسطى.
ج . تصنيف المجاميـع وترتيب ما دوّن وتنظيمـه: ووضعـه تحت فصـول محددة وأبواب مميزة، وهـذه المرحلة من أهم هذه المراحل وأعقدها (التأريخ العربي و المؤرخون لمصطفى شاكر).
مـن هـذا نرى أن هـذه المـراحـل قد شكلت الحلقات التي مـر بها تصنيف الكتب إذا ما علمنا أن اللغوييـن عند عرضهـم لمعنى كلمة (صنّف) وجـدناهـم يقـولـون: (وصنفه تصنيفاً جعله أصنافاً وميـز بعضه عـن بعض ومنـه تصنيف الكتب) (لسـان العرب لابن منظور).
أعطى أحد الباحثيـن تعليـلاً للسبب الـذي أدى إلـى ظهـور أولى المصنفـات عنـد المسلميـن في بدايـة العصـر العباسي حصراً بأن طبيعـة التطـور الـذي أحـدثـه النضـج العلمـي الـذي نشـأ بالإتصـال الفكـري مـن قبـل المسلميـن بالأمـم المجـاورة، واقـتـبـاس تـجـارب هـذه الأمـم فـي تصنيف الكتب وتـوثيـق علـومهـم ونقلهـا إلـى بـلاد الإسـلام (موسوعـة التـأريـخ الإسـلامـي والحضـارة الإسـلاميـة لأحمد شلبي).
هـذه هـي الـعـوامـل والأسـبـاب الـتـي كـانت وراء تـأخـر التصنيف فـي سيـرة الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّم، حتـى بـدايـة الـعـصـر الـعـبـاسـي.
2 – العـوامـل التـي سـاهمـت فـي تطـور كتـابـة السيـرة:
2 – 1 – تكـامـل الفكـرة والمنهـج والأسلـوب فـي كتـابـة السيـرة: هذا مـع تـوفـر الجـديـة والـتـوازن في عـرضـهـا، وهـذا الأمـر راجـع إلـى اتـصـاف الحـوادث التـي ذكـرت بالشمـوليـة، فـالـذي جمـع أخبـار السيـرة جمـع كـل شيء من سياسة وحرب واقتصاد واجتماع وصفات شخصية وحياة ذاتية فيها أدق التفاصيل.
2 – 2 – الـدعـم المبـاشـر مـن قبـل الخلفـاء العبـاسييـن للعلمـاء: فقد أغـدق الخلفـاء الهبـات على العلمـاء ولا سيما العلمـاء المهتميـن بالسيـرة والمغـازي واستقطـابهـم إلـى عاصمـة الخـلافـة بغـداد، إذ تشيـر المصادر إلى أن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (136 – 158 هـ) قـد طلـب مـن محمد بـن إسحـاق أن يصنـف لأبنـه محمد المهـدي كـتـاباً مـنـذ خـلـق الله تـعـالـى آدم عليـه الـسّـلام إلـى يـومـه ذاك (تأريخ بغداد للخطيب البغدادي)، فضلاً عـن اتبـاع المهـدي العبـاسي الشـيء نفسـه عندمـا تسلـم مقاليـد الخـلافـة (158 – 169 هـ) وذلك باصطحابـه لأبـي معشـر السنـدي (ت 170 هـ) إلـى بغـداد ليعلـم أولاده بعـدما عـرف فضلـه وعلمـه وتبحـره بأحـداث الإسـلام وذلك عند التقائه به في موسم الحج (الطبقات الكبرى لابن سعد)، ولم يقتصر الأمـر علـى هذيـن الخليفتيـن بـل انتهج هارون الـرشيد (170 – 193 هـ) منهاج آبـائـه نفسـه فـي تعـرّف أخبـار الـرسـول صلـى الله عليه وسلّم وأحـواله ومغـازيه وتقـريب العلمـاء المهتمين بمعرفة ذلك، إذ أشـارت المصادر التي ترجمت لمحمـد بن عمـر الواقـدي إلـى أنه قـد حظي بمكانـة بالغة في بـلاط الرشيـد وإبنه المأمون من بعده الذي جعله قاضياً فـي بغداد وذلك بعدمـا عـرف الأول فضله وتبحـره بأحـوال الرسـول صلى الله عليه وسلّـم ومغـازيه والأمـاكن التي حصلت فيها حوادث عصر الرسـالة عند زيـارته مع يحيى البـرمكي لبيت الله الحرام، و أطلعهما الواقدي على تلك الأماكن (الطبقات الكبرى لابن سعد).
كان هـذا المـوقف الذي أنتهجه العبـاسيـون تجاه المهتمين بأخبـار السيـرة والمغـازي تحصيـل حاصـل وأمـراً لا مناص مـنـه، إذ كـانت حـالـة التـذبـذب والعشـوائيـة فـي كتـابة السيـرة هـي الـسـمـة التـي اتسمت بهـا المـدونـات الأولـى لسيـرة الـرسـول صـلـى الله عليـه وسلّـم فـي العصـر الأمـوي، فمـا كـان مـن العبـاسيـن إلا أن حـاولـوا تغييـر الكيفيـة والـحـال الـذي سـارت عـلـيـه كـتـابـة الـسـيـرة، باتبـاع سيـاسة جـديـدة تمثلت بـدعـم وتشجيـع المهتميـن بهـا وتقـريبهـم إلـى بـلاطهـم.
شبه للمستشـرق الإنجليـزي ديفيـد صمويل مرغليـوث هـذا الموقف من قبل الأمويين بالسد الذي تجمعت خلفه المياه فما إن تصدعت أركان هـذا السـد وانهـار وتلاشـى بسقـوط الأمـويين ودولتهم، حتى انفتحت لأجـل ذلك قرائح العلماء بالكتـابة والتصنيف في مختلف الإتجاهات بعد بـروز قـوى متعددة مثلت كـل واحـدة مـن هـذه القـوى فكـرة واتجـاهاً معيناً، مما أشعـر السلطـة الجـديدة بمخاطـر هـذا الأمـر، فما كان منهم إلا أن غيروا سيـاسـة المنـع وعـدم التشجيـع بسيـاسـة تمثلـت باحـتـواء هـذه الحـالـة الجـديـدة فعمـدت إلـى إلحـاق مشـاهيـر العلمـاء فـي مختلف ميادين المعـرفـة، وعلمـاء السيـرة والمغـازي منهم بخـاصـة بالـدولـة، ودفـع هـؤلاء بما أجـزلـوه لهم مـن عطـايا وأمـوال بتعـديل وتـزييف بعض الحقائـق، فالرقيب العبـاسـي لـم يأخـذ بسياسة المنع بل لجأ إلى سياسة التعديل والشطب والتغيير وإضافة أشياء مصطنعة (دراسات عن المؤرخين العرب لديفيد صمويل مرجليوث).
كانت حادثـة اشتـراك العبـاس بـن عبد المطلب عـم الرسـول صلى الله عليه وسلّـم في معـركـة بـدر بجانب جيـش المشركين وإسهامه فـي إطعـامهـم بالطـريـق وقيـام المسلميـن بـأسـره فـي هـذه المعـركـة، خيـر مـثـال علـى الـكـلام آنـف الـذكـر، فقـد أغفـل مـؤرخـو السـيـرة الأوائـل الـذيـن كـانت لهـم صـلات طيبـة بالبـلاط الـعـبـاسـي هـذه الحـادثـة (السيـرة النبـوية لعبد الملك ابـن هشام)، أما الـذيـن كـان تـأثيـر العبـاسييـن فيهـم قليـلاً أو بعيـديـن عنـه فقـد ذكـروا هـذه الحـادثـة بـتـفـاصـيـلـهـا (الطبـقـات الكبـرى لابـن سعـد).
2 – 3 – تـوفـر المـواد الأوليـة للكتـابـة ورخـص أثمـانهـا: فندرة مـواد الـكـتـابـة وغـلاء أثـمـانـهـا كـانـت عامـلاً مـن العـوامـل المبـاشـرة التـي أدت إلـى تـأخـر عمليـة التدويـن للمـرويات الشفـوية، بسبب طبيعة مواد الكتابة وأحوالها التي يصفها ابن النديـم بالقـول: (كتب أهـل مصـر بالقرطـاس المصـري ويعمـل بالقصب البـردي والـروم تكتب بالحـرير الأبيض والرق وغيره في الطومار المصري، وفي الفلجـان وهـي جلـود الحميـر الوحشيـة، وكانت الفـرس تكتب فـي جلـود الجـواميس والبقر والغنم، والعرب تكتب في أكتاف الأبل واللخاف (وهـي الحجارة الرقاق البيض) وفـي عسب النخـل، والصيـن في الـورق الصيني ويعمـل من الحشيش … فأما الـورق الخـراساني فيعمل من الكتان ويقال إنه حـدث فـي أيـام بنـي أمـيـة وقيـل فـي الـدولـة العـبـاسيـة … وقـيـل أن صـنـاعـاً مـن الصيـن عـمـلـوه فـي خـراسـان علـى مـثـال الـورق الصينـي …) (الفهرست لمحمد ابن النديم).
يبدو لنـا مـن كـلام ابـن النـديـم أن هذه المواد كانت تتسم بالقلة لاختصاص كل بلد بمادة يكتب فيها لعدم وجود مواد كثيرة منهـا تسـاعـد على انتشـارها فـي كـل البـلاد، وإن وجـدت فإنها غـالية الأثمـان، مما أسهـم ذلك فـي قلة الكتـابة والإعتمـاد علـى الحفـظ (دراسات في حضارة الإسلام لجب هاملتون)، وظل الإقتصـاد فيهـا مستمـراً حتـى انتقلت صنـاعـة الـورق مـن الصيـن إلى الدولة العربيـة الإسـلاميـة عـن طريق عمليات الفتوحات الإسـلاميـة ولا سيما عند وصولهم إلى مدينة سمرقند التي يقول عنها الثعالبي عند وصفه لها: (من خصائص سمرقنـد الكـواغيـد التـي عطلت قـراطيـس مـصـر والجـلـود التـي كـانـوا يكتبـون فيها لأنهـا أحسـن وأنعـم وأرفق ولا يكـون إلا بـهـا وبالصيـن) (لطائف المعارف لعبد الملك بن محمد)، ومن سمـرقنـد نقـل العـرب إليهـم صنـاعـة الـورق الصينـي الـذي يمتـاز بقلـة سعـره قيـاساً بالقـراطيس والجلـود فضلاً عـن انتشـاره بكميات كبيرة، وأنشـأوا في بغداد مصنعاً للورق في زمـن العباسيين.
ولهذا كانت نـدرة مـواد الكتابـة مـن العوامـل التي عاقت كتابة السيـرة ونشرها بين الناس، فما أن أنتشر الورق ورخص ثمنـه إلا وأقبـل العلمـاء علـى تصنيف الكتب بمختلف اتجـاهـاتهـا وبضمنهـا السيـرة، وتـرجمـة تـراث الأمم المجاورة والقديمة إلى لغتهم (الحضارة العربية لجاك ريسلر).
2 – 4 – ظهـور التخصـص المعـرفـي فـي العلـوم المعـروفـة آنـذاك مـن قبـل المسلميـن: وهـذا ما بينـه الذهبـي (ت 748 هـ) عند عـرضـه حـوادث (سنة 143 هـ) إذ يقول: (وفي هـذا العصـر شـرع علمـاء الإسـلام فـي تدويـن الحـديث والفقـه والتفسير وكثر تدوين العلم وتبـويبـه ودونت كتب العـربيـة واللغـة والتأريـخ وأيام الناس، وقبل هـذا العصـر كان سائـر الأئمة يتكلمون عن حفظهم أو يروون من صحف مكتوبة وغير مرتبة) (تأريخ الإسلام لشمس الدين بن عثمان الذهبي).
شمـل هـذا التخصص كتابـة السيـرة النبـويـة، إذ انفصلت فـي هـذا العصر عرى الإرتباط بين أنماط وأساليب المحدثين وأهـل الأخبـار في كتابة حـوادث السيـرة، وولّد هـذا الفصل تبايناً بين العلمـاء الذيـن تمنـوا كتابتها، فقد كان مصنفوها الأوائل مؤرخين أولاً ثم محدثين بالدرجة الثانية (بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب لعبد العزيز الدوري).
ظهـر هـذا التخصص المبكـر في كتـابة السيـرة النبـويـة مـن قبـل بعض العلماء، وذلك لأن المسلميـن قد تطلعـوا إلى إعـادة امتـلاك التجـربـة التـأريخيـة الفـريـدة: تجـربة النبـوة والمجتمع المثالي الأول، ولأجـل إعطاء هذه الصورة التأريخية الشاملة صفة تدعيم فكـرة الأمـة والمجتمـع الناشـئ، بعد أن أتصـل العـرب والمسلمـون بالأمـم الأخـرى، ظهر هذا الحافز بعد أن برزت مشاكل جديدة نتيجة اختلاط العرب والمسلميـن بالأمـم الأخـرى، تيقـن هـؤلاء أن هـذه المشاكـل لا يرجى حلها إلا باستعادة تجربة الوحي ومغازي الرسول صلى الله عليه وسلّم وسيرته بكتابتها ضمـن منظـور تأريخي واسـع يجعلها خاتمة تجـارب الأمـم التي عاشت مع الأنبياء ورسالاتهـم، أو كانت لها صلة من أي نوع بفكرة التوحيد، باستلهام هذا المنظـور التـأريخـي مـن القـرآن ومعـارف العـرب التقليدية وما عرفـوه من معايشتهم لأصحاب الكتاب وأهل البـلاد المفتوحة (بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب لعبد العزيز الدوري).
2 – 5 – تـوقـف نشـاط حـركـة الفتـوحـات الإسـلاميـة، والإستقـرار الإجتمـاعـي: وكـان مـن نتـائجـه التمـازج الـحـضـاري مـع الـشـعـوب، وهـو النشـاط الـذي اختمـرت تفاعلاتـه فـي هـذا العصـر وكـان ثمـرة من ثمـرات سماحة الإسلام ومرونة العرب وانفتاحهم على غيرهم من الأمم والشعوب.
لـم تكـد تظهـر أول سيـرة مفصلة للرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم، حتـى انتهج المصنفـون منحييـن في كتابتها، إذ كان المنحـى الأول يتمثـل بعـرض حـوادثهـا بإسهـاب وتفصيـل والتبعـات التـي رافقت تلك الحـوادث، أمـا المنحـى الثـانـي فـقـد تمثـل باقتضـاب حـوادث الـسـيـرة وعـرضـهـا بـمـصـنـفـات مختصـرة بـحـسـب الكيفيـة الـتـي يـرومهـا المصنـف، وقبـل أي شـئ، يـجـب الإشـارة إلـى المحـاور التـي رافقت كتـابتهـا، إذ نـلاحـظ أن العلمـاء المسلميـن قـد انتهجـوا في بدايـة كتابتهم للحـوادث التأريخية وأخبار الأمم السالفة المعـرفة بكل ما وصل إليهم من نصـوص مكتـوبة عنها وما قرئ علـى مسامعهـم مـن سـرد لهـذه الحـوادث، وجمع هـذه المـوارد مجتمعة في مصنفات تبوب بحسب المواضيع التي تخصها من دون إبـداء وجهـة نظـر أو نقـد أو مقـارنـة بيـن المصنفات المتماثلـة أو الروايات المتشابهـة، أطلق علـى الذيـن اتبعوا هذا الأسلوب في عرض الحوادث بالاخباريين (علم التأريخ عند المسلمين لفرانز روزنثال).
شمـل هـذا النهـج فـي الكتـابـة والتصنيف الـذي سلكه الإخباريـون جميع المعارف الإنسانية آنذاك، وبضمنها الكتابة التأريخية التي شكلت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلّم جزء منها (دراسات في حضارة الإسلام لجب).
ولأجـل ذلك كـانت أولـى المصنفـات فـي سيـرة الرسـول محمد صلـى الله عليـه وسلّـم عبـارة عن جمع شتات المدونات الأولية والـروايات التـي تنـاقلتهـا الألسـن والشفاه عـن أحـوال الرسـول صلى الله عليه وسلّم في مصنف مستقل من دون نقد للروايات التي تضمنها من حيث قوتها وضعفها.
استمـر هـذا المنحـى عنـد مـن أتى بعـد هـؤلاء الإخبـارييـن، ولكنهم اختلفـوا عنهم بكـونهم قد فحصـوا النصوص التي أوردوهـا، وبينـوا ضعف بعض منها وعـدم دقـة بعضها الآخـر، ولإنتهتاج هؤلاء المصنفين الذين تلوا الاخباريين هذا المنهج في عرض الحوادث التاريخية والسيـرة منهـا بخاصـة، عـدّ هـؤلاء مـؤرخيـن واخبـاريين في آن واحد (بحث في نشأة علم التأريخ عند العرب لعبد العزيز الدوري).
نستنتـج مـن ذلك أن كـل مـؤرخ هـو إخبـاري ولكـن ليس كل إخباري مـؤرخاً، مما جعل المصنفات التي سنتناولها في هذا الفصـل تمتـاز بالتنـوع بيـن هذيـن المنحيين في الكتابة التـأريخية، التي ستظهر حدوث تطورين في كتابة السيرة: التطور الأول تمثل بظهور أول مصنف يعـرضهـا بالتفصيل وباستقـلاليـة عـن باقي المصنفات التي كتبت في ذلك العصـر، والتطـور الثاني تمثل بتعدد المناهج والأساليب التي كتب بها هؤلاء المصنفـون سيـرة الرسـول صلى الله عليه وسلّم والإضـافات النوعيـة في كل مصنف من هـذه المصنفات مقارنة بمثيلاته أو بالمصنفات الأخرى التي دخلت السيرة النبوية في هيكلها.