الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الأول: دراسة السيرة النبوية الشريفة ومزاياها وأهدافها
الفصـل الأول: التـأليـف فـي السيـرة قبـل التصنيـف والتبـويـب
المبحـث الأول : توطئة
من سنن الله الكونية أن كل شيء يخضع للتدرج في النشأة والتكوين، يتساوى في ذلك الإنسان والحيوان والأفكار والعلوم والفنون، فلا شيء يخلق كاملًا، أو ينشأ ناضجًا مستوي التكوين، وإنما يمر بمراحل زمنية متتابعة، حتى يصل إلى نضجه واستوائه وكماله.
وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تشذ عن تلك القاعدة ولم تخرج عن ذلك الناموس، فنحن نعلم أن سيرة الرسول لم تدون في حياته، بمعنى أنه لم يكن من بين الكتَّاب الذين كانوا يكتبون للرسول صلى الله عليه وسلم الوحي وغيره -وهم كثيرون- مَن تخصص في تسجيل أحداث حياته صلى الله عليه وسلم؛ الخاصة والعامة، واستمر الحال على ذلك طوال خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة 11 – 40 هـ .
ويبدو أنه كان لذلك أسباب كثيرة من أهمها أن الرجال الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم وهم صحابته رضوان الله عليهم جميعاً لم يكونوا في حاجة إلى تسجيل تلك الأحداث، فهم قد عايشوها وانفعلوا بها وتفاعلوا معها بدرجة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الرسالات والدعوات الدينية فكل مشهد منطبع في ذاكرتهم، وكل كلمة نطق بها الرسول حفظوها، وكل عمل من أعماله معروف لديهم تمام المعرفة وبكل التفاصيل، هذا مع ما امتازوا به من قوة الحافظة وسرعة البديهة. فلم تكن الحاجة إذن تدعو لتدوين أحداث حياة الرسول وسيرته لاستغنائهم بالمشاهدة والحفظ ولانشغالهم بالغزوات والفتوحات.
غير أنه لم يكد جيل الصحابة، وهم شهود وحفاظ السيرة، يختفي حتى ظهرت الحاجة إلى تدوين وتسجيـل السيـرة النبـوية، والتأريخ للعهد النبـوي، فجيل التابعيـن وهم الذين رأوا الصحابة وعاصروهم وتعلموا منهم، لم يروا بأنفسهم الأعمال الرائعة والجهـاد المجيـد الذي قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل الرسالة الإسلامية وتبليغها للناس، ولكنهـم سمعـوا عن ذلك من الصحابة، فبهرتهم الأعمال والمواقف والأخلاق، فتاقت نفوسهم لمعرفة كل شيء بالتفصيل ولم يفوِّتـوا الفرصة، بل عضوا عليها بالنواجذ، وأخذوا يسألون الصحابة الذين صحبوا الرسول وضحوا معه، وشهدوا جميع مشاهده ومواقعه، ومن الأسئلة التي كانوا يسألونها على سبيل المثـال: متى وكيف كانت بيعة العقبة ؟ متى كانت الهجـرة إلى الحبشـة ؟ وكم عدد الذين هاجروا في الأولى والثانية ؟ ومتى عادوا ؟ وكيف كانت غزوة بدر ؟ ومن الذين شهدوها ؟ هذه الأسئلـة وأمثالها كانت تلقى على الصحابة ويجيبون عنها، وأسلوب السؤال والجواب كما هو معروف، من أهم روافـد العلم، خصوصاً في مراحل النشأة والتكوين.
بل إن القـرآن الكريـم حافل باستخدام أسلوب السؤال والجواب حتى في مجال العقيدة وإثباتها، وإقامة الحجة على الكافرين الجاحدين، مثل قول الله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (سورة المؤمنون، الآيـات: 84 – 87).
وكان من الطبيعي أن تكون المدينة المنورة، هي أصلح بيئة للإجابة عن كل ما يتعلق بحياة الرسول وسيرته من حيث عاش معظم الصحابة الذين عايشوا أحداث الإسلام الكبرى في عهد الرسول، ونقلوها للتابعين، الذين لم يكتفوا بالتلقي والحفظ، بل بدأوا بتدوين الوقائع والأحداث كما سمعوها من الذين شاهدوها، وكانت تلك لحظة البداية، بداية التأليف في السيرة النبوية. و اتسعت دائـرة السؤال والجواب، ولم تعد قاصرة على المدينة وحدها، بل سارع الناس في خطى الصحابة في كل مصرٍ حلوا بـه، مثـل: البصرة والكوفة ودمشق والفسطاط … إلخ.
ومن حسن الحظ أن من كبار التابعين الذين بدأوا التدوين في السيـرة النبوية، وأصبحوا مصدراً رئيساً من مصادرها كانوا من أبناء كبار الصحابة الذين أخذوا العلم عن آبائهم الكرام، وهم الذين رأوا كل شيء وشاركوا بأنفسهم، بل كان من أوائل علماء السيرة من هم على صلة قريبة ووثيقة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم مثل عروة بن الزبير بن العوام، إبن أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما وابن أخت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فجيل التابعين أو من اتصل بهم وسمع منهم أخبار عصر الرسالة بتفصيلاته الدينية والدنيوية قد أكملوا ما بدأه سابقوهم بتدوين أحداث السيـرة ونشرها بين النـاس. إذ وجدنا مدوناتهم قد كانت أكثر وضوحاً وشمولية من سابقتها، وذلك لتبني بعضهم مهمة جمع وتدوين بعض النصوص التي وقعت بين أيديهم والتي كتبها بعض الصحابة. تلك النصوص التي تخص مشاهد الرسالة والأحداث التي عاصروها من جانب، ومن جانب آخر وجود حافز تمثل في دور مؤسسة الخلافة التي كان الأمويون على رأسها؛ حين اتجهت هذه المؤسسة إلى السؤال والإستفسار من بعض هؤلاء التابعين عما يعرفونه من أخبار حول حوادث معينة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم، وما رافقهـا من أمـور الدعوة والدعاة، وهذا الأمر يعدّ نقلة نوعية في المسار التطوري لكتابة السيرة النبوية، فضلاً عن ذلك فإن هـذه المدونات تتصف بطـابعها الإنساني وواقعيتها ويندر فيها ما نشاهده لدى المؤرخين في ما بعد من مبالغات. وقد ولّدت هذه الأمور مجتمعة دوراً أساساً في تكوين مرحلة إنتقالية أطلق عليها المرحلة الإنتقالية بيـن دراسة الحديث ودراسة المغـازي (بحث في نشـأة علـم التأريخ لعبد العـزيز الدوري)، ويعطي أحد الباحثين بعداً أكثـر شموليـة من الرأي السابق إذ يقـول: (وقد شرع الناس فـي الجيـل التـالي للصحـابة، جيـل التـابعين بجمع روايات و أقوال النبـي صلى الله عليه وسلم وأفعاله التي كانت شائعـة في عصرهم، وإذا كانت مـادة أحـاديث عـدد مـن الصحـابة المدونـة في الصحـائف والكتب مشكوكـاً في صحتهـا وقيمتهـا، فإنه لا يوجـد شك في أن مثـل هذه الكتب كانت نـادرة في جيـل التابعيـن الذيـن أخذوا معـارفهـم عن الصحـابـة ووجـد بينهـم أنـاس يعتبرون علماء بالمغـازي) (المغازي الأولى و مؤلفوها ليوسف هوروفتس).