فضل دراسة علم السيرة النبوية

الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الأول: دراسة السيرة النبوية الشريفة ومزاياها وأهدافها
الفصل الثاني: مزايا السيرة النبوية وفضل دراستها
المبحث الثاني: فضل دراسة علم السيرة النبوية:

     إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ساحةً يرتادها المرتادون، ليجنوا الثمار الطيبة والجني الطيب، ويمكن ذكر بعض الثمار المجتناة من السيرة كما يلي:

1 – ثمار يجتنيها المسلمون كلهم علماؤهم وعامتهم:
أ – معرفة فضل الله على النبي وعلى أمته:
     فقد بدأت دعوة النبي غريبة لا تكاد تجد مناصراً لها ووضع الأعداء في طريقها من العقبات ما كان بعضه بميزان العقل كفيلاً بالقضاء عليها في مهدها قضاء مبرماً، وبعد أحد عشر عاماً من القيام بالدعوة وحمايتها لم يتمكن المسلمون من أن يكون لهم مركز قوي يستطيع أن يدفع أذى المشركين عنهم، بل كان الحل في الهجرة إلى أرض جديدة حيث يستطيع المسلمون أن يكوّنوا نواة لدولتهم، وهم في سبيل ذلك خاضوا معارك وحروباً كانوا هم دوماً القلة عدداً وعتاداً، ومع هذا كان النصر حليفهم، بل لما أحسوا بكثرتهم وقوتهم في غزوة حنين هزموا أوّل المعركة ولم تغن عنهم كثرتهم شيئاً، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم في عدد قليل يذكر بالنبوة يقول:
أنـا الـنـبـي لا كـذب  *  *  *  *    أنا ابـن عـبـد الـمـطـلـب

     وهذا ما وضحه العباس بن عبد المطلب لما قال له أبو سفيان في فتح مكة: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً! فقال له العباس: إنها النبوة (ينظر : سيرة ابن هشام، والبداية و النهاية). وفي عهد الفتوحات أيام الخلافة الراشدة وما بعدها كان المسلمون أقل من عدوهم، لكنهم كانوا أكثر منهم إيماناً، ولسان حالهم يقول: نحن لا نغلب الناس من قلة أو كثرة ولكن نغلبهم بفضل الله.

     ومن أبلغ الأمثلة دلالة على ذلك، ما قاله قائد الفرس في موقعة نهاوند (21 هـ) للمغيرة بن شعبة وقد بعثه المسلمون إليه، قال قائد الفرس بنذاذ قان: (يا معشر العرب، إنكم كنتم أطول الناس جوعاً، وأعظم الناس شقاءً، وأقذر الناس قذراً، وأبعد الناس داراً، وأبعده من كل خير. وما كان منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنُّشَّاب (النبال) إلا تنُّجساً بجيفكم، لأنكم أرجاس، فإن تذهبوا نخلي عنكم، وإن تأبوا نركم مصارعكم).

     فرد عليه المغيرة بن شعبة بعد أن حمد الله وأثنى عليه فقال: (والله ما أخطأت من صفتنا ونعتنا شيئاً. إن كنا لأبعد الناس داراً، وأشد الناس جوعاً، وأعظم الناس شقاءً، وأبعد الناس من كل خير. حتى بعث الله إلينا رسولاً فوعدنا النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، فلم نزل نتعرف من ربنا مذ جاءنا رسوله صلى الله عليه وسلم الفلج (الظفر والفوز) والنصر حتى أتيناكم. وإنا والله نرى لكم مُلكاً وعيشاً لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبداً حتى نغلبكم على ما في أيديكم أو نقتل في أرضكم) (أخرجه الطبري في التاريخ، وابن حبان في صحيحه، والحديث أصله في صحيح البخاري) .

     إذن دراسة السيرة تفيد المسلمين كلهم في هذه الناحية، أعني مقام النبوة، فليست سيرة محمد سيرة واحد من البشر من أصحاب الصفات الخارقة والشمائل فوق العادية، وإنما هي سيرة نبي كان يمده الله بعونه وفضله ونصره، ولولا هذا ما كان للسيرة هذا الجانب المشرق والنور المضيء الذي يأخذ بالألباب والعقول، وصدق الله تعالى إذ يقول للنبي: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} (سورة الضحى، الآيات: 6 – 8)، ولذا قال الله عز وجل: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (سورة النساء، الآية: 113). ولنذكر موقفاً واحداً يدلل على صدق ما نقول ألا وهو غزوة بدر، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّـنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (سورة آل عمران، الآيـات: 123 – 126).

     وفي ضوء هذا يمكن تفسير قول ابن حزم: (إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة وتشهد له بأنه رسول الله حقاً، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى) (الملل والنحل). وقال ابن تيمية: (وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقـه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته (أي من دلائل نبوته) (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح).

ب – الإقتداء به صلى الله عليه وسلم:
     وهذا جانب يبنى على الجانب السابق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث معلماً يعلم الناس الخير وينهاهم عن الشر، وهو أول من يفعل الخير وأول من ينهى عن الشر، فكان صلى الله عليه وسلم ملتزماً بكتاب الله وسنته في جميع أحواله وشؤونه حال رضاه وغضبه وسروره وحزنه وحبه وبغضه، وحربه وسلمه وضعفه وقوته ونصره وهزيمته وفقره وغناه وحال تعامله مع أعدائه وأصحابه وأهل بيته وغيرهم. كان في كل ذلك المثال الحي النابض لتطبيق ما أمر به ونهى؛ لذا قالت السيدة عائشة لمن سألها عن خلقه صلى الله عليه وسلم: (ألست تقرأ القرآن؟ فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن) (أخرجه مسلم).

     إذاً كان صلى الله عليه وسلم القدوة والمثل الأعلى للمسلـم يقتدي به في حياته، قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (سورة الأحزاب، الآية: 21) وقال الدكتور يوسف القرضاوي: (ولا يوجد امرؤ من الناس إلا وجد في هذه السيرة الشاملة الجامعة ما يأخذ منه الأسوة والهدى الأكمل، يستوي في ذلك الشاب والشيخ والعزب والمتزوج والغني والفقير والحاكم والمحكوم والمسالم والمحارب، ولا يعرف من اجتمعت له هذه الأوصاف إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فشمول سيرته مكافئ لشمول رسالته) (السنة مصدراً للمعرفة والحضارة).

     كما أن دراسة السيرة تقدم صوراً مضيئة لرجال آزروا النبي صلى الله عليه وسلم وناصروه وضحُّوا معه بالغالي والنفيس ولم يدخروا وسعاً في الدفاع عن دين الله ونشره في الآفاق، ويكفي أن أذكر أن حنظلة بن أبي عامر الراهب الذي استشهد يوم أحد فغسلته الملائكة؛ لأنه خرج جنباً لما سمع النداء للقتال (أخرجه ابن حبان، والحاكم، وعنه البيهقي في السنن، كلهم من طريق ابن إسحاق بإسناده إلى عبد الله بن الزبير، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي)، فلم يتوان ويقول لنفسه أخرج بعد أن أغتسل فهؤلاء نماذج طيبة للاقتداء وللأسوة الحسنة لمن رام أن يحيا حياة طيبة في الدنيا والآخرة، قال عبد الله بن عمر بن الخطاب عن الصحابة: (قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة) (حلية الأولياء).

2 – ثمار خاصة يجتنيها العلماء :
     يحسن بعلماء الأمة إن لم يجب، أن يدرسوا السيرة النبوية، وذلك ليستفيد منها كل في تخصصه، قال ابن كثير: (إنه لا يجمل بأولي العلم إهمال معرفة الأيام النبوية والتواريخ الإسلامية وهي مشتملة على علوم جمة وفوائد مهمة لا يستغني عالم عنها ولا يعذر في العُرُوِّ منها) (الفصول في اختصار سيرة الرسول). وقال الحلبي: (إن سيرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام من أهم ما اهتم به العلماء الأعلام وحفاظ ملة الإسلام، كيف لا وهو الموصل لعلم الحلال والحرام، والحامل على التخلق بالأخلاق العظام وقد قال الزهري رحمه الله: (في علم المغازي خير الدنيا والآخرة)) (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون أو السيرة الحلبية). وأرى أنه من أوجب الواجبات الآن تقديم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العالم تقديماً وافياً شاملاً سهلاً واضحاً معتمداً للروايات الصحيحة والمقبولة، لكي يعرف هذا العالم كم كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بجوانب السماحة والرحمة والرفق وتعظيم الحرمات وحفظ العهود والمواثيق، ومن ثمَّ يمكن أن نغير الصورة الخاطئة عن دين الإسلام ونبيه، فإذا لم يؤمن القارئ منهم به صلى الله عليه وسلم فلا أقل من أن يكوّن انطباعات طيبة عنه صلى الله عليه وسلم تزيل الأفكار والمفاهيم المغلوطة عنه صلى الله عليه وسلم. وفي هذا المقام يذكر أن بعض الغربيين، وهم قلة، لما توفروا على دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم دراسـة نزيهة بعيدة عن الأغراض خلصوا إلى تبجيله وتعظيمه وإعطائه بعض ما يستحق من مكانة في تاريخ البشرية، ولعل أوضح مثال على ذلك هو مايكل هارت.
والخلاصة أن توفير دراسة للسيرة بالمواصفات السابقة هي مهمة جليلة يجب أن يضطلع بها علماء الأمة حتى نقدم نبي الإسلام كما هو لا كما يريد أن يراه مشوهو الحقائق ومزيفو التاريخ ومتعصبو الديانات الأخرى.

 

                                                               

عن المدير