الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الأول: دراسة السيرة النبوية الشريفة ومزاياها وأهدافها
الفصل الثاني: مزايا السيرة النبوية وفضل دراستها
المبحث الأول: مزايا السيرة النبوية
تجمع السيرة النبوية عدة مزايا تجعل دراستها متعة روحية وعقلية وتاريخية، كما تجعل هذه الدراسة ضرورية لعلماء الشريعة والدعاة إلى الله والمهتمين بالإصلاح الإجتماعي، ليضمنوا إبلاغ الشريعة إلى الناس بأسلوب يجعلهم يرون فيها المعتصم الذي يلوذون به عند اضطراب السبل واشتداد العواصف، ولتتفتح أمام الدعاة قلوب الناس وأفئدتهم، ويكون الإصلاح الذي يدعو إليه المصلحون، أقرب نجحاً وأكثر سداداً. وأبرز مزايا السيرة النبوية الشريفة هي:
ثبوتها وصحة ما جاء فيها:
إنها أصـح سيـرة لتاريخ نبي مرسـل، أو عظيم مصلح فقد وصلت إلينا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصـح الطـرق العلمية وأقـواها ثبوتاً، مما لايترك مجالاً للشك في وقائعها البارزة وأحداثها الكبرى، ومما ييسر لنا معرفة ما أضيف إليها في العصـور المتأخـرة من أحداث أو معجزات أو وقائع أوحى بها العقل الجاهل الراغب في إضفاء الصفة المدهشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما أراد الله لرسوله أن يكون عليه من جلالة المقام وقدسية الرسالة، وعظمة السيرة.
إن الميـزة مـن صحة السيـرة صحة لا يتطـرق إليها شك لا توجـد في سيرة رسول من رسل الله السابقين، فموسى عليه السلام قد اختلطت عندنا وقائـع سيـرته الصحيحة بما أدخل عليها اليهـود من زيف وتحـريف، و لا نستطيع أن نركـن إلى التوراة الحاضرة لنستخرج منها سيرة صادقة لمـوسى عليه السـلام، فقد أخذ كثير من النقاد الغربيين يشكـون في بعض أسفارها وبعضهم يجزم بأن بعض أسفارها لم يكتب في حياة موسى عليه السلام ولا بعـده بزمـن قريب، وإنما كتب بعد زمـن بعيـد مـن غير أن يعـرف كاتبهـا، وهـذا وحـده كاف للتشكيك في صحـة سيـرة مـوسى عليه السلام كما وردت في التوراة، ولذلك ليس أمام المسلم أن يؤمن بشيء من صحة سيرته إلا ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
ومثـل ذلك يقـال في سيـرة عيسى عليه السـلام، فهذه الأناجيل المعترف بها رسمياً لدى الكنائس المسيحية إنما أقرت في عهـد متـأخـر عـن السيد المسيح بمئات السنينـن، وقد اختيرت بدون مسوغ علمي من بين مئات الأناجيل التي كانت منتشرة في أيدي المسيحيين يومئذ. ثم إن نسبـة هـذه الأناجيـل لكاتبيها لم يثبت عـن طريق علمـي تطمئن النفس إليه، فهي لم تـرو بسند متصل إلى كاتبيها، على أن الخـلاف قد وقع أيضا بين النقـاد الغـربييـن فـي أسمـاء بعض هـؤلاء الكـاتبين من يكونـون؟ وفي أي عصـر كانـوا؟ وإذا كان هذا شأن سير الرسل أصحاب الديانات المنتشرة في العالم، كـان الشك أقـوى في سيـرة أصحاب الديانات والفـلاسفـة الآخـرين الذين يعد أتباعهم بمئات المـلايين في العـالم، كبـوذا وكونفوشيوس، فإن الروايات التـي يتناقلها أتبـاعهم عن سيـرتهـم ليس لها أصل معتبر في نظر البحث العلمي، وإنما يتلقفها الكهـان فيما بينهم، ويزيد فيها كل جيل عن سابقه بما هو من قبيل الأساطير والخرافات التي لا يصدقها العقل النير المتحرر الخالي من التعصب لتلك الديانات.
وهكـذا نجـد أن أصـح سـيـرة وأقـواهـا ثبـوتـاً متـواتـراً هـي سيـرة محمد رسـول الله صلـى الله عليـه وسلـم، فقـد أورد القـرآن الكـريـم صـوراً مـن سـيـرة النبـي صلـى الله عليـه وسلـم عـلـى سـبيـل الإجـمـال، حـيـث أشـار إلـى الحـالـة التـي نـشـأ عـلـيـهـا صـلـى الله عليـه وسـلـم فـي أول حـيـاتـه: {أَلَـمْ يَـجِـدْكَ يَـتِـيـمـاً فَـآوَى * وَوَجَـدَكَ ضَـالًّا فَـهَـدَى * وَوَجَـدَكَ عَـائِـلًا فَـأَغْـنَـى} (سـورة الضحـى، الآيـات: 6 – 8)، ثـم نـزول الـوحـي عـلـيـه: {اقْـرَأْ بِاسْـمِ رَبِّـكَ الَّـذِي خَـلَـقَ * خَـلَـقَ الْإِنـسَـانَ مِـنْ عَـلَـقٍ * اقْـرَأْ وَرَبُّـكَ الْأَكْـرَمُ * الَّـذِي عَـلَّـمَ بِـالْـقَـلَــمِ * عَـلَّـمَ الْإِنـسَـانَ مَـا لَـمْ يَـعْـلَـمْ} (سـورة العلـق، الآيـات: 1 – 5). وبداية دعوتـه: {وَأَنْـذِرْ عَـشِـيـرَتَـكَ الْأَقْـرَبِـيـنَ} (سـورة الشعراء، الآيـة: 214)، ثـم بـعـض أخـلاقـه وشـمـائلـه: {وَ إِنَّـكَ لَـعَـلَـى خُـلُـقٍ عَـظِـيـمٍ} (سـورة القلـم، الآيـة: 4)، {فَـبِـمَـا رَحْـمَـةٍ مِـنَ اللَّهِ لِـنْـتَ لَـهُـمْ وَلَـوْ كُـنْـتَ فَـظّـاً غَـلِـيـظَ الْـقَـلْـبِ لَانْـفَـضُّـوا مِـنْ حَـوْلِـكَ فَـاعْـفُ عَـنْـهُـمْ وَاسْـتَـغْـفِـرْ لَـهُـمْ وَشَـاوِرْهُـمْ فِـي الْأَمْـرِ فَـإِذَا عَـزَمْـتَ فَتَوَكَّلْ عَـلَـى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُـتَوَكِّلِينَ} (سـورة آل عـمـران، الآيــة: 159)، ثـم فـي جـهـاده وغـزواتـه، فـفـي بـدر: {كَـمَـا أَخْـرَجَـكَ رَبُّـكَ مِـنْ بَـيْـتِـكَ بِـالْـحَـقِّ وَ إِنَّ فَـرِيـقـاً مِـنَ الْـمُـؤْمِـنِـيـنَ لَـكَـارِهُـونَ} (سـورة الأنفـال، الآيـة: 5) . و فـي أحـد : {وَإِذْ غَـدَوْتَ مِـنْ أَهْـلِـكَ تُـبَـوِّئُ الْـمُـؤْمِـنِـيـنَ مَـقَـاعِـدَ لِلْـقِـتَـالِ وَاللَّهُ سَـمِـيـعٌ عَـلِـيـمٌ} (سـورة آل عمـران، الآيـة: 121). وفـي الخنـدق : {إِذْجَـاءُوكُـمْ مِـنْ فَـوْقِكُـمْ وَمِـنْ أَسْـفَـلَ مِـنْـكُـمْ وَإِذْ زَاغَـتِ الْأَبْـصَـارُ وَبَـلَـغَـتِ الْـقُـلُـوبُ الْـحَـنَـاجِـرَ وَتَـظُـنُّـونَ بِاللَّهِ الـظُّـنُـونَـا، هُـنَـالِـكَ ابْـتُـلِـيَ الْـمُـؤْمِـنُـونَ وَزُلْـزِلُـوا زِلْـزَالاً شَـدِيـداً} (سـورة الأحـزاب ، الآيتـان : 10 – 11). وفـي حنيـن: {وَيَـوْمَ حُنَيْـنٍ إِذْ أَعْـجَـبَـتْـكُـمْ كَـثْـرَتُـكُـمْ فَـلَـمْ تُـغْـنِ عَـنْـكُـمْ شَـيْـئـاً وَضَـاقَـتْ عَـلَـيْـكُـمُ الْأَرْضُ بِـمَـا رَحُـبَـتْ ثُـمَّ وَلَّـيْـتُـمْ مُـدْبِـرِيـنَ} (سـورة التـوبـة، الآيـة: 25) .
شمولها وكمالها :
فلا تكاد تجد سيرة لنبي من أنبياء الله السابقين وصفت وصفاً دقيقاً ابتداء من ولادتـه حتى وفاتـه و بقيت بعده، فضلاً عن غيـرهم من البشر، لكن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم شملت جميع مراحل حياته، بل وقبل ولادته حتى وفاته عليه الصلاة والسـلام، بـل وفـي بعض أحـداثهـا ذكـر اليـوم والشهـر والسنـة، وشـاملـة لجميـع منـاحـي الحيـاة الإنسـانيـة، فتجـد فيها الوسطية، والعدل والمسـاواة والحـرية، والـرفق بالإنسـان والحيـوان وغيـرها.
إن سيـرة رسـول الله صلـى الله عليـه وسلـم شاملـة لكل النـواحي الإنسانية في الإنسان، فهي تحكي لنا سيرة محمد الشاب الأمين المستقيـم قبل أن يكـرمـه الله بالرسالـة، كما تحكي لنا سيـرة رسول الله الداعية إلى الله المتلمس أجدى الوسائل لقبول دعوته، الباذل منتهى طاقته وجهده فـي إبـلاغ رسالته، كما تحكي لنا سيـرتـه كرئيس دولة يضع لدولته أقوم النظم وأصحها، ويحميها بيقظته وإخلاصه وصدقه بما يكفل لها النجاح، كما تحكـي لنا سيـرة الرسـول الـزوج والأب في حنـو العـاطفـة، وحسـن المعـاملـة، والتمييز الواضح بين الحقوق والواجبات لكل من الزوج والزوجة والأولاد، كما تحكـي لنا سيـرة الـرسـول المـربي المـرشد الذي يشـرف على تربية أصحابه تربية مثالية ينقل فيها من روحه إلى أرواحهم، ومن نفسه إلى نفـوسهـم، مما يجعلهـم يحـاولـون الإقتـداء به في دقيق الأمـور وكبيـرها، كما تحكي لنا سيـرة الرسـول الصـديق الذي يقوم بواجبات الصحبة، ويفي بالتـزامـاتها وآدابها، مما يجعـل أصحابه يحبـونه كحبهم لأنفسهم وأكثر من حبهم لأهليهم وأقربـائهم، وسيرته تحكي لنا سيرة المحارب الشجاع، والـقـائـد الـمـنـتـصـر، والـسـيـاسـي الـنـاجـح، والـجـار الأمـيـن، والـمـعـاهـد الـصـادق.
وقصـارى القـول إن سيـرة رسـول الله صلى الله عليه وسلم شاملـة لجميع النواحي الإنسانية في المجتمع، مما يجعله القدوة الصالحة لكل داعية، وكل قائد، وكل أب، وكل زوج، وكل صديق، وكل مربي، وكل سياسي، وكل رئيس دولة، وهكذا …
ونحـن لا نجـد مثل هذا الشمـول ولا قـريباً منه فيما بقي لنا من سير الرسـل السابقين، ومؤسسي الديانات والفلاسفة المتقـدمين والمتأخرين، فموسى يمثل زعيم الأمة الذي أنقذ أمته من العبودية، ووضع لها من القواعد والمبادئ ما يصلح لها وحدها، ولكننا لا نجد فـي سيـرته ما يجعله قـدوة للمحـاربين، أو المـربين أو السياسيين، أو رؤسـاء الدول أو الآباء، أو الأزواج مثلاً، وعيسى عليه السلام يمثل الداعية الزاهـد الذي غادر الدنيا وهو لا يملك مالاً، ولا داراً، ولا متاعاً، ولكنه في سيرته الموجودة بين أيدي المسيحيين، لا يمثل القائد المحارب، ولا رئيس الـدولـة، ولا الأب، ولا الـزوج -لأنه لم يتـزوج- ولا المشـرع، ولا غير ذلك مما تمثله سيرة محمد صلى الله عليه وسلم. وقل مثل ذلك في بوذا، وكونفـوشيوس، وأرسطو، وأفلاطون، ونابليون، وغيرهم من عظماء التاريخ، فإنهم لا يصلحون للقدوة -إن صلحوا- إلا لناحية واحدة من نواحي الحياة وبـرزوا فيها واشتهـروا بها، والإنسان الوحيد في التاريخ الذي يصلح أن يكون قدوة لجميع الفئات وجميع ذوي المواهب وجميع الناس هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وسطيتها ويسرها:
فدين الإسلام عموماً جاء بالوسطية {وَكَـذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (سورة البقرة ، الآيـة : 143). وقـال الرسـول عليـه الصـلاة والسلام : (يسـروا ولا تعسـروا، وبشـروا ولا تنفـروا) (البخاري عن أنس، ومسلم عن أبي موسى بلفظ (بشرو و لا تنفروا …))، وقـال صـلـى الله عـلـيـه وسـلـم : (إنمـا بـعـثتـم مُيَسِّـريـن ولـم تبعثـوا معسِّـريـن) (صحيح البخاري). وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ عندما بلغه إطالة صلاته بالناس : (يـا معـاذ أفتّـان أنت، أو أفاتن أنت ؟ ثلاث مرات، فلـولا صليت بسبح اسـم ربك الأعلـى، والشمس وضحـاها ، والليل إذا يغشى) (البخاري، ومسلم).
فأمّـة الإسـلام أمـة وسطيـة معتـدلـة، قـال أبـو جعفـرالطبـري: (فـلا هـم أهـل غُلُـوٍّ فيـه، غُلُـوَّ النصـارى الـذيـن غَـلَـوا بالـتـرهـب، وقِيلِهـم فـي عيسـى مـا قالـوا فيـه، ولا هم أهل تقصيـر فيـه، تـقـصـيـر الـيـهود الـذيـن أبـدلـوا كـتـاب الله، وقـتـلـوا أنـبـيـاءهـم، وكـذبـوا ربـهـم، وكـفـروا بـه، ولـكـنـهـم أهـل وسـط واعـتـدال فـيـه فـوصـفـهـم الله بذلك، إذ كان أحب الأمـور إلى الله أوسطها) (التفسير لمحمد بن جرير الطبري).
عدم حشوها بالخوارق:
إن سيـرة محمد صلـى الله عليه وسلـم وحـدها تعطينا الـدليـل الـذي لا ريب فيـه علـى صـدق رسالته ونبـوته، إنها سيرة إنسان كامل سار بدعوته من نصر إلى نصر لا عن طـريق الخـوارق والمعجـزات، بل عن طريـق طبيعي بحت، فلقد دعا فأوذي، وبلغ فأصبح له الأنصار، واضطر إلى الحرب فحارب، وكان حكيماً، موفقاً في قيادته، فما أزفت ساعة وفاته إلا كانت دعوته تلف الجزيرة العربية كلها عـن طريق الإيمـان، لا عـن طريق القهـر والغلبة، ومـن عرف ما كان عليه العرب من عادات وعقائد وما قاوموا به دعوته من شتى أنواع المقاومة حتى تدبير اغتياله، ومن عـرف عدم التكافؤ بينه وبين محاربيه في كل معركة انتصر فيها، ومن عرف قصر المدة التي استغرقتها رسالته حتى وفاته، وهي ثـلاث وعشـرون سنة، أيقن أن محمداً رسول الله حقاً، وأن ما كان يمنحه الله من قوة وثبات وتأثير ونصر ليس إلا لأنه نبي حقاً، وما كان لله أن يؤيد من يكذب عليه هـذا التأييد الفـريد في التاريخ، فسيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم تثبت لنا صدق رسالته عن طريق عقلي بحت، وما وقع له صلى الله عليه وسلم من المعجـزات لم يكن الأسـاس الأول في إيمان العرب بدعوته، بل إنا لا نجد له معجزه آمن معها الكفار المعاندون، على أن المعجزات المادية تكون حجة على من شـاهـدهـا، ومن المـؤكد أن المسلمين الذين لم يـروا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشاهدوا معجزاته، إنما آمنوا بصدق رسالته للأدلة العقلية القاطعة على دعـواه النبوة، ومن هذه الأدلة العقلية القـرآن الكريم، فإنه معجزة عقلية، تلزم كل عاقل منصف أن بصدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة. وهـذا يختلف تماماً عن سير الأنبياء السابقين المحفـوظة لدى أتباعهم، فهي تدلنا على أن الناس إنما آمنـوا بهم لما رأوا على أيديهم من معجـزات وخـوارق، دون أن يحكموا عقولهم في مبادئ دعواتهم فتذعن لها، واوضح مثل لذلك السيد المسيح عليه السلام، فإن الله حكى لنـا فـي القـرآن الكريم أنه جعل الدعامة الأولى في إقناع اليهود بصدق رسالته أنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويشفي المرضى، ويحيي الموتى، وينبئهم بمـا يأكلـون و يدخـرون في بيـوتهم، كل ذلك بإذن الله جل شأنه، والأناجيـل الحاضـرة تروي لنا أن هـذه المعجـزات هي وحدها التي كانت سبباً في إيمان الجمـاهير دفعـة واحدة به، لا على أنه رسـول كما يحكي القـرآن الكريـم، بل على أنه إله وابن إله -حاشا لله من ذلك- والمسيحية بعد المسيح انتشرت بالمعجـزات وخوارق العادات، وفي سفر أعمال الرسل أكبر دليل على ذلك … حتـى ليصـح لنا أن نطلق على المسيحية التي يـؤمـن بها أتبـاعهـا أنهـا ديـن قام على المعجـزات والخـوارق، لا علـى الإقنـاع العقلـي، ومـن هنـا نـرى هـذه الميـزة الـواضحـة في سيـرة الرسـول صلى الله عليه وسلم، أنه مـا آمن بـه واحـد عـن طريـق مشـاهدتـه لمعجـزة خارقـة، بـل عـن اقتنـاع عقلـي وجـدانـي، وإذا كان الله قد أكـرم رسـوله بالمعجزات الخارقة، فما ذلك إلا إكـرامـاً لـه صلـى الله عليه وسلـم وإفحـاماً لمعانديـه المكـابـرين، ومن تتبـع القـرآن الكـريم وجد أنه اعتمد في الإقنـاع على المحـاكمـة العقلية، والمشـاهـدة المحسـوسة لعظيم صنع الله، والمعـرفة التامة بما كان عليه الرسول من أمية تجعل إتيانه بالقرآن الكريم دليلاً على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى في سورة العنكبوت: {وَقَالُـوا لَوْلاَ أُنْـزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَـذِيرٌ مُبِيـنٌ، أَوَ لَـمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَـةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (سورة العنكبوت، الآيـتان: 51 – 52)، ولمـا اشتط كفـار قـريـش في طلب المعجـزات مـن رسـول الله صلى الله عليه وسلـم كمـا كـانت تفعـل الأمـم المـاضية، أمـره الله أن يجيبهم بقوله: {قُـلْ سُبْحَانَ رَبِّـي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَـرًا رَسُـولاً} (سـورة الإسـراء، الآيـة: 93). استمـع إلـى ذلك فـي قـولـه تعـالـى فـي سـورة الإسـراء: {وَقَالُوا لَـنْ نُـؤْمِـنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُـوعاً، أَوْ تَكُـونَ لَكَ جَنَّـةٌ مِـنْ نَخِيـلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّـرَ الأَنْهَـارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفـاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَـةِ قَبِيـلاً، أَوْ يَكُـونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْـرُفٍ أَوْ تَـرْقَى فِـي السَّمَـاءِ وَلَـنْ نُـؤْمِـنَ لِـرُقِّيِكَ حَتَّـى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْـرَأُهُ قُلْ سُبْحَـانَ رَبِّي هَـلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَـرًا رَسُـولاً} (سـورة الإسـراء، الآيـات: 90 – 93).
هكـذا يقـرر القـرآن الكـريـم بصـراحـة ووضـوح أن مـحـمـداً صلـى الله عليـه وسـلـم إنسـان رسـول، وأنـه لا يعتمـد فـي دعـوى الـرسـالـة علـى الخـوارق والمعجـزات، وإنمـا يخـاطـب العـقـول والقـلـوب، {فَـمَـنْ يُـرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْـدِيَـهُ يَـشْـرَحْ صَـدْرَهُ لِلإِسْـلاَمِ} (سورة الأنعام، الآيـة: 125).