المصنفات التي كتبت في حادثة مولد الرسول صلى الله عليه وسلّم

الكتاب الأول: مقدمات في دراسة السيرة النبوية الشريفة
الباب الثاني: تطور الكتابة في السيرة النبوية الشريفة وتأريخها
الفصل الثاني: كتابة السيرة الشاملة والمستقلة وتطورها:
المبحث الرابع: التصنيف المستقل لجوانب السيرة ومفرداتها:
المطلب الثاني: المصنفات التي كتبت في حادثة مولد الرسول صلى الله عليه وسلّم:

أوردت لـنـا كتـب الببليـوغـرافيـا (فهـرسة الكتـب) أسـمـاء مـصـنـفـات عـدة تـنـاولـت حـادثـة الـمـولـد النبـوي باستقـلاليـة وانفصـال عـن بـاقـي الحـوادث الأخـرى. ومـن مـلاحظـة أسمـاء كتّـاب هـذه المصنفـات نجـد أنهـم لا يمتـون بصلـة إلـى القـرون الستـة الأولـى مـن تـأريـخ الإسـلام، وهـذا مـا أشـار إلـيـه السخـاوي فـي تعـداده للمصنفـات التـي كتبـت فـي هـذه الحـادثـة، إذ ذكـر أن كتـابـة هـذه الـمـصـنـفـات قـد حـصـلـت فـي القـرون المتـأخـرة مـن التـأريـخ الإسـلامـي، وهـذا مـا أكـده أحـد البـاحثيـن الـذي انتهـى إلـى القـول : (ألـف الـمـتـأخـرون بالـمـولـد الـشـريـف فجعلـوا فـيـه أسـاطـيـر وجعلـوا فـيـه لـونـاً مـن العبـادة) (مقدمة التحقيق لكتاب مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لابن كثير الدمشقي، لصلاح الدين المنجد)، وقـد بـيـن ابـن خلكـان صـدق هـذه الآراء بـأن حـادثـة الـمـولـد قـد حـصـل الإحتفـال بهـا أول مـرة فـي أواسـط القـرن السـابـع الهجـري واتخـذت سنّـة متبعـة فـي كـل عـام يصنـف فيهـا كتـاب عـن هـذه الحـادثـة، ويقـرأ علـى مسـامـع النـاس مبينـاً تفـاصيـل حـادثـة المـولـد (وفيات الأعيان) .

و لـكـن بـعـض الـمـكـتـبـات احتفظـت بنسـخ خـطـيـة كتـب عليهـا كتـاب (مـولـد النبـي لمحمـد بـن عمـر الـواقـدي (ت 207 هـ) (تأريخ التراث العربي لفؤاد سزكين)، مـع العلـم أن المصـادر التـي ذكـرت المصنفـات التـي كتبهـا الـواقـدي لـم يـرد فيهـا أي ذكـر لهـذا الكتـاب ضمـن قـائمـة مصنفـاتـه (الفهـرست لمحمـد ابـن النـديـم – معجـم الأدبـاء إرشـاد الأريـب إلـى معـرفـة الأديـب ليـاقـوت بـن عبـد الله الحمـوي)، حـفـز هـذا الأمـر عـدد مـن الـبـاحـثـيـن عـلـى الـتـشـكـيـك فـي صـحـة نـسـبـة هـذا المصنـف إلـى الـواقـدي (تأريخ الأدب العربي لكارل برو كلمان – تأريخ التراث العربي لفؤاد سزكين)
ومـن دراسـة هـذا الـكـتـاب نـرى فيـه جـوانـب عـدة تـدفعنـا إلـى القـول بقطعيـة عـدم صـدوره عـن الـواقـدي، وهـذه الجـوانـب هـي:

1 . إن أسـلـوب الـكـتـاب يختلـف تمـامـاً عـن أسـاليـب الكتـب المـدونـة فـي عصـر الـواقـدي، إذ امتـاز أسلـوبـه بـوجـود محسنـات بـديـعـيـة فـي الألـفـاظ ولا سيمـا السجـع، فـمـن ذلك: (قـالـت آمنـة لمـا حملـت بمحمـد صلـى الله عليـه وسلّـم فـي أول شهـر مـن حملـي وهـو شهـر رجـب الأصـم بينمـا أنـا ذات ليلـة فـي لـذة المنـام إذ دخـل عـلـيّ رجـل مليـح الـوجـه طيـب الـرائحـة وأنـواره لائحـة … فقلت لـه مـن أنت؟ فقـال: أنـا آدم أبـو البشـر فقلت لـه: مـا تـريـد؟ قـال: أبشـري يـا آمنـة فـقـد حملت بسيـد البشـر وفخـر ربيعـة ومضـر … ودخـل علـيّ رجـل فقلت لـه: مـن أنت؟ فقـال: أنـا شيـث فقلت لـه: مـا تـريـد؟ فقـال: أبـشـري يـا آمـنـة فـقـد حملـت بـصـاحـب التـأويـل والحـديـث … ودخـل عـلـيّ رجـل فقلت لـه: مـن أنـت؟ فقـال: أنـا إدريـس فقلت لـه: مـا تـريـد؟ قـال: أبشـري يـا آمنـة فقـد حملـت بالنبـي الرئيـس) (مـولـد النبـي لمحمـد بـن عمـر الـواقـدي)، ويضيـف فـي مكـان آخـر مـن الكتـاب واصفـاً فيـه حـالـة الـولادة : (فلمـا ولـد صـاحـب الـنـامـوس وحبيـب الملك القـدوس بـدا فـي حـضـرة كالعـروس بـوجـه يحكـي القمـر نـوراً وشعـراً يحكـي سـواده ديجـوراً … وحـاجـب حـدرت رجـتـه بالـمـسـك تـحـذيـراً وطـرف أسـنـى الـجـمـال بـه قـريـراً) (مـولـد الـنـبـي لمحمـد بـن عـمـر الـواقـدي)
هـذا هـو الأسلـوب الـذي كتب بـه هـذا المصنف الذي قطعت الـدراسـات التـي تنـاولت منـاهـج المـؤرخيـن وأسـاليبهـم بـأن اسـتـعـمـال الـمـحـسـنـات الـبـديـعـيـة لـم تظهـر فـي الكتـابـة العـربيـة بـعـامـة، والتـاريخيـة منهـا بخـاصـة إلا فـي قـرون متـأخـرة (علم التأريخ عند المسلمين لفرانتز روز نثال – دراسات في حضارة الإسلام لجب هاملتون)، مـع الـعـلـم أن إحـدى الـدراسـات قـد تـنـاولـت مـنـهـج الـواقـدي بالـبـحـث، فـكـان الأسـلـوب الـذي وصـفـت بـه كـتـابـات الـواقـدي مختلفـاً تـمـامـاً عـن أسـلـوب هـذا الكتـاب (منهج الواقدي في كتابة المغازي لمحمد فضيل الكبيسي)، فضـلاً عـن هـذا كلـه فـإن هـذا الأسلـوب السجعـي فـي الكتـابـة قـد اتسـم بالإبـتـعـاد عـن الـحـقـائـق والـدقـة، فـإذا التـزم السجـع فـلا بـد مـن إضـافـة جملـة قـد تكـون مجـرد تكـرار قلمـا تعيـن علـى تـوضيـح صـورة الشخصيـة أو الحـادثـة، وبـذلك تـشـغـل حيـزاً واسعـاً ربمـا كـان بالإمكـان تخصيصـه لحقـائـق الأخبـار … وبالإجمـال فـإن استخـدام السجـع إذا كـان قـد أضـفـى إلـى الـكـتـابـة الـتـأريخيـة جـاذبيـة فـي نظـر القـارئ المثقـف فـإنـه لـم يسـاهـم بشـيء فـي تعميـق الفهـم التـأريخـي، كمـا و أن استخـدام السجـع لـم ينتـج شكـلاً جـديـداً فـي جـوهـره مـن أشكـال العـرض التـأريخـي … وبـالتـالـي لـم يكـن السجـع أسلـوبـاً مـلائمـاً فـي بـحـث التـأريـخ بصـورة حيـة) (علم التأريخ عند المسلمين لفرانتز روز نثال).
كـان هـذا الأسـلـوب فـي الكتـابـة نقطـة ضعـف تـسـجـل ضـد صحـة نسبـة هـذا الكتـاب إلـى الـواقـدي لعـدم تـوافـق الأسلـوب مـع العصـر الـذي يـدعّـى كتـابتـه فيـه.

2 . وجـود نمـط شعـري لـم يكـن مـألـوفـاً فـي عـصـر الـواقـدي ظهـر بيـن أوراق هـذا الكتـاب ، إذ وجـدت العـديـد مـن المقطـوعـات الشعـريـة الـتـي يطلـق عليهـا المـدائـح النبـويـة، وهـي مـن الأنمـاط الشعـريـة التـي بـرع فيهـا شعـراء القـرون المتـأخـرة (المدائح النبوية بين الصرصري والبوصيري لمخيمر صالح)

3 . إغـفـال المصـادر الـتـي اعتمـدت علـى مصنفـات الـواقـدي وروايـاتـه فـي السيـرة لأي اقتبـاس أو نـص مـن هـذا الـكـتـاب، مـع الـعـلـم أن الـمـصـادر قـد أجـمـعـت عـلـى أن محمد بـن سعـد كـان أحـد الأربعـة الـذيـن استقـر عنـدهـم علـم الـواقـدي ومصنفـاتـه (تاريخ بغداد لأحمد بن علي الخطيب البغدادي – معجم الأدباء إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب لياقوت بن عبد الله الحمـوي – وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لقاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان)، فـلـم يـورد ابـن سـعـد أي نـص فـي كـتـاب الطبقـات وفـي قسـم الـسـيـرة منـه بـخـاصـة، و لا سيمـا فـي حـادثـة الـمـولـد، بـل نقـل روايـات عـدة عـن الـواقـدي فـي هـذه الحـادثـة لـم تكـن أيـة واحـدة منهـا مـوجـودة فـي هـذا الكتـاب (الطيقات الكبرى لمحمد ابن سعد).
هـذه هـي الأدلـة الـتـي تـغـلـق الـبـاب أمـام كـل الإحـتـمـالات الـتـي قـد تحـاول إثبـات نسبـة هـذا الكتـاب إلـى الـواقـدي. وتـدفعنـا هـذه الأدلـة إلـى القـول إن هـذا الكتـاب مـن نتـاجـات أحـد القصـاصيـن فـي القـرون المتـأخـرة.
تنبـه أحـد البـاحـثـيـن إلـى ظـاهـرة نسبـة بـعـض المصنفـات إلـى الـواقـدي وهـو منهـا بـراء، إذ انتهـى إلـى الـقـول بـعـد أن اسـتـعـرض أحـد الكتـب المنسـوبـة إليـه (فتـوح المغرب) ودحـض هـذه النسبـة بـمـا يلـي: (ولكـن مـؤلفـات الـواقـدي لـم تصـل إلـيـنـا جميعـاً والـذي تـثـبـت نسبتـه إلـيـه هـي مـغـازي الـرسـول، بينمـا يشك فـي أن تكـون فتـوح الشـام لـه بينمـا مـا عـدا ذلك ممـا وصـل إلينـا مستقـلاً أو منقـولاً فـي كتب المتـأخـريـن فيشك فـي أصـالتـه بـل وفـي صحـة نسبتـه إليـه) (فتح العرب للمغرب بين الحقيقة والأسطورة الشعبية لسعد زغلول عبد الحميد).
بـقـي لـنـا أن نـذكـر أن إحـدى الـدراسـات قـد قـالـت إن ابـن دحـيـة الكلبـي هـو صـاحـب أول مصنـف فـي حـادثـة مـولـد الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم (تأريخ الاحتفال بالمولد النبوي لحسن السندوبي)، وسـلـم هـذا المصنـف مـن عـوادي الـدهـر، ولكننـا لـم نستطـع الإطـلاع عليـه لأنـه مـا زال مخطـوطـاً فـي بعـض المكتبـات العـالميـة (معجم ما ألف عن رسول الله صلي الله عليه و سلم لصلاح الدين المنجد) و مـن هـذا نـرى أن الكتـابـات فـي حـادثـة مـولـد الـرسـول صلـى الله عليـه وسلّـم التـي نسبـت لمـؤرخيـن متقـدميـن قـد انتـابهـا بعـض الغمـوض مـن حيـث صحـة نسبتهـا إلـى مـؤلفيهـا، إذ كـان القصـاص بحسـب مـا يصفهـم الصـالحـي قـد اسهمـوا إسهـامـاً فـعـالاً فـي نـشـر أخـبـار حـادثـة الـمـولـد مـن دون تـتـبـع مـنـهـم ودرايـة بـمـا يـقـولـون ومـن ثـم أدرجـهـا المتـأخـرون عنهـم فـي كتبهـم (سبل الهدى و الرشاد في سيرة خير العباد (السيرة الشامية) للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي).

                                                              

عن المدير